دانيال كريغ ودّع جيمس بوند

دانيال كريغ

دانيال كريغ ودّع جيمس بوند

لندن: يحلق الممثل دانيال كريغ عالياً مرّة أخرى لكن ليس كجيمس بوند بل مثل بنوا بلانك. ومن هو بنوا بلانك؟ هو التحري الذكي الذي يدخل شبكة من المتاهات بعد ارتكاب جريمة قتل ليحل غموضها ويعرف من هو القاتل الذي ارتكب الجريمة. في واقع الأمر ليس القاتل وحده هو الذي ارتكب الجريمة بل اشترك فيها، على نحو غير مباشر، آخرون. دور التحري بونوا هو إماطة اللثام عما يحاول هؤلاء إخفاءه.
الفيلم هو «غلاس أونيون» (لغز سكاكين مشرعة)، والمخرج هو رايان جونسون الذي قدّم فيلماً أول تحت عنوان «Knives Out» قبل أربع سنوات. نجاح ذلك الجزء جعل من المحتوم إعادة الكرّة في فيلم جديد وقضية أخرى للتحري الآتي من جنوب الولايات المتحدة إلى جزيرة يملكها الملياردير مايلز برون (إدوارد نورتُن) الذي يُقيم حفلة ساهرة بحضور عدد كبير من الشخصيات تقع فيها جريمة القتل.‬

من فيلمه الجديد «غلاس أونيون- لغز سكاكين مشرعة»

على خطى الماضي
في الماضي كان الأدب البوليسي يستعين بهركل بوارو كما رسمت شخصيّته أغاثا كريستي أو بالكابتن ماغريه كما وضعه جورج سيمنون وإن لم يكن هذا أو ذاك فإن الاختيار يقع على شرلوك هولمز لمؤلّفه آرثر كونان دويل. وكانت هناك خيارات كثيرة عبر التاريخ لتحريين يقومون بمهامهم على خير وجه (وبكثير من سذاجة النصوص) من بينهم تشارلي تشان ومستر موتو. آسيويان يعيشان في أميركا دارت الحكايات حول براعتهما في التحقيق ومساعدة البوليس واكتشاف القاتل من بين شخصيات عدّة. طبعاً كل منهما على حدة بمعنى أنه كانت هناك سلسلة أفلام منفصلة لكل شخصية وذلك في الثلاثينات والأربعينات من القرن الماضي.
الآن لدينا بونوا وهو لا يقل ذكاء ومقدرة عن أفضل ما تم إطلاقه من شخصيات في هذا النطاق. عليه هنا، كما كان عليه في الجزء السابق سنة 2019، صرح الأسئلة. سماع الأجوبة وتحليلها  ثم النطق بالحكم.
الحكاية تبدأ كلعبة بوليسية. مايلز دعا إلى تلك الحفلة التي تُقام في قصره المسمى «بطلة زجاجية»، وفي البال تسلية مدعويه إلى لعبة حول جريمة مُمثّلة. الدعابة تتحوّل إلى جريمة فعلية يدّعي مايلز أنه لم يخطط لها وقد يكون على حق. أما بونوا فهو لم يكن من بين المدعوّين لكنه يصل باليخت إلى الجزيرة حاملاً ابتسامة عريضة. ما على مايلز إلا أن يقبل بوجوده وحسناً فعل... اللغز يحتاج لمن يفك أسراره.
شخصية بونوا بلانك تختلف، بالنسبة لدانيال كريغ، شخصية جيمس بوند التي مثّلها في خمسة أفلام متعاقبة.
كريغ خلف بيرس بروسنان الذي لعب الدور أربع مرّات من العام 1995 إلى العام 2002. بحث المنتجون عمّن يصلح ليجسّد الدور قادهم إلى دانيال كريغ  الذي قام بأداء الدور بفاعلية جيدة في العام 2006 بفيلم Casino Royale.  ثم تبعه بـ Quantum of Solace وSkyfall  ثم Spectre وفي النهاية Np Time to Die  في العام الماضي.
هذا الفيلم الأخير هو آخر أفلام بوند حيث البحث جار الآن عن سيناريو جيد وممثل يخلف كريغ ويمضي ببوند صوب السنوات المقبلة.
كان كريغ  أحد أنجح من لعب الدور بدلالة عدد الأفلام التي مثلها تحت سماء هذه الشخصية. شون كونيري لعبها من العام 1962 إلى سنة 1971 ست مرّات بدأت بفيلم «دكتور نو»، 1962، وانتهت بفيلم «الماس للأبد». لكنه عاد إلى حاضنة بوند في فيلم من خارج السلسلة الرسمية بعنوان «أبداً لا تقل أبداً» وذلك في العام 1983.‬
روجر مور بدأ جولته في سنة 1973 بفيلم «عش ودع الموت»، ومثّل سبعة أفلام آخرها «منظر للقتل» ثم ترك الدور سنة 1985 ليخلفه تيموثي دالتون (فيلمان فقط) وبيرس بروسنان (أربعة) وصولاً إلى دانيال كريغ كما تقدّم. وحتى يكتمل هذا الموجز من التاريخ هناك ممثل واحد لعب الدور مرّة واحدة هو (الأسترالي) جورج لازنبي.

مع أنجلينا جولي في «لارا كروفت»

التجربة البوندية
لكن كريغ أكثر من مجرد ممثل نجح في أفلام بوند التي قام ببطولتها وينجح الآن في مسلسله الجديد.
وُلد في مدينة شستر البريطانية سنة 1968 ودرس المسرح والدراما شاباً. قبل ذلك كان أدرك حبه للتمثيل عندما أخذ يمثّل على خشبة المسرح في المدرسة. والدته شهدت على حبه للتمثيل ودفعته لدراسته.
في سن الرابعة والعشرين ظهر لأول مرّة في السينما عبر دور قصير في  فيلم مر عاجلاً بعنوان « The Power of One » تبعه بعدد من الأدوار الثانوية وصولاً إلى الفيلم العاطفي «Obsession » سنة 1997 حيث شارك في البطولة لاعباً شخصية شاب يقع في حب المرأة التي يحبها أقرب أصدقائه إليه.
وقع في الحب ثانية في فيلم عنوانه «Some Voices » لاعباً هنا شخصية مريض نفسي يحول مرضه دون الوصول إلى من يحب. لكن معظم (إن لم يكن كل) ما مثله كريغ من أفلام قبل العام 2001 وعددها 12 فيلماً من أفلام، مرّ دون أن يلفت الاهتمام. هذا تغيّر مع اشتراكه في بطولة أمام جوليانا جولي. في العام التالي كان أحد ممثلي فيلم «Road to Perdition » أمام توم هانكس للبريطاني سام مندس.‬
واصل كريغ طريقه بعناد بعد ذلك فظهر في أحد عشر فيلماً آخر قبل أن يقع عليه اختيار منتجي سلسلة جيمس بوند لكي يقود «كازينو رويال» في العام 2006.
«كازينو رويال» (2006) هو ثاني معالجة سينمائية لرواية إيان فليمنغ بالعنوان ذاته. الأولى كانت الأولى أيضاً بالنسبة لروايات المؤلف وتم تحقيقها فيلماً سنة 1967 من إخراج البريطاني ڤال غَست ومن بطولة ديفيد نيفن في دور بوند مع أدوار أخرى لبيتر سلرز وأورسن وَلز وأرسولا زندرس.
لكن النسخة التي أخرجها الجيد مارتن كامبل والتي وضعت دانيال كريغ في دور بوند لأول المرّة تختلف لا عن النسخة الأولى فقط بل عن العديد من أفلام بوند ذاتها. لا يبحث الفيلم مثلاً، عن تلميع صورة بوند لا في مقدّمة الفيلم (حيث يقتل بوند رجلاً بدم بارد) ولا بعد حين عندما يطارد عدوا له داخل سفارة ليقتله وآخرين. ليس هو بوند السابق حين يتفحم منزل رئيسته (جودي دنش) ليفرض عليها ما يخطط له من مهام عوض أن يتلقاها منها. بوند في ذلك الفيلم ليس المحترف الجريء بل المحترف المتهوّر.

أول مرّة بوند: «كازينو رويال»

أفلامه الأولى
معظم الأحداث تدور في رحى محاولة بوند النيل من المقامر المحترف لاشيفر (ماس ميكلسن) الذي يحاول جمع ثروة على المائدة يدفعها لمجموعة إرهابية (غير محددة). بوند يقدّم نفسه على أنه لاعب بوكر من طراز أوّل والفترة الوحيدة التي يهدأ فيها إيقاع الفيلم هي ذلك الجزء من الأحداث التي تقع حول طاولة القمار. بوند يخسر كميّة كبيرة من المال ولاشيفر ينجح في تخديره وإبعاده، ثم يرسل من يقضي عليه، لكنه يعود ويكمل اللعب ويفوز ما يفضي به بعد ذلك إلى مشهد تعذيب حيث يضعه لاشيفر مربوطاً وعارياً تماماً فوق كرسي بلا مقعد ثم يبدأ بضربه على قفاه وأعضائه التحتية. شيء لا تراه في أي بوند آخر. ومع أن بوند ينجو من سجنه في الوقت المناسب إلا أنه ينتهي في المستشفى مع تساؤلات فيما إذا كان حُرم من رجولته باكراً أو لا، أيضاً أمر غير مطروق من قبل خصوصاً وأن طريقة الطرح تؤكد أن ذلك أمر واقع ولو إلى حين.
أطلق «كازينو رويال» يد دانيال كريغ فأخذ يختار الأفلام التي يود القيام ببطولتها على أساس من قيمة كل منها بالنسبة لموقعه الجديد كنجم معروف. لم يحسن الاختيار فظهر في أفلام مخفقة تجارياً و- بعضها- فنياً، من بينها «The Invasion » الذي لم يلق نجاحاً، لكنه مسؤول عن سرعة ولوجه أفلام المغامرات الفانتازية المنتمية إلى حقل مختلف تماماً عن أفلام بوند مثل «The Golden Compass » سنة 2007. فيلم آخر سقط له هو «Flashbacks of a Fool » في العام 2008 وهو العام ذاته الذي عاد فيه كريغ ليلعب بطولة فيلمه البوندي الثاني (Quantum of Solace)، هذا أخرجه مارك فورستر بفاعلية.
صاحب هذا الفيلم ضجّة خلال تحقيقه إذ كان اختيار المنتجين مايكل ولسون وباربرا بروكولي (Broccoli) على البريطاني داني بويل (Slumdog Millionaire) الذي أراد تحويل بوند إلى شخصية معاصرة تتمتع بالعاطفة الصادقة والخلق الطيّب والاعتراف بالجنس الآخر ليس كمساند أو عدو بل كشخصية مناصفة. رفض المنتجان هذا التوجه وعليه تم اختيار السويسري فورستر الذي حقق بونده على شكل كل البوندات السابقين: قوي، جذّاب، خشن، ودائماً على حق.

آخر مرّة بوند: «لا وقت للموت»

لا وقت لبوند
آخر بوند بالنسبة لكريغ كان «No Time to Die » الذي تم تصويره والعمل عليه طوال 2020 وعُرض في 2021.
جيمس بوند هنا يواصل اختلافه وتميّزه عن كل جيمس بوند آخر. معظم السابقين (على الأخص كونيري، روجر مور وبيرس بروسنان) لعبوا الشخصية الشهيرة لتأكيد قوّتها الذاتية والمخابراتية والعاطفية والبدنية. كريغ يلعب الشخصية ليعكس جوانب داخلية تناقض القوّة الذاتية والعاطفية. هو واجم معظم الوقت. مرتاب في خطواته وعواطفه منغلقة. قد يقع في الحب، لكنه الحب الذي قد يعاني منه أي عاشق آخر. وهو لن يضاجع امرأة لأنها مجرد أنثى جميلة. أكثر من ذلك، هو الحمل الأسود في القطيع. أكثر بوند سخطت عليه المخابرات البريطانية التي يعمل لها وأكثر من خرج عن تعليماتها وأوامرها.
هذا كله يعود إلى الواجهة في «لا وقت للموت» وفوقه أنه حريص على نمو ما قد يُبعد المشاهد عن جاذبية بوند السابقة كاشفاً عن شخصية مشروخة في الداخل. ليس مطلقاً العميل المثالي ولا الإنسان المثالي أيضاً. وهو كان أعفي من الخدمة منذ خمس سنوات وعودته فرضتها عليه ظروف لم يسع إليها بل حامت حوله. فهو ما زال عدو منظمة «سبكتر» الأول من ناحية ومخلص لصديقه فيلكس (جفري رايت) الذي يعمل للمخابرات الأميركية واكتشف أن المنظّمة استولت على سلاح موجه يستخدم حامض الأنوسينيك- نوكليوتيد (DNA)  لتحميل البشر فيروسات قاتلة. صديقه مات وهو في أثر القتلة وفي أثر المنظّمة قبل أن يفوت الأوان.
يعالج المخرج كاري فوغوناغا الفيلم كما هو متوقع من فيلم بوند: مطاردات ومعارك ومواقف خطرة مُصاغة باستخدام آخر المستحدث من لغة المؤثرات. لا يمانع المخرج استخدام الضجيج للتأثير، مما يسهم في توجيه الفيلم لحظيرة الأعمال التي تبقى مفصولة عما تقصد أن تحتويه من مشاعر. نعم، يعكس كريغ ما سبق وشرحناه هنا، لكن الدراما لا توازي هذا الشرح. هناك حاجز يمنع المواقف الشخصية من لعب دورها المفترض بسبب اتقان مشاهد الأكشن ومنحها مواقف غير مسبوقة بتقنيات متقدّمة.
العادة جرت أن يكون آخر فيلم يمثله أحد ممثلي شخصية بوند هو الأسوأ بين أفلامه. هذا حدث مع شون كونيري «ماس للأبد»، وروجر مور «منظر للقتل»، وبيرس بروسنان «مت في يوم آخر». مع دانيال كريغ هذا لا يحدث لأن الفيلم منتفخ بالأحداث. بعضها غير متوازن ولا على تتابع جيد، لكنه واقع تحت بصمة وجهد كريغ لترك بصمة على بوند لا تُمحى. هذا سيجعل مهمّة خليفته في الدور صعبة، كذلك مهمّة صانعي السلسلة إذ يضعهم أمام خيارين: المضي في الصورة التي أسسها دانيال كريغ أو العودة إلى الأسس السابقة.
أخيراً، لا بد من القول إن جميع الذين لعبوا بوند حاولوا بالطبع التخلص من صورته التي التصقت بهم. بعضهم فشل في اعتناق صورة ناجحة أخرى، كما حال تيموثي دالتون وبيرس بروسنان الذي يأوي الآن لأدوار السوبر هيرو، كما في «Black Adam» وبعضهم استمر خارج الإطار بنجاح كما حال روجر مور وشون كونيري ودانيال كريغ.
هذا الأخير يجد في سلسلة «Knives Out» المؤلّفة حتى الآن من فيلمين مجالاً واسعاً لبطولة تستفيد من خبرته لكنها تختلف في تفاصيل الشخصية والدور. وإذ ودّع للأبد شخصية بوند وترك المنتجين يفكّرون بمن قد يخلفه، فإن موهبته ممثلاً ستبقى بصرف النظر عن أي دور سيؤديه في المستقبل.


font change