رؤية سعودية للترتيبات السيبرانية عالمياً

خلال انطلاق أعمال المنتدى الدولي للأمن السيبراني في الرياض بمشاركة 120 متحدثاً دولياً

رؤية سعودية للترتيبات السيبرانية عالمياً

باكو: على مدى يومين (9- 10 نوفمبر/ تشرين الثاني 2022) شهدت العاصمة السعودية الرياض انعقاد النسخة الثانية من المنتدى الدولي للأمن السيبراني الذي نظمته الهيئة الوطنية للأمن السيبراني وحمل شعار «إعادة التفكير في الترتيبات السيبرانية العالمية»، تحت رعاية خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، مكتسبًا أهميته من ثلاثة أبعاد رئيسية وهي:
أولا: المشاركة الواسعة من جانب صناع القرار والرؤساء التنفيذيين، وكبار المسؤولين الحكوميين، وممثلي أبرز الشركات العالمية، والمنظمات غير الحكومية، والأوساط الأكاديمية حول العالم، إذ يذكر أن فعاليات هذا المنتدى شارك فيها 127 متحدثًا دوليًا رفيع المستوى، وبحضور 9000 مشارك من أكثر من 117 دولة.
ثانيا: الدور السعودي الريادي عالميًا وإقليميًا في دعم الجهود وتوحيد المساعي المشتركة، على صعيد بحث القضايا الاستراتيجية ذات الصلة بالفضاء السيبراني، وذلك في ضوء ما حققته المملكة من تقدم عالمي وإقليمي في هذا المجال، إذ يذكر أن المملكة احتلت عام 2018 المرتبة الأولى عربيًا والـ13عالميًا في مؤشر الأمم المتحدة للأمن السيبراني من بين 175 دولة، كما قفزت إلى المركز الثاني عالميًا في محور التحسن المستمر في مؤشر الأمن السيبراني من بين 193 دولة ضمن تقرير الكتاب السنوي للتنافسية العالمية لعام 2022، الذي نشره المعهد الدولي للتنمية الإدارية ومقره سويسرا (IMD)، ويهدف هذا التقرير إلى تحليل وترتيب قدرة الدول على إيجاد بيئة داعمة ومحفزة للتنافسية والمحافظة عليها وتطويرها، وهو ما يعكس مدى الاهتمام الذي توليه المملكة في سبيل بناء فضاء إلكتروني آمن ومرن لحماية المصالح الحيوية للدولة والأمن الوطني والبنى التحتية الحساسة والقطاعات ذات الأولوية والخدمات والأنشطة الحكومية على المستوى الوطني. ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل حققت المملكة أعلى مراتب الالتزام بتنفيذ مخرجات قمة مجموعة العشرين ذات الصلة بالصمود السيبراني، طبقًا للتقرير الصادر في هذا الخصوص، حيث أشار إلى إصدار المملكة- ممثلة بالهيئة الوطنية للأمن السيبراني- عددًا من الضوابط والتنظيمات ذات الصلة بالأمن السيبراني، كان من أبرزها إطلاق ضوابط الأمن السيبراني للحوسبة السحابية، وإطلاق إرشادات الأمن السيبراني للتجارة الإلكترونية، وتطوير أدوات الأمن السيبراني، وإطلاق ضوابط الأمن السيبراني للأنظمة الحساسة، فضلا عن اعتماد الاستراتيجية الوطنية للأمن السيبراني التي تؤسس لمرحلة جديدة في مسيرة الأمن السيبراني في المملكة، وتسهم في ترسيخ منظومة وطنية متكاملة للأمن السيبراني تمكن الجهات الوطنية من رفع مستوى أمنها السيبراني وحماية شبكاتها وأنظمتها وبياناتها الإلكترونية. هذا إلى جانب ما حققته على الصعيد الدولي، حيث بذلت المملكة جهودًا كبيرة في هذا المجال ممثلة في بناء الشراكات الدولية في الأمن السيبراني، بل تظل المبادرتان الدوليتان اللتان تبناهما الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء السعودي، والخاصتان بحماية الأطفال في العالم السيبراني، وتمكين المرأة في القطاع نفسه بمثابة هدية من المملكة للعالم، حيث عكستا أيضًا حجم اهتمام المملكة بخلق فضاء سيبراني آمن حاضرًا ومستقبلا، مع الاهتمام بشكل خاص بالأطفال والنساء؛ كونهما أكثر الفئات المستهدفة لتهديدات الفضاء الإلكتروني.
ثالثًا: توقيت انعقاد المنتدى في ضوء ما يشهده العالم اليوم من زيادة في نسب التهديدات السيبرانية؛ مما يحتم مضاعفة الجهود لحماية الفضاء السيبراني، لاسيما في ظل تسارع توظيف إمكانات التقنية عالميًا في السنوات القليلة الماضية، حيث صدرت تقارير حذرت من خطورة حجم سوق الأمن السيبراني في منطقة الشرق الأوسط، إذ قدرت هذه التقارير حجم نمو سنوي مركب بنسبة 17.1 في المائة، حيث من المتوقع أن ترتفع الخسائر التي تتحملها دول الشرق الأوسط بسبب الهجمات الإلكترونية من 20.3 مليار دولار أميركي عام 2022 إلى 44.7 مليار دولار أميركي عام 2027. هذا فضلا عن سعي مثل هذه المنتديات إلى العمل المشترك لمواجهة السلوكيات الإجرامية في الفضاء السيبراني التي تستغل شبكة الإنترنت العالمية للتحريض على التطرف والعنف والإرهاب على غرار ما جاء في البيان الصادر في ختام النسخة الأولى من هذا المنتدى الذي عقد في فبراير (شباط) 2020.

«بلاك هات» التي عقدت في الرياض هذا العام هي إحدى أهم المحافل العالمية لقطاع أمن المعلومات وقِبلة للمهتمين في الأمن السيبراني


في ضوء ما سبق، يستعرض التقرير النسخة الثانية للمنتدى من خلال تسليط الضوء على محورين:
الأول: منصة وطنية برؤية عالمية
في خطوة رائدة وسباقة تم تأسيس الهيئة الوطنية للأمن السيبراني المؤسسة عام 2017 لتكون بمثابة الجهة المختصة في المملكة بالأمن السيبراني، والمرجع الوطني في شؤونه، والهادفة إلى تعزيزه؛ حماية للمصالح الحيوية للدولة وأمنها الوطني والبنى التحتية الحساسة والقطاعات ذات الأولوية والخدمات والأنشطة الحكومية، وقد أطلقت الهيئة بدءا من عام 2020 المنتدى الدولي للأمن السيبراني كمنصة تفاعلية عالمية لكافة المعنيين والمختصين بمجال الأمن السيبراني من ممثلي القطاعات الحكومية والخاصة، والمنظمات غير الربحية، والأوساط التعليمية والأكاديمية حول العالم، بهدف نقل المعرفة حول موضوعات الأمن السيبراني وبناء أسس التعاون بين الدول والمنظمات ليصبح قطاع الأمن السيبراني عنصرًا ممكنًا في مواجهة التحديات المستقبلية، وصناعة التنمية الاقتصادية والاجتماعية في المملكة وحول العالم.
وقد عقد المنتدى نسخته الأولى في فبراير 2020 وصدر عنها بيان شامل عرف بـ«بيان الرياض للأمن السيبراني». وأكد على جملة من المضامين شكلت مرتكزات لمسيرة المملكة في هذا المجال؛ داخليًا وخارجيًا.
وغنى عن القول إن ما شهده  قطاع الأمن السيبراني من تطورات عدة لم يأت من فراغ، وإنما كانت نتاجًا لجهود دؤوبة تتسق ورؤية المملكة 2030، التي جاءت منسجمة ومتناغمة بتعزيز الأمن السيبراني نظرًا لدوره الحيوي في حفظ، ودعم استخدام تقنيات المعلومات وتعزيز البنية التحتية الرقمية، لكي تكون ممكنًا أساسيًا لبناء أنشطة صناعية متطورة، إذ يذكر أن حققت المملكة نجاحًا باهرًا بوضع خطط وبرامج وأهداف استراتيجية في الأنظمة الرقمية العاملة فيها، مع تضمينها لخطط وبرامج وأهداف متوافقة مع مكونات الأمن السيبراني، وتطبيق التحديثات والتسريع بتحقيق الإصلاحات الأمنية بشكل دوري ومنتظم وسد الثغرات للحد من انتشار الهجمات الإلكترونية عبر الفضاء السيبراني.

خلال افتتاح الأمير فيصل بن بندر بن عبد العزيز، أمير منطقة الرياض، النسخة الثانية من «المنتدى الدولي للأمن السيبراني»

الثاني: الترتيبات السيبرانية العالمية والحاجة إلى إعادة التفكير
تسارع التغيرات وتسابق التحولات وتصاعد التحديات، تلك هي حقائق اللحظات الراهنة التي يعيشها العالم اليوم، إذ يشهد تغيرات عدة جيوسياسية واقتصادية واجتماعية وعسكرية وكذلك أمنية، وهو ما أضحى معه القول إن التفاعل مع كل هذه التغيرات ومواجهة كل تلك التحديات وخاصة على المستوى الأمني يتطلب فهمًا دقيقًا لجوهرها وإدراكًا واسعًا لمضامينها، وهو ما جاءت به النسخة الثانية للمنتدى الدولي للأمن السيبراني، حيث يشهد هذا النوع من الأمن مرحلة تحول كبيرة تزخر بالفرص التي يمكن الاستفادة منها على صعيد تحفيز التنمية ودفع عجلة الازدهار ورخاء الإنسان. وسعيا من المملكة لاغتنام تلك الفرص تعددت جهودها لبناء منصات ذات بعد دولي، وإطلاق مبادرات عالمية رائدة في مختلف المجالات ذات الصلة بهذا القطاع، من خلال ما شهدته فعاليات هذا المنتدى من حوارات ومناقشات وإسهامات امتدت لأكثر من 30 جلسة تناولت عبر خمسة محاور رئيسية، مجموعة واسعة من الموضوعات والقضايا الاستراتيجية في مجال الأمن السيبراني، بهدف دفع عجلة التطور في القطاع، وتعزيز التكاتف والشراكات بين الجهات الحكومية والخاصة حول العالم. فقد جاء المحور الأول بعنوان (آفاق التغيير في المشهد السيبراني) مسلطا الضوء على تهديدات الأمن السيبراني الراهنة والمستقبلية، وكيفية تسخير التقنيات بوصفها حلولاً آمنة. فيما ناقش المحور الثاني المعنون بـ(الاقتصادات السيبرانية) مجالات الاستفادة من قوى السوق، والبرامج التحفيزية والحوكمة الاقتصادية، في تشكيل الفضاء السيبراني. وتناول المحور الثالث بعنوان «التطور الجيوسيبراني» كل ما يتعلق بالترتيبات السيبرانية العالمية المتغيرة باستمرار في النظام الدولي، والتقنيات المستقبلية. وخصص المحور الرابع بعنوان «مستقبل العمل السيبراني»، لمناقشة سبل استقطاب الكفاءات وتنميتها، والحفاظ عليها؛ من خلال فهم التحديات، وتوفير الحوافز الملائمة. أما المحور الخامس والأخير بعنوان «الأمن السيبراني للجميع» فقد اتجه للبحث في حلولٍ عملية لسد الفجوة السيبرانية عالمياً، وضمان تحقيق الأمن السيبراني لجميع المجتمعات؛ لا سيما الدول النامية. وضمت الجلسات التفاعلية توجهات مختلفة، لاستكشاف مستقبل الأمن السيبراني. بالإضافة إلى التركيز على دور التقنية المتقدمة في إحداث ثورة في مشاركة المعلومات.

فعاليات «بلاك هات» التي جمعت خبراء الأمن السيبراني في الرياض، في 16 نوفمبر 2022


كما شهد المنتدى كذلك توقيع عدد من مذكرات التفاهم والاتفاقات مع عدد من الجهات الوطنية والإقليمية والدولية. بهدف تعزيز التعاون في مجالات الأمن السيبراني، من أبرزها البروتوكول الموقع بين الهيئة الوطنية للأمن السيبراني وجهات دولية نظيره بهدف التعاون في مجالات الأمن السيبراني. وتعزيز حماية الأطفال حول العالم من المخاطر السيبرانية.
نهاية القول إن الأمن السيبراني من المفاهيم التي برزت حديثا على الساحة العالمية والإقليمية وارتبط بأمن المعلومات وتأثيرات التكنولوجيا على حياة الدول والمجتمعات، فالتوجه نحو الرقمنة في مختلف مجالات الحياة، فرض على الجميع أن يتخذ من الإجراءات ما يكفي لحماية أمنه وأمن معلوماته وبياناته ومؤسساته، كون أن ذلك يمثل جزءا لا يتجزأ من منظومة الأمن القومي للدولة، إذ كيف يمكن أن تتحول الدولة نحو رقمنة جميع المجالات وعلى كافة المستويات دون أن تكون هناك سياسات جادة وخطوات حقيقية لحماية كل ذلك، وهذا ما تدركه المملكة العربية السعودية جيدًا فكانت خطوتها على المستوى الداخلي بتأسيس الهيئة الوطنية للأمن السيبراني وارتباطها مباشرة بالعاهل السعودي الملك سلمان بن عبد العزيز آل سعود، بما يحمل معه من دلالة على رؤية واعية لمكانتها وأهمية استقلاليتها لتستطيع سن التنظيمات والإجراءات المتعلقة بالأمن السيبراني وتطبيقها على بقية الجهات الحكومية، ومن ثم متابعة تطبيقها للتأكد من تناغم عمل الجهات الحكومية في حماية المصالح الوطنية، عزز من ذلك إطلاق الهيئة لهذا المنتدى الدولي ليعكس وعيها كذلك بما يشهده قطاع الأمن السيبراني من تطورات متسارعة تتصاعد معه وتيرة التحديات التي يواجهها، بما يجعل تعزيز وتضافر الجهود الدولية في الأمن السيبراني أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.

font change