باكو: كان السودان هو الآخر على موعد مع ما أُطلق عليه منذ عشر سنوات ربيعًا عربيًا لم يحمل معه إلا شتاءً عاصفًا أدخل عديد الدول التي عانت منه أزمات بعضها نجح في العبور بأمان على غرار ما شهدته مصر والمغرب والأردن والبحرين، وبعضها لا يزال يواجه تحديات سياسية على غرار تونس، وبعضها الثالث دخل في نفق مظلم من الصراع على السلطة على غرار ما تعيشه سوريا وليبيا واليمن اليوم. وبقي السودان نموذجا وسطا بين كل تلك النماذج التي أفرزتها تلك الأحداث إذ إنه يجمع بين الحالتين، حيث يعيش أزمة سياسية تصاحبها تطورات ميدانية بنزول المواطنين إلى الشارع بين الحين والآخر حينما تُغلق الأبواب السياسية بسبب الصراع المستمر بين جناحي النخبة المهيمنة على مقدرات السلطة (العسكري والمدني)، فأضحى النموذج السوداني فريدا بحالته التي تتطلب قراءة مختلفة ورؤى جديدة للتعاطي مع أزمته التي لا تزال تراوح مكانها في كيفية معاونته للخروج منها.
أسباب الأزمة
ويجدر بنا قبل البحث عن رؤى لحلحلة تلك الأزمة أن نقف على أسبابها والعوامل المؤدية إليها، وهنا تتعدد التفسيرات المُقدمة من جانب الباحثين والمحللين، فالبعض يرجع ما آلت إليه الأوضاع في السودان إلى نظرية الدولة العميقة التي خلفها النظام السوداني السابق، وحرص عناصرها على الاحتفاظ بمكتسباتها، وهو ما يدفعهم إلى العمل بشكل مستمر لوضع العصا في دواليب بناء الدولة الجديدة. في حين يرى آخرون أن العامل وراء ما يجري هو ضعف وهشاشة التقاليد الديمقراطية الموجودة نتيجة لحالة تجريف الحياة السياسية التي قام بها النظام السابق، حينما حرص منذ الانقلاب الذي جاء به إلى السلطة في أواخر ثمانينات القرن المنصرم إلى تغييب أية ممارسة ديمقراطية سواء على مستوى العمل السياسي بصفة خاصة أو على مستوى العمل العام على وجه العموم. وفي هاتين الحالتين يتفق أنصارهما على أن ما يعاني منه السودان اليوم هو نتاج طبيعي لما عاشه على مدار ما يزيد على عشرين عاما في ظل نظام سياسي فردي مغلق يتمحور حول شخص الرئيس السابق عمر البشير، الذي أثبتت الحقائق فيما بعد حجم الانحرافات والانتهاكات والتجاوزات التي كان يرتكبها هذا النظام ليس فقط بحق الشعب السوداني وإنما بحق عديد الشعوب، حيث كان لهذا النظام دور فاعل في إثارة الأزمات والمشكلات والقلاقل في بلدانهم.
دور المؤسسة العسكرية
وإلى جانب هذين التفسيرين، يأتي التفسير الثالث الذي يرى أن حالة المراوحة السياسية المزمنة التي يعيشها السودان في هذه الفترة إنما ترجع إلى المناكفات المستمرة بين القوى السياسية المختلفة، والتي عطلت عملية بناء النظام السياسي، بما دفع المؤسسة العسكرية إلى التدخل لإنهاء هذه الأوضاع متكئا على ما لديه من مصادر للقوة تمكنه من ضبط الإيقاع للحفاظ على مقدرات الدولة منعا من الانزلاق نحو المزيد من الأزمات التي يدفع ثمنها المواطن السوداني. وهنا يصبح التساؤل المطروح بشأن ماهية الرؤية التي تحملها المؤسسة العسكرية لمستقبل البلاد: هل تقتصر على مجرد الاحتفاظ بدور الراعي المحايد للعملية السياسية والعمل على ضبط إيقاعها مع إعطاء السياسيين المزيد من الوقت لترتيب أوراقهم وضبط مسارات علاقاتهم، أم تطمع هي في السلطة بعد إخفاق المدنيين؟ صحيح أن التصريحات التي يُدلي بها كل من رئيس مجلس السيادة الانتقالي الفريق عبد الفتاح البرهان، ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي)، تؤكد على الانسحاب من المشهد السياسي، على غرار ما ورد مؤخرا على هامش التقاء كل منهما على حدة، في القصر الرئاسي بالخرطوم في 22 نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي (2022) مع مديري إدارة أفريقيا بالخارجية الفرنسية كريستوف بيغو، والخارجية الألمانية، كريستوف ريتزلاف، حيث أكد عبد الفتاح البرهان على أن: «القوات المسلحة السودانية، ملتزمة بالنأي عن المشاركة في العمل السياسي، وترك الأمر برمته للمكونات السياسية؛ للوصول إلى اتفاق يفضي إلى تشكيل حكومة مدنية انتقالية، وأن القوات المسلحة ستعمل على حماية الانتقال وأمن واستقرار البلاد»، وهو ذات المعنى الذي أكده نائب الرئيس محمد حمدان دقلو (حميدتي) بالتزام المكون العسكري الانسحاب من العمل السياسي وإفساح المجال للمدنيين.
وغني عن القول إن التفسير الأخير الذي يرى أن ما جرى في أكتوبر (تشرين الأول) قبل الماضي (2021) كان راجعا إلى رغبة المؤسسة العسكرية في حماية الدولة من الانزلاق إلى حرب أهلية تزيد من فرص التقسيم والتفتيت التي واجهها السودان أوائل هذا القرن، رغم وجاهته إلا أنه من الصعوبة بمكان الاعتماد عليه فقط في تفسير حالة المراوحة السياسية التي تعيشها السودان اليوم، إذ إن حقيقة الواقع تؤكد على أنه إضافة إلى هذه التفسيرات الثلاثة السابق الإشارة إليها مجتمعة ثمة عامل رابع يجعل الصورة أكثر وضوحا، وهو المتعلق بالخارج ودوره في تعقيد الأوضاع وتصعيدها، إذ لا يخفى على أحد أن السودان في ظل الأوضاع التي أعقبت ثورته أضحى ساحة سهلة أمام اختراق عديد الفواعل الدولية والإقليمية من أجل كسب موطئ قدم في واحدة من أهم الدول الأفريقية سوءا على مستوى موقعها الجيواستراتيجي الذي يُكسبها تشابكا مع جوارها الجغرافي بما يشهده من أزمات وما يعانيه من صراعات، أو على مستوى ما لديها من ثروات وموارد تجذب مزيدا من الأنظار إليه.
وفي خضم كل ما سبق، يصبح من الأهمية بمكان البحث عن مقاربة جديدة تساعد السودانيين على الخروج من أزماتهم والبدء في تدشين مرحلة انتقالية حقيقية لا تُعيد بهم الكَرة إلى الخلف كما حدث مؤخرا عقب الإخفاق الذي انتاب مرحلة ما بعد الثورة. صحيح أن رد الفعل الدولي على مستوى الولايات المتحدة والدول الأوروبية والمنظمات الدولية كان رافضا لما جرى، متخذا قرارات صارمة في التعامل مع النظام السوداني، إلا أنه من الصحيح أيضا أن القضية ليست مجرد عقوبات أو جزاءات تُوقع على السودان، لأن الخاسر الأول من هذه الجزاءات وتلك العقوبات هو الشعب السوداني الذي يئن تحت وطأة الفقر والجوع والعوز، إضافة إلى وطأة النزاع المسلح الذي يهدد الأمن والاستقرار ويُؤلب الصراع القبائلي والمناطقي مرة أخرى، بما ينذر بدخول البلاد في أتون حرب أهلية لا يعلم أحد مداها ولا كيفية الخروج منها.
توافق داخلي وانغماس خارجي
وعليه، تأتي المقاربة المطروحة لتنطلق من مرتكزين رئيسيين: الأول، أهمية التوافق الداخلي بين الأطراف السياسية السودانية كافة، إذ تدرك جيدا قوى الحرية والتغيير أنها ليست القوى السياسية الممثلة الوحيدة للشعب السوداني، بما يعني أن ثمة قوى سياسية أخرى موجودة في ساحة العمل السياسي ولديها حضور فاعل على الأرض، سواء كان قادة هذه القوى في الداخل أم الخارج، ولعل عودة الزعيم الديني والسياسي، محمد عثمان الميرغني، بعد غياب قرابة 10 أعوام قضاها في مصر، وحجم الاستقبال الحاشد له من جانب أنصاره يؤكد على صحة هذا القول بأن أي فعل سياسي مقترح يجب أن يأخذ في اعتباره هذا الواقع الذي يضم عديد الفواعل السياسية النشطة، ولعل ما جاء في تصريحات عبد الفتاح البرهان في نفيه أن يكون المجلس قد أبرم اتفاقا ثنائيا مع أي طرف، ليؤكد على أهمية مراعاة حجم التباينات بين القوى السودانية وضرورة العمل على تجسير الفجوة المتزايدة بينهم، إذ يمثل هذا التجسير والتوافق حجر الأساس نحو الانطلاق لبناء توافقات داخلية بشأن عديد القضايا التأسيسية بدءا من الدستور الانتقالي ومدة المرحلة الانتقالية وشكل إدارة الدولة في هذه المرحلة، وصولا إلى الدستور الدائم والمرحلة النهائية من استعادة السودان لترتيب أوضاعه. أما المرتكز الثاني فيتعلق بأهمية أن يكون للأطراف الخارجية المنغمسة في الشأن السوداني سواء على المستوى الرسمي والذي تمثله الآلية الدولية الثلاثية (المكونة من بعثة الأمم المتحدة يونتامس، والاتحاد الأفريقي، والهيئة الحكومية للتنمية في أفريقيا إيقاد) والمعنية بحل أزمة الحكم بين العسكريين والمدنيين، أو على المستوى غير الرسمي من خلال التشابكات التي تجرى بين بعض الأطراف الخارجية وحلفائها من الداخل السوداني، أن يكون لها دور حاسم في معاونة الأطراف الداخلية على بناء تفاهماتهم للتوصل إلى اتفاق يعيد الأمور إلى نقطة مشتركة للانطلاق في بناء النظام السياسي القادر على استيعاب الأطراف السودانية كافة وإلا تحول هذا العامل إلى معوق ومعرقل لأية ترتيبات جادة تخرج البلاد من أزمتها.
منتهى القول، إن الأزمة السودانية بتعقيداتها الداخلية وتشابكاتها الخارجية ستظل تراوح مكانها بين إخفاق مستمر وتصعيد متكرر، وذلك في ظل تنافس الأطراف الخارجية على تحقيق المكاسب والتواجد على الأرض السودانية سواء بشكل مباشر من خلال وضع القواعد العسكرية وتأسيس الوكالات التابعة أو بشكل غير مباشر من خلال التنسيق مع الأطراف الداخلية السياسية والقبائلية بما يساعدها على عرقلة أية جهود تُبذل في سبيل التوصل إلى اتفاقات وتفاهمات ترتب الأوضاع الداخلية بما قد لا يتفق مع مصالح هذا الطرف أو ذاك. وتلك هي آفة الدولة السودانية في المرحلة الراهنة، بل هي آفة مختلف الدول التي تتصارع قواها السياسية وتكويناتها المجتمعية على المغانم السياسية مستعينين بأطراف خارجية، ومتناسين مسؤوليتهم تجاه وطنهم وأهلهم لإنقاذهم من براثن حروب داخلية يحصد منها الخارج مصالحه، ويفقد فيها الداخل أمنه واستقراره، فهل يفيق الشعب السوداني على تلك الحقيقة قبل فوات الأوان؟