بعد فشل مجلس النواب للمرة الخامسة في انتخاب رئيس للجمهورية دعا بطريرك الموارنة الراعي إلى عقد مؤتمر دولي من أجل لبنان يضمن ما سماه «الوجود اللبناني» مشددا على مسؤولية الأمم المتحدة والدول الصديقة في إقامة هذا المؤتمر.
ليست المرة الأولى التي يدعو فيها البطريرك الراعي إلى هكذا مؤتمر، فكان في السابق قد طالب بطرح قضية لبنان في مؤتمر دولي خاص أيضا برعاية الأمم المتحدة بعد فشل القيادات السياسية في تأليف حكومة هذه المرة على أثر استقالة حكومة حسان دياب بعد ستة أيام من انفجار المرفأ الكبير الذي هز بيروت وأودى بحياة أكثر من 200 ضحية.
واستطرادا، ألا ينطوي مطلب البطريرك هذا بتدخل دولي لإنقاذ لبنان على اعتراف ما بأن الصيغة اللبنانية القائمة على التسويات في كل كبيرة وصغيرة بحاجة إلى مراجعة بالحد الأدنى لأنها لا تستطيع في أقصى الأحوال استنباط حلول للأزمات التي تعصف بالبلد؟ ثم هذه المطالبة المتكررة من قبل البطريرك ألا تعني اعترافه بأن موضوع حزب الله أزمة تفوق قدرة لبنان على حلها وبالتالي كل الشعارات التي رفعت من ضمن الحملات الانتخابية لبعض الأحزاب والتي وعدت الناس بأن الحل في البرلمان لم تكن دقيقة وأن موضوع الرئاسة وانتخاب الرئيس ليسا أمورا داخلية ولا بد من تدخل خارجي لضبط إيقاعه؟
ربما على البطريرك الراعي أن يسأل كيف لبلد صغير بحجم لبنان لا يتعدى الـ11 ألف كلم أن يكون عرضة لتدخلات وصراعات لاعبين إقليميين ودوليين ويكون حسن سير الأمور فيه سياسيا واقتصاديا رهينة لتفاهمات هؤلاء اللاعبين الإقليميين والدوليين؟ ومن هنا هل تفكك المجتمع اللبناني إلى كيانات مذهبية تدين بولائها للخارج يشكل عطلا بنيويا لا يصلح معه فقط احترام الدستور الحالي والقرارات الدولية المتعلقة بلبنان من أجل العبور إلى حل للأزمة اللبنانية الممتدة منذ إعلان استقلاله كما يطالب البطريرك؟
طبعا هناك الكثير من الأسئلة التي يجب أن يطرحها المسؤولون اللبنانيون قبل أن يقدموا الحلول التي غالبا لا تتناسب مع الواقع لأنها ببساطة لن تستطيع أن تؤمن الاستقرار إن لم تكن- أي هذه الحلول- تملك إجابات صريحة عن أسباب ما وصل إليه لبنان اليوم.
وهذه الأسئلة لا تنحصر فقط في العقد الاجتماعي الجديد الذي يجب أن يقره اللبنانيون إن أرادوا الحل، إنما أيضا عن دور البلد الاقتصادي في محيطه ونوعيته وعن النظام السياسي الذي يجب أن يرعى كل هذه المسائل. ولكن على ما يبدوا هناك أكثرية لا تريد المساس بالنظام ولا يهمها طرح أسئلة محرجة لا تملك أساسا جوابا عنها.
تبقى مشكلة دعوة البطريرك في توقيتها، فهي تأتي فيما العالم لديه مشاغل أخرى وأمور أكثر إلحاحا كحرب أوكرانيا مثلا وما نتج عنها من أزمات اقتصادية وغذائية وأزمات طاقة طالت أوروبا بشكل أساسي ويتوقع الخبراء أن يكون لها تأثير على الاقتصادات الناشئة خاصة. وإلى جانب انشغال العالم بالحرب الأوكرانية هناك المواجهة الأميركية الصينية والملفات العالقة بين العملاقين والتي تبدأ بالملف التجاري ولا تنتهي عند مسألة تايوان.
فلا أحد من القوى المؤثرة يملك الوقت كما الإرادة في تنظيم مؤتمر عن لبنان، أما إدارة الولايات المتحدة فهي لا تمانع على ما يبدو في سيطرة حزب الله على البلد ومقدراته وهي التي كانت فيما سبق قد أجبرت الحكومة الإسرائيلية على توقيع اتفاقية اقتصادية تعطي لبنان الحق في استثمار حقول الغاز الموجودة في مياهه الإقليمية، وهذا من شأنه أن يعطي دفعا اقتصاديا لبلد يقول الجميع بمن فيهم اللبنانيون أنفسهم إنه «تحت الاحتلال الإيراني».
المؤسف أن الدعوة لعقد مؤتمر للبنان هي الداء والدواء في آن معا؛ فلبنان يبدو بحاجة إلى وصاية دولية دائمة من أجل ترتيب أوضاع بيته الذي هو بمنازل كثيرة كما وصفه بدقة المؤرخ كمال صليبي، وهذه الحاجة قائمة منذ اتفاق القائمقاميتين والمتصرفية ثم الانتداب فالطائف وصولا إلى الوصاية السورية. للأسف الوصاية الدولية ترتب أمور البلد وأوضاعه لفترة ما حتى تتغير ظروف المنطقة لسبب أو لآخر فتختفي قوى وتظهر أخرى، وبين اختفاء هذه وظهور تلك تعود المعضلات والأزمات لتطفو على السطح مجددا فتخلف حروبا وقلاقل.
الوصاية الدولية حل مؤقت لمشكلة مزمنة لا خلاص منها إلا إذا اقتنع اللبنانيون بأنه حان الوقت لتغيير النظام بناء على عقد اجتماعي جديد يأخذ بعين الاعتبار كل التغييرات خاصة الديموغرافية التي حصلت آخر ثلاثين عاما.