استطاع العراق بعد سنة كاملة من إجراء انتخابات تشريعية سابقة لأوانها أن ينجز باقي الاستحقاقات الدستورية التي تلي الانتخابات، والمتمثلة في اختيار رئيس جديد للجمهورية في شخص عبد اللطيف رشيد عن الاتحاد الوطني الكردستاني، ثم الإعلان عن حكومة جديدة خلفا لحكومة مصطفى الكاظمي كان قد تكلف بتشكيلها محمد شياع السوداني عضو حزب الدعوة الذي يقود الكتلة النيابية لما يسمى الإطار التنسيقي.
ومن البديهي أن يبث هذا الإنجاز روحا جديدة في أوصال الحياة الدستورية بالعراق، ويشيع نوعا من الأمل في تجاوز الأزمة السياسية التي كان يعيشها؛ أزمة ارتدت عدة مرات طابع صراع حاد تخللته مواجهات عنيفة، عرضت البلاد مرارا لمخاطر الانزلاق نحو نزاع دام، فضلا عما سببته من أزمات دبلوماسية حين هوجمت مراكز بعثات أجنبية في مقدمتها السفارة الأميركية.
إن نجاح الحكومة الجديدة في نيل ثقة مجلس النواب بأغلبية مريحة، لم يساعدها في أن تكون حكومة للتوافق والوحدة الوطنية كما تعارف عليها العراقيون منذ سنة 2003. فإضافة إلى التيار الصدري الذي انسحب حتى من مجلس النواب رغم أنه كان أكبر كتلة برلمانية بـ73 نائبا، رفضت المشاركة في الحكومة قوى كردية وشيعية صغيرة كان يعتقد أنها ستهرول للمشاركة إذا عرض عليها الأمر.
ويتعلق الأمر بكل من كتلة حراك الجيل الجديد الكردية (9 نواب) برئاسة ساشوار عبد الواحد، الذي أكد مجددا قراره بالاصطفاف في المعارضة، وكذا تيار الحكمة الشيعي (4 نواب) بزعامة عمار الحكيم، الذي رفض المشاركة في الحكومة بعد لقائه رئيس الوزراء أثناء المشاورات، آملا أن تكون حكومة خدمة وطنية، منفتحة على الكفاءات وبعيدة عن المحاصصة.
ولا شك، فإن رئيس الوزراء تجاوز أمر عدم مشاركة تياري الحكمة والجيل الجديد، فهما لا يمثلان تحديا جديا نظرا لصغر حجمهما النيابي، واعتدال خطابهما السياسي، ولكنه في المقابل استوعب جيدا، كما يبدو من أول قراراته مدى المخاطر الكامنة في بقاء التيار الصدري خارج كافة المؤسسات الدستورية، لا سيما وأن هذا التيار تعهد بمواجهة الحكومة في الشارع، ولكن بطرق سلمية أكدها أحد قيادييه (صالح محمد العراقي)، الذي استهجن وندد بالدعوات التي ارتفعت مؤخرا لتشكيل خلايا مقاومة عسكرية لمواجهة استقواء تيار دولة القانون الذي ينتمي إليه رئيس الوزراء بفصائل مسلحة من الحشد الشعبي.
والواضح، فإن هذا الموقف الصدري لقي تجاوبا نسبيا من طرف رئيس الوزراء الجديد، الذي استهل عهد حكومته بالإشارة ضمنا إلى أنها حكومة لفترة انتقالية، متعهدا بإجراء انتخابات نيابية مبكرة خلال عام واحد من توليه المهمة، وهو تعهد رأى فيه البعض نوعا من الاسترضاء للتيار الصدري، الذي ما انفك يطالب بحل البرلمان الحالي، معتبرا ما حصل معه سرقة لحقه الدستوري في تكليفه بتشكيل الحكومة، لأنه فاز بالرتبة الأولى في انتخابات 2021.
ولكن من خلال تحليل معطيات الواقع العراقي وما يدور في محيط البلاد، يبدو أن تعهد رئيس الوزراء نابع بصفة خاصة من إدراكه لصعوبة إن لم نقل استحالة تنفيذ عدد من الالتزامات التي ربما تسرع في تضمينها ببرنامجه الحكومي مثل:
* مكافحة واستئصال الفساد المستشري في كافة دواليب السلطة، إذ يسود الاعتقاد بأن السيد السوداني لن يحصد سوى الفشل في هذا المجال، مثل رؤساء الوزراء الذين سبقوه، وذلك لأن ذات القوى السياسية المتهمة بترسيخ الفساد، والزبونية والتمييز الطائفي هي العمود الفقري لحكومته.
* معالجة الكم الهائل من المشاكل المرتبطة بالصراعات الدولية والإقليمية المحيطة بالعراق، وما ينجم عنها من تدخلات خارجية سافرة ومتواترة في شؤونه، والتي تعد من العوامل الأكثر تأثيرا في تطورات ومستجدات مشهده السياسي الداخلي.
وفي ضوء تصاعد الصراعات الدولية المسلحة، واتساع رقعتها، وما يشهده العديد من بلدان الشرق الأوسط من اضطرابات داخلية، وفي العلاقات مع بعض جيرانها من المنتظر تزايد حجم التدخلات الأجنبية في العراق، الذي ما تزال قوى عديدة ترى فيه صندوق بريد لتبادل رسائل متباينة المحتوى، تارة للتهدئة وفي معظم الحالات رسائل تهديد ووعيد واستعراض للقوة ومدى تغلغل النفوذ.
ورغم أن السلطات العراقية الجديدة أكدت في أول خروج دبلوماسي لها في القمة العربية الأخيرة بالجزائر رفض استخدام بلادها ساحة للصراعات الإقليمية والدولية، إلا أنها لن تكون قادرة على منع هذا الاستخدام أو تضييق نطاق تحركه، ولا سيما من طرف إيران التي نادت فور تشكيل الحكومة بإحياء مشاريع اقتصادية مشتركة مع العراق، أبرزها خط سكة حديد يتخوف كثير من العراقيين من خطورته على أمنهم لسهولة استخدامه في تهريب السلاح والمخدرات، وعلى عملية إعادة تأهيل بنياتهم التحتية، وخاصة ميناء الفاو بمحافظة البصرة، الذي سيمثل جسرا رابطا حيويا للتجارة مع دول الخليج العربية.
إن الارتماء المرتقب للحكومة في أحضان إيران يعود في نظر بعض المراقبين إلى أن الإطار التنسيقي الذي يقودها مدين فيما وصلت إليه لطهران، التي ساعدته في إقصاء التيار الصدري من العملية السياسية برمتها حتى الآن، وذلك بعد تجريده من حاضنته المذهبية ومرجعيته في التقليد عبر الإيعاز إلى آية الله كاظم الحائري اعتزال مهامه وتوجيه مقلديه وأغلبهم صدريون إلى الاقتداء بسلطات المرشد الأعلى علي خامنئي.
ولذلك لم يكن مفاجئا ارتفاع أصوات سياسية ودينية عديدة تحذر مما سيقع، مشيرة إلى أن أعضاء الحكومة الجديدة لا شعور لهم بالانتماء للعراق أكثر من انتمائهم لعصبياتهم وجاهلياتهم وعلاقاتهم المشبوهة مع جهات أجنبية، مؤكدة بذلك أن الصراعات المحتدمة في العراق ليست قط سياسية، ولكن بعضها يروم تغيير هويته، وتقزيم عروبته.