بون: أثار إعلان المستشار الألماني مشروع «درع السماء الأوروبية» الكثير من التكهنات حول الدور الذي سوف تلعبه ألمانيا داخل الناتو وداحل الاتحاد الأوروبي في مجالات الدفاع والأمن، وما يزيد في التساؤلات، هو أن هذا المشروع جاء بعد إعلان سابق من هذا العام، بأن الحكومة الألمانية خصصت ما يقارب 120 مليار يورو لتطوير قدراتها في مجال الدفاع والأمن وتطوير «جهوزية» الجيش الألماني للنهوض بمهامه داخل الناتو.
المشروع الألماني، أثار مخاوف بعض الدول الأوروبية وأكثرها فرنسا، بسبب التراكمات التاريخية، وما ارتكبه "الرايخ الثالث" خلال الحرب العالمية الثانية 1943 من جرائم وتهديدات للأمن الدولي.
وقعت وزير الدفاع الألمانية كريستيانو لامبرشت يوم 13 نوفمبر (تشرين الثاني) 2023 مع وزراء أوروبيين على بيان بشأن ما يسمى مبادرة نظام (درع السماء)، وذلك على هامش اجتماع الناتو في بروكسل. وما يهدف له هذا المشروع هو سد ثغرات في مظلة الحماية الحالية بحلف الناتو في أوروبا. وسوف تستثمر ألمانيا بشكل كبير في الدفاع الجوي في السنوات المقبلة، ولتنفيذ ذلك فإن نظام الدفاع الجوي الجديد سوف يُصمم بطريقة يمكن مشاركة دول أوروبا الأهرى في هذا المشروع.
وأعلن المستشار الألماني أولاف شولتز لأول مرة عن الدرع المضادة للصواريخ في خطاب ألقاه في براغ في أغسطس (آب) 2022، عندما قال إن البلاد ستستثمر بشكل كبير في دفاعها الجوي خلال السنوات المقبلة حيث إن القارة «لديها الكثير من اللحاق بالركب». وقال إن مثل هذا النظام المتكامل سيكون أكثر كفاءة وفعالية من حيث التكلفة مما لو قامت كل دولة ببناء أنظمتها المعقدة الخاصة بها.
ألمانيا تطلق مبادرة جديدة للدفاع الجوي
التقى وزراء دفاع الدول المشاركة على هامش اجتماع الناتو في بروكسل في أعقاب إعلان المستشار شولتز من أجل التوقيع على مبادرة «درع السماء الأوروبية» (ESSI).
وقال حلف الناتو في بيان، إن «المبادرة ستعزز دفاعه الجوي والصاروخي المتكامل، وهي مهمة تعمل على استقرار وحماية المجال الجوي للناتو». وقال نائب الأمين العام لحلف شمال الأطلسي، ميرسيا جيوانا: «هذا الالتزام أكثر أهمية اليوم، ونحن نشهد الهجمات الصاروخية الوحشية والعشوائية من قبل روسيا في أوكرانيا، مما أسفر عن مقتل المدنيين وتدمير البنية التحتية الحيوية. وفي هذا السياق، أرحب بشدة بقيادة ألمانيا في إطلاق المبادرة الأوروبية لدرع السماء».
وجاء تعليق الحكومة الألمانية، بأن ألمانيا وأكثر من اثني عشر شريكا في حلف شمال الأطلسي يهدفون إلى شراء أنظمة دفاع جوي بشكل مشترك لحماية أراضي الحلفاء من الصواريخ، ويتطلعون إلى نظام (Arrow 3) الإسرائيلي ووحدات باتريوت الأميركية ووحدات (IRIS-T) الألمانية من بين الخيارات المتاحة. وأوضحت وزيرة الدفاع الألمانية كريستين لامبرخت خلال مراسم في مقر حلف شمال الأطلسي في بروكسل حيث وقعت 14 دولة على خطاب نوايا «بهذه المبادرة نفي بمسؤوليتنا المشتركة عن الأمن في أوروبا- من خلال تجميع مواردنا».
يذكرإن إستونيا لم تكن حاضرة في ذلك الاجتماع ولكنها جزء من المبادرة التي أطلق عليها اسم «درع السماء الأوروبي» (European Sky Shield) وتضم في المجموع نصف أعضاء الناتو- بما في ذلك ألمانيا وبريطانيا وسلوفاكيا والنرويج ولاتفيا والمجر وبلغاريا وبلجيكا والتشيك وفنلندا وليتوانيا وهولندا ورومانيا وسلوفينيا.
يعتبر نظام (أرو3 أو حيتس3) أي «السهم»، نظام دفاع صاروخي ظل قيد التطوير في إطار التعاون الإسرائيلي الأميركي لعدة مراحل. من جانب الولايات المتحدة، تشارك شركة تصنيع الطائرات الأميريكية "بوينغ" في المشروع وتم استخدام «Arrow3» منذ منتصف عام 2012. قادر على اعتراض الصواريخ بعيدة المدى عالية جداً فوق الأرض، مما يوفر درعاً دفاعياً صاروخياً فعالاً ضد هجمات العدو. تعتبر من أفضل الأنظمة المضادة للصواريخ الباليستية في العالم. حتى الآن، لم يكن لدى القوات المسلحة الألمانية أي أنظمة مماثلة يمكن أن تكون بمثابة دروع صاروخية في ألمانيا.
ومن بين الأنظمة التي من المرجح شراؤها هي (IRIS-T) الألمانية الصنع، ونظام باتريوت الأميركي ونظام (Arrow) الإسرائيلي المصمم لتحييد التهديدات بعيدة المدى. وقالت لامبرخت، وزيرة الدفاع الألمانية، إنه تم بالفعل إجراء اتصالات مع الشركات المصنعة. ورحب نائب الأمين العام لحلف الناتو، ميرسيا جيوان، بإنشاء المبادرة، قائلاً في بيان إن «هذا الالتزام أكثر أهمية اليوم، حيث نشهد الهجمات الصاروخية والعشوائية التي شنتها روسيا في أوكرانيا، مما أسفر عن مقتل مدنيين وتدمير البنية التحتية الحيوية».
وقد وافقت على المشروع الألماني 14 دولة في الناتو لشراء درع دفاع صاروخية، الأمر الذي أثار انزعاج فرنسا التي لا تشارك في المشروع الذي يضم أنظمة ألمانية وأميركية وربما إسرائيلية.
ويهدف مشروع الدرع الصاروخية هذا إلى تكوين نوع من «غطاء متعددة الطبقات» لحماية الدول الأوروبية من الهجمات بالصواريخ ذات المدى المختلف ومن بعض الطائرات بدون طيار والمروحيات. ويشمل تصميم «درع السماء» شراء أنظمة IRIS-T بمدى يبلغ حوالي 30كم- تم تطويره بواسطة الشركة الألمانيةDiehl Defense) ) وأنظمة باتريوت (المصنعة من قبل شركةRaytheon الأميركية) التي يمكن أن توفر حماية تصل إلى ما يقرب من200 كم.
أما الحديث عن دعم الصندوق فسيكون من خلال مشاريع الاستحواذ المشتركة من قبل ثلاث دول على الأقل وكلما زاد عدد الدول الأعضاء المشاركة زادت المساعدات المالية التي سيحصلون عليها. وستكون الأهلية هي نفسها بالنسبة لصندوق الدفاع الأوروبي.
تطوير قدرات الجيش الألماني
وتشمل خطة وزارة الدفاع الألمانية لتطوير قدراتها، برنامج للطائرات المقاتلة (4.5) للقوات الجوية الألمانية؛ طائرات هليكوبتر المضادة للغواصات (ASW) و(ASuW) للبحرية الألمانية، أنظمة الاشتباك خارج الفرقاطات الألمانية (F124) مروحيات البحث والإنقاذ (SAR) للقوات المسلحة الاتحادية الألمانية، مروحيات الرفع الثقيل للجيش الألماني، توربينات غازية لأربع سفن قتالية متعددة الأدوار (MKS 180) للبحرية الألمانية، وحدات مرجعية بالقصور الذاتي قابلة للتطوير في الفضاء (SSIRU-L) لـSARah ، وكوكبة الأقمار الصناعية لاستطلاع الرادار في ألمانيا؛ ونظام الدفاع الجوي والصاروخي المتكامل (TLVS) للجيش الألماني؛ ومروحيات نقل كبيرة ذات محركين للشرطة الفيدرالية الألمانية، وخدمات الكشف عن الصواعق للمساعدة في دعم عملاء صناعة الطيران لمكتب الأرصاد الجوية الألماني ( (DWD
ويظهر الرفض الفرنسي جلياً لمبادرة الدفاع الجوي الأوروبية، حيث انتقد الرئيس إيمانويل ماكرون مشروع «درع السماء الأوروبية» الذي تقوده ألمانيا لتفضيلها الصناعات على السيادة من وجهة نظر فرنسا. وأضاف ماكرون في كلمة ألقاها: «أوروبا لم تعد آمنة من ضربات الصواريخ والطائرات دون طيار [...] لأن التكنولوجيا توفر الآن للخصوم وسيلة توجيه الضربات عن بعد».
ويضيف ديكسمود في طولون: «إن الدفاع الجوي لقارتنا هو قضية استراتيجية وموحدة ومتعددة الأوجه لا يمكن اختزالها في تعزيز صناعة وطنية أو طرف ثالث على حساب السيادة الأوروبية».
ماذا يعني درع السماء لأوكرانيا
يمكن أن يكون للمبادرة تأثير محدود على القدرات الدفاعية المضادة للصواريخ في أوكرانيا ومن المفيد ان يكون هناك تنسيق في إنتاج وشراء الأسلحة المضادة للصواريخ وهو جزء من الخطة. وستكون الدول المشاركة قادرة على تحسين هذه العملية من خلال إصدار أوامر مشتركة والتفاوض على شروط العقود معًا، مع تعديل التوزيع أيضًا لاحتياجات كل عضو. أما ألمانيا، فمن المرجح أن تنتهز هذه الفرصة لتكثيف إنتاج أنظمة ( IRIS-T ) الخاصة به وهذا من شأنه أن يزيد فرص أوكرانيا بالحصول على نظام (IRIS-Ts) في المستقبل القريب.
ينبغي لأوكرانيا على المدى المتوسط، أن تكون قادرة على الانضمام إلى مبادرة «درع السماء الأوروبية». تمتلك القوات المسلحة الأوكرانية الخبرة والمعدات اللازمة لتقديم مساهمات قيمة في هذا المجال. وإلى جانب (IRIS-T) تستخدم أوكرانيا بالفعل نظام (NASAMS) والذي يمكن أن يلعب دوراً رئيسياً في المشروع. وتقوم القوات الأوكرانية حالياً ببناء نظام دفاع مضاد للصواريخ كامل حول الأسلحة الغربية الحديثة، مما يعني أنها ستمتلك قريبا أيضا القدرة التقنية لتصبح لاعباً متساوياً في مبادرة «درع السماء الأوروبية».
النتائج
تشهد ألمانيا، عهدا جديدا مع حكومة المستشار الألماني الاشتراكي أولاف شولتز، بعد حكومة المستشارة الألمانية ميركل من الاتحاد المسيحي الديمقراطي أكثر من ستة عشر عاماً، وكأن ألمانيا تدخل عهداً جديدا. فبعد أن كانت ألمانيا توصف فقط بـ«قاطرة» الاقتصاد الأورروبي والتي أنقذت عددا من دول جنوب أوروبا في السنوات الماضية من الكوارث الاقتصادية، اليوم تتجه ألمانيا نحو تطوير قدراتها العسكرية القتالية.
ـ تدرك ألمانيا جيداً أن القرار السياسي الألماني والأوروبي يحتاج |إلى «رافعة» أو داعم لكي يكون مسموعاً ومؤثراً وفاعلاً، خاصة في النزاعات والصراعات الدولية.
وهذا ما كان واضحاً في مؤتمر برلين واحد وبرلين اثنين حول ليبيا، والذي يمكن وصفه بأنه مؤتمر هش، لم يتمكن من تنفيذ مخرجاته، رغم ما بذلته الحكومة الألمانية من جهود.
ـ دخلت ألمانيا مرحلة جديدة في مجال الأمن والدفاع، في أعقاب حرب أوكرانيا وبالتوازي مع حكومة المستشار شولتز، لتطوي حقبة جديدة في مجال الأمن والدفاع، وهذا يعني أن ألمانيا ستكون لها مشاركات «قتالية» خارج أراضيها، ضمن قوات أممية أو أوروبية وغير مستبعد أن تنفرد بمهام جديدة في النزاعات الدولية. وهذا يتطلب من ألمانيا مراجعة دستورها (النظام الأساسي الألماني) لكي تنتقل مهام الجيش الألماني من الدعم اللوجستي إلى المهام القتالية.
ـ الرفض الفرنسي، وتحديداً من الرئيس ماكرون، يكشف تصدعا جديدا في المحور الفرنسي الألماني، وهذا من شأنه أن ينعكس على قوة الاتحاد الأوروبي الذي لم يعد يتحمل كثيرا من التصدعات.
ـ بات متوقعا أن تنفرد فرنسا بمشاريع تسلح مع الولايات المتحدة وبريطانيا أكثر من المشاركة داخل الاتحاد الأوروبي. يذكر أن فرنسا تُعد من أقوى دول أوروبا ما بعد بريطانيا في مجالات الدفاع والتسلح والمظلة النووية.
ـ إن مشروع «درع السماء الأوروبية» مهما كان لا يمكن أن يكون بديلا لمظلة الناتو والحماية الأميركية، وغير مستبعد أن المبادرة الألمانية هذه جاءت في أعقاب مخاوف ألمانية من تهديدات محتملة من روسيا.
ـ إن خطط ألمانيا في مجالات الدفاع والأمن هذه يمكن أن تؤثر سلبا على اقتصاد ألمانيا، فما زالت هناك انتقادات واسعة للمستشار الألماني حول ميزانية الدفاع التي تقدر بـ120 مليار يورو، المقرر أن تحصل عليها الحكومة من صندوق خاص يقوم على الاستدانة الداخلية، وهذا ما وصفته بعض الأطراف السياسية الألمانية بأن هذا سيكون تجاوزاً على حقوق الأجيال القادمة، كون الاقتراض يتم تسديده من حسابات ورصيد الأجيال القادمة مستقبلاً.
ـ مشروع «درع السماء الأوروبية» وأنظمة (IRIS-T) المضادة للصواريخ، هي مشاريع مكلفة جدا وتصنيعها أيضا يستغرق وقتا طويلا، وهذا يعني أن هذه الأنظمة لن يكون لها تأثير فعال في حرب أوكرانيا وإن حصلت أوكرانيا على نظام الدرع الصاروخية الألماني أنظمة (IRIS-T) فهي لا تستطيع حماية أو تغطية مساحات واسعة في أوكرانيا، وهذا يعني أنها سوف لا تغير شيئا في حرب أوكرانيا.
ـ إن مشروع «درع السماء الأوروبية» يمكن أن يعزز «روح القومية» داخل أوروبا، تحديدا داخل الاتحاد الأوروبي، ويأتي بالتماشي مع تشكيل قوة أوروبية موحدة للدفاع عن أوروبا وكذلك المشاركة في النزاعات الدولية كقوة سريعة الحركة.
بات ينبغي على دول أوروبا، تعزيز سياسات التكامل في مجالات الدفاع والأمن بالتوازي مع التعاون الاستخباراتي، رغم ذلك فإن هذا الأمر يعتبر من الطموحات الأوروبية ويستغرق سنوات طويلة.