القاهرة: إذا كان 2022 عام اختبار أوكرانيا بالنار، فإنه بالقدر نفسه عام نهاية «ألمانيا القديمة».
عاشت ألمانيا طوال القرن العشرين تحولات ربما لم تشهدها أمة في الغرب من إمبراطورية تأسست عام 1871 لتنهار قبل أن يكمل عمرها نصف قرن، لتحل محلها عام 1914 جمهورية سرعان ما انفجرت في 1933 في وجه العالم كله، عندما وصل إدولف هتلر إلى السلطة ليشيد أحد أكبر النظم الشمولية في التاريخ الحديث. انتقلت ألمانيا من التشرذم إلى الوحدة مع ميلاد الإمبراطورية لتجد بريطانيا وفرنسا تتقاسمان الجزء الأكبر من العالم في تنافس امتد من أقصى العالم إلى أقصاه، فقرر هتلر بناء إمبراطورية ألمانيا الاستعمارية في قلب أوروبا، ومن الحقائق المثيرة للدهشة أن العام 2003 شهد أول طبعة كاملة من الجزء الثاني من كتابه «كفاحي»ـ وفي الكتاب الذي نشر للمرة الأولى عام 1961 بقي جزء منه محظورًا، وكانت المفاجأة الأكبر في الكتاب الذي كتب عام 1928- أي قبل وصول هتلر للسلطة- أن الزعيم الذي احتل أوروبا كلها تقريبًا كان يعتبر أن عدوه الرئيسي أميركا!
فهل جنت كراهية أميركا على ألمانيا مرة أخرى في القرن الحادي والعشرين؟
وما الذي غيرته حرب أوكرانيا في ألمانيا حتى بدا العام 2022 عام توديع «ألمانيا القديمة»؟!
مفارقات الهيمنة والاحتياج
قبل رسم ملامح صورة ألمانيا الجديدة التي بات شبه مؤكد أنها ستنبعث من رماد حرب أوكرانيا، من المفيد استحضار عدة لحظات مفصلية في تاريخ العلاقة بين شاطئي الأطلسي خلال القرن العشرين، ففي الحرب العالمية الأولى كان الصراع أوروبيًا بامتياز، ولم تسهم أميركا مطلقًا في اندلاع الحرب، بل كانت في عزلة عن الصراعات الأوروبية، لكن تدخلها المتأخر في الحرب- 1917- هو ما حسمها فعليًا. فبعد إعادة انتخاب وودرو ويلسون رئيسًا في نوفمبر (تشرين الثاني) 1916 دعا إلى انخراط أميركا في الحرب ضد الإمبراطورية الألمانية قائلًا: «يجب جَعلُ العالم آمنًا للحفاظ على الديمقراطية». وفي الحرب العالمية الثانية شكل الهجوم الياباني على بيرل هاربر الأميركي سببًا لبدء حرب أميركية/ يابانية، لكن أميركا قررت أن تكون جزءًا من معسكر الحلفاء وخاضت معارك في أوروبا كما خاضت معركتها ضد اليابان، فأسهمت بالنصيب الأكبر من عوامل انتصار الحلفاء.
وعند النظر إلى موقع ألمانيا من هذا الصراع التاريخي الطويل متعدد الحلقات، نجد أنها بانتهاء الحرب العالمية الثانية وجدت نفسها تحت احتلال متعدد الأطراف، سرعان ما أصبح احتلالًا أميركيًا (لألمانيا الغربية)، وهو احتلال غيَّر ألمانيا مرة أخرى تغييرًا جذريًا، لتولد «ألمانيا الجديدة». وضع الأميركان لألمانيا جعلها بحسب تعبير المستشار جيرهارد شرودر «ليست علمانية بل تطبق القوانين المدنية»، وهي مشبعة بـ«مفاهيم اليهودية المسيحية»، واقتصادًا بني في المقام الأول بفضل التمويل الأميركي السخي لـ«مشروع مارشال»، فابتعدت لعدة عقود عن النموذج الأوروبي الكلاسيكي المؤسَس على قيم «التنوير الفرنسي». واليوم مع حرب أوكرانيا تتغير ألمانيا من جديد، لكن باتجاه ملامح سياسية واقتصادية وثقافية جديدة، وفيما يتصل بما هو سياسي، تتحرك ألمانيا بشكل ملحوظ باتجاه: التقارب الطوعي مع أميركا!
ومع كل خطوة كان يخطوها اليسار الأوروبي نحو مشروع الوحدة الأوروبية كانت القارة كلها تتنازعها دوافعها القوية إلى الاستمرار في الارتباط بأميركا- على مستوى المصالح والقيم معًا- ودوافع مناقضة، تغذيها فرنسا في المقام الأول، تدفعها إلى تأكيد «أوروبيتها»، واختلافها عن أميركا، وأسهمت الرغبة في الابتعاد عما سماه اليسار الأوروبي: «الهيمنة الأميركية»، في بناء تصور للمصالح يخدم الرغبة في الابتعاد، ومن هذه الثغرة- ذات الأساس الآيديولوجي- دخلت روسيا والصين حتى التف حبل «نورد ستريم 1 و2» حول عنق أوروبا، وكانت ألمانيا أول المستهدفين، وكانت الأكثر استجابة لضرورة المراجعة والتفكير في «الاحتياج إلى أميركا» بدلًا من الاستمرار في ترديد مقولة: «الهيمنة الأميركية».
إعادة بناء السردية
في 24 أغسطس (آب) عنونت «دويتشة فيلله» أحد تقاريرها بعبارة: «هكذا تغيرت ألمانيا جذريا بفعل حرب أوكرانيا!»، حيث أدى الغزو إلى زعزعة «غير مسبوقة للعقيدة السياسية لألمانيا التي تأسست بعد الحرب العالمية الثانية. كما حطم عددا من القناعات السياسية، مؤكدا على الحاجة لتغيير سريع وجذري لبوصلة برلين في عالم متحرك». و«تسببت حربان عالميتان ودكتاتوريتان خلال القرن العشرين في كسر الثقة بين المجتمع الألماني وكل ما له علاقة بالعسكر»، وبالتالي لم يكن الجنود بزيهم العسكري جزءًا من المشهد العام، وفي هذا السياق، هناك «تحول جذري. فبسبب الحرب في أوكرانيا بدأت ألمانيا في تطبيع العلاقة مع جيشها، استعدادا للصراعات المستقبلية».
وإحدى النتائج الكبرى- المباشرة- للحرب الأوكرانية إعادة بناء سردية العلاقة متعددة الأطراف بين أميركا وأوروبا وروسيا (ومعها الصين بالطبع). في عهدي غيرهارد شرودر (1998-2005) وأنجيلا ميركل (2005-2021) أدى سوء التقدير إلى سياسة أمنية متهورة. وتصف مؤسسةGeopolitical Intelligence Services الأوروبية خطاب المستشار أولاف شولتز في البوندستاغ في 27 فبراير (شباط) 2022 بأنه «حدث فاصل في تاريخ ألمانيا»، حيث تحدث عن «نقطة تحول» أحدثها غزو أوكرانيا. وقد قال الزعيم الألماني: «العالم لن يعود كما كان من قبل».. و«من الآن فصاعدًا، لن تعود الدولة التي يبلغ تعداد سكانها 83 مليون نسمة، والتي تمتلك أكبر اقتصاد في أوروبا، تعهد بأمنها إلى الولايات المتحدة وحدها، وإمدادات الطاقة إلى روسيا ونموها الاقتصادي للصادرات إلى الصين». و«التغيير المطلوب هائل». وسيعتمد التطور المستقبلي للسياسات الألمانية إلى حد كبير على كيفية تفاعل المجتمع الألماني مع عواقب سياسة الطاقة الفاشلة.
وقد بدأت وقائع «السردية القديمة» في ذروة الحرب الباردة عندما بدأ الاتحاد السوفياتي شراء الأنابيب من ألمانيا لبناء خطوط لنقل النفط والغاز، لكن إدارة الرئيس الأميركي جون كينيدي تمكنت من حظر صادرات الأنابيب الألمانية، وبعد رفع العقوبات في عام 1966، وقّع البلدان اتفاقا تاريخيًا: «الأنابيب مقابل الغاز». وحصلت ألمانيا على الغاز. وفي 1973 تلقت ألمانيا أول وارداتها النفطية الروسية، وعند انهياره كان الاتحاد السوفياتي مصدرًا لنحو نصف واردات ألمانيا الغربية من الغاز. وفي ثمانينات القرن الماضي حذر الرئيس الأميركي السابق رونالد ريغان من مخاطر اعتماد أوروبا- وبخاصة ألمانيا- على الغاز الروسي، وجرت وقائع المشهد الأخير في «السردية القديمة» في 21 يوليو (تموز) 2021 عندما أعلن رسميًا عن توصل برلين وواشنطن لاتفاق حول «نورد ستريم 2»، المثير للجدل. وتضمن الاتفاق إمكانية فرض عقوبات على روسيا الدبلوماسية الأميركية فيكتوريا نولاند: «إذا حاولت روسيا استخدام الطاقة كسلاح أو لارتكاب أعمال عدوانية أخرى ضد أوكرانيا، فإن ألمانيا تلتزم، في هذا الاتفاق معنا، باتخاذ تدابير على المستوى الوطني والضغط من أجل اتخاذ تدابير فعالة على المستوى الأوروبي، بما في ذلك عقوبات، لحصر قدرات التصدير الروسية نحو أوروبا في قطاع الطاقة». وكان المشروع قوبل بمعارضة شديدة من أوكرانيا، وكانت واشنطن وكييف تتخوفان من أن تحول طريق الغاز بعيدًا عن أوكرانيا سيحرمها من مليارات الدولارات من رسوم العبور وسيزيل رادعًا يمنع روسيا من غزو أوكرانيا. وفي حقيقة الأمر كان الاتفاق الأميركي الألماني الحل الممكن، وبحسب نولاند «كنا عام 2016 في طريقنا إلى وقف مشروع خط الأنابيب. عندما تولت إدارة بايدن السلطة بعد أربع سنوات، كان خط الأنابيب هذا قد أصبح مكتملًا بنسبة 90 في المائة».
قصة اختراق روسي
أحد الجوانب الأكثر خطورة في إعادة بناء هذه السردية ما كشفت عنه صحيفة «واشنطن بوست» الأميركية (23 نوفمبر)، وتكشف الصحيفة عن معطيات خطيرة في قصة الفخ الروسي الذي كانت أميركا تحذر منه لسنوات. ففي 2020 تسببت عقوبات إدارة ترامب على خط الأنابيب شبه المبني تحت بحر البلطيق في توقف العمل في المشروع. وكان الحل أقرب إلى المؤامرة الاستخباراتية المحكمة، إذ أنشأت ولاية مكلنبورغ/ فوربومرن الألمانية، مؤسسة مناخية مبهمة تبين لاحقًا أن معظم تمويلها روسي لإكمال بناء خط الأنابيب، وهو ما وفر حماية الشركات التي تعاقدت معها من العقوبات الأميركية. «كان المتوقع أن العقوبات الأميركية لن تطال كيانًا حكوميًا ألمانيًا، وأن المؤسسة ستعمل بهدوء كمقاول لخط الأنابيب مع الحفاظ على واجهة عامة تركز على القضايا البيئية». وبعد غزو أوكرانيا، أصبحت مؤسسة حماية المناخ والبيئة رمزًا للكيفية التي تسبب بها نهم ألمانيا للغاز الطبيعي إلى علاقة تبعية غامضة مع موسكو. كانت المؤسسة مجرد ترس واحد في شبكة نفوذ روسية واسعة في ألمانيا، توسعت جنبًا إلى جنب مع اعتماد البلاد المتزايد على الغاز. ومن العبارات الصادمة في ما نشرته «واشنطن بوست» أن «بعض كبار السياسيين الألمان السابقين، ومراكز الفكر ومؤسسات وأندية رياضية ومنظمات ثقافية في جميع أنحاء البلاد، كانوا غارقين في الأموال الروسية».
ويلخص باحث في منظمة الشفافية الدولية ما كان خافيًا في قصة الغاز الروسي بقوله: «اليوم، بعد فوات الأوان، من الصعب أن نرى كيف وصلنا إلى هنا وكيف تم تجاهل التحذيرات لفترة طويلة». ومسؤولون في الولاية الألمانية قالوا إن المؤسسة البيئية التي يفترض أنها مستقلة تلقت 20 مليون يورو من غازبروم. وبموجب أمر قضائي كشفت الشركة عن وثائق رفعت الرقم الإجمالي للتمويل الروسي إلى ما يقرب من 200 مليون يورو، وهي ميزانيتها بالكامل تقريبًا وتم استخدام معظمها لإكمال خط الغاز. والعلاقة بين الولاية ونورد ستريم وغازبروم هي الآن موضوع تحقيق في برلمان الولاية، وأثارت الاتهامات بانعدام الشفافية في التحقيق تساؤلات حول ما إذا كانت ألمانيا مستعدة للتعامل مع مدى عمق النفوذ الروسي»!
تغير القيم والأفكار والديموغرافيا
أحد التغيرات الكبيرة التي تمثل منعطفًا في طريق ميلاد «ألمانيا الجديدة» تشريع سيعاقب على إنكار جرائم الحرب والإبادة الجماعية، ومنذ الحرب العالمية الثانية كانت «حرية التعبير» أحد الملامح الرئيسية للمشهد العام في ألمانيا، سياسيًا وثقافيًا، وكان تجريم «إنكار الهولوكوست» في هذا السياق استثناءً، وبسبب هذه الطبيعة الاستثنائية لم يتوقع أحد أن تشهد ألمانيا سن عقوبات مماثلة لأية قضايا أخرى، لكن حرب أوكرانيا غيرت القاعدة وأضافت إلى الاستثناء الوحيد استثناءات أخرى في بلد لم تكد تنفض عن نفسها غبار معركتها في الدفاع عن الشواذ/ المثليين. التعديل القانوني: «يعاقب على إنكار جرائم الحرب والإبادة الجماعية الأخرى أينما وفي أي زمان وقعت، وسينطبق ذلك على إنكار الفظائع المرتكبة في حرب أوكرانيا». ويشير هذا إلى حقبة- ربما تطول- تمتد فيها مظلة «الصوابية السياسية» لتقلص فضاء حرية التعبير. تقرير لموقع «دويتشة فيلله» يصف جانبًا من السجال الذي من الطبيعي أن ينجم عن مثل هذه التغييرات الكبيرة بالقول إن منتقدين يؤكدون أن التعديل يقيد «حرية التعبير دون مبررات».
وأحد التغييرات الكبيرة التي سترسم ملامح «ألمانيا الجديدة» إحصاءات صادمة عن أن سوق التوظيف ستفقد 7 ملايين عامل- أي سُبع سوق العمل- في العقد المقبل، حيث كشفت دراسة حديثة (نشرت نتائجها في 21 نوفمبر 2022) أجراها المعهد الألماني لبحوث السوق والتوظيف أن سوق العمل ستفقد هذه القوة العاملة لأسباب ديموغرافية بحلول عام 2035. والسبب الرئيسي أن العديد من موظفي ما يسمى: «سنوات طفرة المواليد» سيتقاعدون قريبًا. وأشارت الدراسة إلى إمكان حل المشكلة أو تخفيف حدتها بـ«الهجرة المستهدفة». لكن المزيد من المهاجرين في بلد تتصاعد فيه موجات كراهية الأجانب يعد مشكلة سياسية شديدة التعقيد، حيث يأتي المهاجرون بأديانهم وثقافاتهم وأنماط حياتهم فتنتعش التيارات العنصرية.
أحد التغيرات المهمة أيضًا سببها تحولات في نظرة الأجيال الجديدة من الألمان إلى «قيمة العمل» نفسها، فلطالما نُظر إلى الألمان بوصفهم شعبًا محبًا للعمل، لكن استطلاعًا حديثًا (نشرت نتائجه في 27 سبتمبر/ أيلول 2022) أجراه معهد يوغوف لقياس مؤشرات الرأي أكد أن حوالي نصف الموظفين (48 في المائة) أنهم يتمنون التحول إلى العمل بدوام جزئي، وذكر 56 في المائة ممن شملهم الاستطلاع أنهم لو اعتمدوا على الراتب لتركوا العمل فورًا، وقال 58 في المائة فقط ممن تقل أعمارهم عن 25 عامًا «إنهم لا يستطيعون تخيّل الحياة دون وظيفة»، بينما كانت تبلغ نسبتهم عام 2020 نحو 69 في المائة.
«رجل أوروبا المريض»
في تحليل نشرته وكالة «بلومبرغ» للأنباء استُخدم تعبير «رجل أوروبا المريض» الذي كان يستخدم للإشارة إلى فترة خريف الدولة العثمانية، للإشارة إلى ألمانيا «في ظل تعثر السياسات التي كانت وراء قوة عمل المصانع الألمانية»، وتشكل الصناعة مصدرًا لنحو 25 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي. واعتماد ألمانيا الكثيف على التصنيع يجعلها أكثر عرضة للتأثر بالاضطرابات المتعلقة بالحرب، و«ألمانيا في وضع اقتصادي كارثي.. وهناك ما يبرر تماماً المخاوف بشأن مستقبلها». ويربط خبراء اقتصاديون كثيرون بين الأزمة والاعتماد المفرط على الغاز الروسي، فقد كثفت أنجيلا ميركل وسلفها غيرهارد شرودر الاعتماد على الطاقة الرخيصة من روسيا، و«الآن هناك ثمن باهظ ينبغي دفعه». على الجانب الآخر، ثمة مخاوف متصاعدة من هجرة صناعات ألمانية هامة وحيوية إلى الخارج، وبخاصة إلى أميركا وحذر اتحاد غرف الصناعة والتجارة الألمانية عبر مسح أجراه مؤخرًا من أن 39 في المائة من الشركات الألمانية تتوجه في الوقت الحالي إلى زيادة استثماراتها في أميركا على حساب الاستثمار في بلدها الأم وأوروبا.