القاهرة: يحتفي مجمع الفنون بالزمالك بإبداع الفنانة التشكيلية المصرية المتفردة جاذبية سري (1925- 2021) وبإنتاجها الفني الغزير على مدار 70 عاما، بمعرض استعادي في ذكرى رحيلها الأولى.
يقام هذا المعرض التاريخي بالتعاون مع الجامعة الأميركية بالقاهرة التي شاركت بمقتنياتها من أعمال الفنانة في مراحلها الفنية الأولى إلى جانب مقتنيات المتاحف المصرية من لوحات جاذبية سري القيمة؛ فهو يقدم بانوراما لرحلة حياة الفنانة عبر لوحاتها ويقدم فرصة ذهبية للتعرف على إبداع سري بسيناريو عرض مبهر، ويستمر إلى 22 ديسمبر (كانون الأول) المقبل، ويصاحبه كتالوغ فني ودراسات نقدية عنها وعن بصمتها التشكيلية المعاصرة. وتعتبر جاذبية سري أول فنانة عربية تم عرض أعمالها في متحف المتروبوليتان بنيويورك، واختارها المتحف ضمن عشرة فنانين من العالم الإسلامي وخصَّص موقعا لأعمالهم في المتحف، حيث قدمت الفن المصري للعالم. وسجل اسمها في موسوعتي لاروس وروبير للفن بباريس، كما أنها حصلت على جائزة الدولة التقديرية وأيضا التشجيعية للتصوير، ووسام العلوم والفنون من الدرجة الأولى بمصر.
ويضم المعرض 90 لوحة تؤرخ لمسيرتها الفنية وأهم النقلات النوعية في أعمالها التي عاصرت مراحل عدة للمجتمع المصري، وعبر قاعات المعرض ستلمس حوارا بين اللوحات يستنطق وجدان وطاقة جاذبية سري الفنية المختزنة في لوحاتها.
نشأة مختلفة انعكست في فنها
«المجلة» التقت قومسير المعرض ومدير مجمع الفنون بالزمالك الفنان التشكيلي إيهاب اللبان، الذي قال: «يأتي هذا المعرض الاستعادي للفنانة الكبيرة جاذبية سري احتفاءً بها في ذكرى رحيلها الأولى، وبعد 30 عاما على إقامة معرضها الخاص هنا عام 1994، ليضم مجموعة أعم وأشمل من إنتاجها الغزير».
ويضيف: «جاذبية فنانة لها خصوصية من حيث تأثرها الكبير بعوامل نشأتها في أسرة تعشق الفن وتقدسه، ومن ناحية انغماسها في إيقاع الأحياء الشعبية المصرية حيث نشأت بين أحياء الروضة والحلمية والقلعة حيث راقبت أجواء الموالد الشعبية ومواكب الذكر وترسخت فيها العادات والتقاليد الأصيلة، وهو ما يبدو جليا في كل أعمالها».
ويلفت اللبان: «جاذبية فنانة تركت تاريخا فنيا غزيرا، فقد قسم أعمالها النقاد إلى 6 مراحل ما بين الواقعية، والتعبيرية، والزخرفية، والتجريدية والبيوت والصحراء». تلك المراحل التي تؤكد على قدرتها الفنية الغنية.
يستقبلك المعرض بلوحة هي جدارية ضخمة تحمل عنوان «الحياة على ضفاف النيل» أنتجتها عام 1964، تمكنك من قراءة هذه الموهبة التي اختزلت حياة المصري على النهر الخالد بشخوص هائمة في فضاء لوني يعكس وهج الحياة والحضارة المصرية بكل تجلياتها.
حيوية العرض تجعلك تتأمل في ألوان جاذبية سري المتوهجة، فعلى مدار عمرها الفني ظلت تبحث في ذاتها وتجدد تقنيات تفكيرها في التعرف عليها مستلهمة من دهشة الطفولة منبعا متجددا للتعبير عن ثقافة المجتمع المصري، ففي لوحة «البيوت 1978» سنجد تجسيدا واضحا لنبض الحياة المصرية وأزمات المجتمع في تكتل البيوت المتراصة في عشوائية وإن كانت نابضة بحميمية عبرت عنها بضربات فرشاة متلاحقة في كتلة واحدة تاركة فراغا ضئيلا يروي قصة البيوت المصرية في السبعينات.
يمكننا القول إن ألوان جاذبية سري هي بطاقة التعارف بينها وبين المتلقي نتعرف من خلالها على درجات الشعور والتوازن النفسي. وبعيدا عن تأثرها بالمجتمع المصري يقدم المعرض لوحة «من واشنطن العاصمة 1993» التي تعكس انطباعها عن المدينة بعمل تجريدي يجسد طبيعتها البرغماتية.
وفي إحدى قاعات المعرض سنجد ثلاث لوحات في حوارية فنية حول هموم ومخاوف جاذبية كأنثى بأعمال تعبر عن دواخل المرأة المهمومة بأنوثة مكبوتة وقصة عشق حائرة، وضغوط المجتمع الذكوري، في لوحة «ذات الشال الأصفر 1952». وبورترية خاص بها يحمل رموزا من وحي الحضارة المصرية، ثم لوحة «المعلمة»، واسكتش «فتاة» في قاعات أخرى ليظهر بقوة في سلسلة لوحات «أمومة»، ولوحة «أم عنتر»، وستجد دمجا رائعا للحس الأنثوي وروح النسوية في لوحة «المنتظرة أو المرأة المترقبة 1958»، والتي تعكس انشغال الفنانة بقضايا المرأة وهواجسها في تلك الحقبة التي كانت تناضل فيها المرأة لتحصل على حقوقها، وتتجلى أيضا في لوحة «امرأة مع تمثال».
وسنجد ضمن المعرض أعمال بورتريه منها لوحة «المثقف مشرفة 1952»، ولوحات عن الحياة النوبية وحياة العمال في الخمسينات، حيث الثورات والاحتجاجات العمالية وحالة الحراك السياسي التي اعترت المجتمع المصري آنذاك.
تحدٍ ودقة
وعن كيفية الاستعداد والتجهيز لهذا المعرض الضخم، يقول الفنان إيهاب اللبان: «كان التحدي الهام لنا ككل معرض، كيف نقدم عرضا يخلد في ذاكرة المتلقي؟ وليس معرضا عابرا... ويظل تأثيرا عالقا في نفس المتلقي. استراتيجيتنا في مجمع الفنون أننا في كل معرض نحاول اختراق المتلقي نفسيا والتأثير عليه عبر طريقة العرض باحترامنا لكيفية تقديم الفنان وصيغة تقديم هذا الفن، وهو ما يترك انطباعا لدى المتلقي، فوفقا لما وصل له وتأثر به داخل الموقع سيخلق هذا نوعا من أنواع ثقافة الاقتصاد الإبداعي، هدفنا أن نساهم في صناعة القيمة للفن المصري يحترم الفنان والمتلقي ونجعله يشاهد عرضا لم يشاهده من قبل».
ويؤكد: «هذا ينبع من التقدير لأي عمل يقدم في مجمع الفنون إذ يتم عمل حسابات دقيقة جدا للمعرض كوحدة ويأخذ قدرا من التخطيط والتصميم لطرح قضية العرض وقيمة الفنان وأعماله، حتى أصبح ذلك منهج العروض في المجمع».
ويؤكد: «نبحث عن تصدير اسم موقع ثقافي والثقافة المصرية بشكل عام ولكي تظل مساهما في صناعة القيمة للفن المصري لذا يجب تقديمه بشكل يليق به، بحيث نقدم للمتلقي الأجنبي ما لم يشاهده من قبل ويتعرف على الفن المصري في تجربة لا تنسى».
ويتابع: «فضلا عن وجود خط مميز لتقنية العرض في مجمع الفنون، نحاول إضافة لمسات جديدة في كل معرض عبر العلاقات الهندسية التي يتم إنتاجها وتصميم الفراغ في محيط اللوحات حتى توصلنا لأن نجعل من المعرض وحدة متكاملة يعطي انطباعا عن رحلة جاذبية سري الفنية».
«نقلاتها حادة وكبيرة جدا على مدار مراحلها الفنية فهي لديها خط واضح أنها مهمومة بالمجتمع والروح الشعبية للمصريين»؛ هكذا يوضح اللبان مضيفا: «تلقائيتهم والزحام في الشخوص حتى في اللوحات التجريدية. فقد وثقت ذكريات طفولتها والتي لازمتها وتناولت الإنسان المصري بصيغ مختلفة جدا لكن ببصمتها الخاصة. أحيانا تؤكد على الشخوص بالألوان القوية والعفوية الشديدة بدون حسابات في أعمالها كانت فعلا تتوحد مع العمل ولا تفكر كيف يخرج العمل بل تترك لنفسها العنان أمام اللوحة دون تنميق كانت حريصة على أن تخرج الحالة على التوال».
ويذهب قومسيير المعرض إلى أنها كانت من أكثر الفنانين الذين تأثروا بعام 1967 (عام النكسة) وعكست حالة الحزن والحسرة مثلا نراها في لوحة «السقوط»، في المقابل نجد حالة الفرح والزهو في أعمالها عقب عام 1973، ونلاحظه في مفرداتها وشخوصها. فهي فنانة ظلت تنتج لمدة تجاوزت سبعة عقود لديها كل المفردات في أعمالها وتجمع القضايا المتناثرة والمتشعبة للمجتمع المصري.
وفي محاولة لتقديم صورة شبه متكاملة عن حياة جاذبية سري، يوضح اللبان: «المعرض كان يتطلب دقة كبيرة في اختيار الأعمال ونماذج لوحات التي تعبر عن رحلة 70 عاما من حياة فنانة مؤثرة في تاريخ الفن التشكيلي المصري بسياق متسلسل؛ ففي مساحات معينة من العرض حاولت تقديم كيفية تعامل جاذبية مع (الشخوص) بدايات ونهايات لفنانة مميزة، وسنرى أكثر من نموذج يعبر عن تحولها من الفيجر الواضح إلى الفيجر المهمل بعفوية صارخة». ويختتم قوله: «الفنان خلال نقلاته لا بد أن يكتسب ثقة تنقله إلى مرحلة تالية، يكتسب جرأة وتتكون شخصيته الفنية وتتزايد بالتالي العفوية والإنتاج بحرية وانطلاق، وهو ما سنجده في الأعمال الأخيرة للفنانة الراحلة»