قد يكون من الصعب أن يجد المرء بلدا بحجم لبنان يعني أشياء متناقضة لمكوناته، وذلك تبعا للمنظور السياسي أو الاجتماعي أو التاريخي أو الديني حتى الذي يراه من خلاله.
فالبعض كان يظنه سويسرا الشرق، نتكلم هنا عن هذا البعض الذي كان يستطيع تحمل نفقات العيش في هذا المربع «السويسري»الصغير الممتد بضعة كيلومترات من الأشرفية إلى الحمرا والأسواق ثم بحمدون وعالية، ومن السان جورج إلى الكاف دي روي إلى الويمبي ولكنه وفي نفس الوقت كان للبعض الآخر ظالما خاصة للذين يعيشون في أحزمة البؤس وما أكثرهم من النبعة إلى الضاحية إلى برج حمود وأبعد إلى طرابلس إلى باب التبانة وأحياء الفقر لا تعرف الشبع إلى شقاء مزارعي التبغ في الجنوب.
هذا التناقض طبعا الموجود في بقعة جغرافية ضيقة يسري تقريبا على كل شيء آخر.
فنشأة كيان دولة لبنان الكبير موضوع خلافي كبير بين مكوناته، حيث إن البعض يعتقد أن دولة لبنان ثمرة مؤامرة غربية واتفاقية من سايكس إلى بيكو لتفتيت الأقطار العربية والإسلامية وإضعافها من قبل الغرب فيما يعتقد البعض الآخر أنه نتيجة طبيعية لمسار سياسي بدأ مع جبل لبنان وساكنيه من الموارنة خاصة والدروز.
وكذلك في موضوع السيادة، فهي من وجهة نظر البعض غير ناجزة بما أن هناك فريقا يحمل السلاح- حزب الله- دون غيره من الفرقاء، فيما يعتقد البعض الآخر أن السيادة منجزة بفضل هذا السلاح، بل أكثر: هذا السلاح يحمي تلك السيادة.
أيضا هناك خلاف بين مكونات لبنان المذهبية على تعريف الصديق أو الحليف وتصنيف العدو والخصم، إذا ما استثنينا إسرائيل التي تتفق الشرائح اللبنانية على توصيفها بالعدوة، فالخلاف يشمل كل الدول الأخرى الفاعلة في الإقليم والمؤثرة بشكل أو بآخر على لبنان واستقراره واقتصاده من سوريا إلى إيران إلى المملكة العربية السعودية فأميركا وفرنسا وروسيا.
الخلاف بين المكونات اللبنانية يشمل التأريخ للأحداث التي عرفها البلد، منذ ثورة 58 إلى الحرب الأهلية عام 1975 وما بينهما من أحداث وأزمات ضاعفت في إرساء التباعد بين اللبنانيين. طبعا غياب المراجعات للأحداث تلك ووضعها في إطار تاريخي زاد من الشرخ، وهذا الشرخ لا يعمل معه العقل أو الحكمة إنما الغريزة المطلقة الصافية.
فكل فريق عنده «قضية مقدسة»تتنافس وتتناقض مع «قدسية»قضية الفريق الآخر. واللافت في الأمر أن كل فريق يشيّطن قضية الآخر ومن يحملها ومن يرمز إليها.
فالسجال الحاد الذي دار في مجلس النواب حول الرئيس بشير الجميل دليل على أن المقاربة للأحداث والشخصيات التاريخية في لبنان مستحيلة حتى اللحظة ويُعتبر تناولها تعديا على «مقدسات»الطائفة. فلا يمكن أن نضع الرجل ومساره في إطاره الزمني المحدد أي الحرب الأهلية، وتفتت الدولة، وانقسام لبنان طائفيا ثم التواجد المسلح الفلسطيني وإلى ما هنالك من تطورات إقليمية كزيارة الرئيس المصري لإسرائيل وتوقيعه السلام معها، من دون سجال وشتائم وعنف بين من معه ومن ضده إلا إذا تنازل من معه عن اعتباره «مقدسا»ومن ضده عن اعتباره «مدنسا». فالتاريخ لا يمكن مقاربته وفهمه ومن ثم أخذ موقف من أحداثه وشخصياته من دون أن نضعه في إطاره الزمني من تاريخ لبنان ونشأة كيانه إلى استقلاله وحروبه الأهلية.
هذا لا يجري اليوم وغير مرشح أن يجري في المدى المنظور، لأن الناس ينتخبون الذين يستثمرون في هذا الشرخ ويقاربون المسائل السياسية من منظور «المقدس»فنصبح أمام صراع أدوار للمكونات الطائفية وتنافس للسيطرة من قبلها على هيكل الدولة. هناك من يدعو للحوار على أساس التوافق على إبقاء الخلاف قائما بين المكونات الطائفية حول تفسير وتأويل التاريخ وأحداثها وشخصيتها وهذا ممكن ولكنه سيُبقي الأحوال في البلاد على ما هي عليه ولينتقل من أزمة تتم معالجتها وفقا لموازين القوى الداخلية وتلك الخارجية إلى أزمة أخرى تنتظر التوقيت المناسب لظهورها. أزمات تقوم على التناقض في مفاهيم الدولة ودورها وتاريخها.
السؤال: هل احتفل لبنان الأسبوع الماضي باستقلاله أم تذكر أنه تحت الاحتلال؟
والجواب: هذا يختلف باختلاف المكونات وتقييمها للأمور والزاوية التي يتراءى لها الموضع.
لذا فإن لبنان مستقل ومحتل في آن، فيعكس شيئا من طبيعته التي يتغنى بها حيث التزلج على سفوحه والسباحة في مياهه ممكنة في اليوم ذاته وفي إطار زمني لا يتعدى النصف ساعة.