هناك على ما يبدو من يفهم تماما ما يحرك ويجيش اللبنانيين أو الأغلب الأعم منهم ويعرف كيف يلعب على وترهم الحساس، وبالتالي يوظف بدهاء هذه الحرفة ويسخرها لصالحه أولا، ثم لصالح أتباعه وطائفته. وهنا ليس بالضرورة أن تكون هوية هذا الشخص أو هؤلاء الأشخاص الذين يحركون اللبناني ويستغلون الضعف البنيوي في مجتمعه، غير لبنانية، وليس بالضرورة أن يكون هذا النهج نابعا عن سابق تصور وتصميم، ولنتفادى نظرية المؤامرات، فهو- أي هذا النهج- نابع عن ممارسة موروثة تمتد لمئات السنين إلى الوراء، وهذا لا يمنع قطعا عدم سعي قوى خارجية إلى استغلاله لمصالحها الخاصة.
والأمثلة كثيرة في مجال استغلال انقسام اللبنانيين من قبل العامل الداخلي وصولا إلى العمل الخارجي. فمنذ أيام القائمقاميتين، إلى المتصرفية إلى مرحلة الانتداب إلى الاستقلال فالحرب الأهلية والحقبة السورية تاريخ من التلاقي والتداخل بين مصالح خارجية وأخرى داخلية طائفية وفئوية للمجتمع اللبناني. الأولى تسعى إلى حماية شبكة مصالحها وإن اقتضى الأمر دعم جماعة داخل المجتمع على جماعة أخرى والثانية تسعى لمكاسب ضيقة سلطوية قد تتمثل في مناصب بالجمهورية اللبنانية أو صفقات تجارية مثلا.
الصراع على وراثة الإمبراطورية العثمانية من قبل الغرب كان لها أثر كبير على أبناء جبل لبنان وعلى مصير هذه المنطقة تحديدا وإعلان استقلالها وشكل نظامها على ضوء اتفاق سايكس بيكو.
يبقى السؤال ماذا يحرك اللبنانيون؟ لأن مصيرهم ومستقبلهم كما خياراتهم هو رهن هذا الشيء الذي يحركهم فيأخذهم باتجاه ما عوضا عن اتجاه آخر.
في الولايات المتحدة مثلا يقال إن ما يحرك المواطن هو المسألة الاقتصادية وارتداداتها عليه. فيختار أن ينتخب من يعتقد أن برنامجه الاقتصادي سيعود عليه بالنفع. هنا موضوع الربح والخسارة بالنسبة للناخب الأميركي واضحة وتتعلق إجمالا بجيبه ومدخراته ونسب التضخم وموضوع الانكماش الاقتصادي وفرص العمل وسعر المحروقات وتأثير الهجرة غير الشرعية على سوق العمل إلى ما هنالك من أمور ملموسة وواضحة لا لبث فيها. فالأميركي يحاسب الطبقة السياسية على هذا الأساس. بغض النظر عن انتمائه الحزبي. لذا وقبل استلام أوباما زمام أمور الحزب الديمقراطي وجعله حزبا يشبه إلى حد كبير الأحزاب التوتاليتارية كان من الطبيعي أن ترى نائبا ديمقراطيا مثلا يرضي بتصويته وتوجهاته السياسية قاعدة جمهورية في منطقته أو ولايته.
هذا في الولايات المتحدة الأميركية فماذا عن لبنان؟ يتضح أن في لبنان الغريزة الطائفية البدائية وحتى تلك المناطقية هي التي تحرك الناس. وهذا يعود إلى الظن بأن كل طائفة تملك ثقافتها الخاصة وهويتها التي يعمل القيمون على هذه الطائفة حمايتها دائما من خطر الزوال. وفي حالة الخطر التفكير من خارج الغريزة هو مجرد انتحار.
إذن موضوع الربح والخسارة بالنسبة إلى المواطن اللبناني لا يتعلق بأمور كالعلوم الاقتصادية أو الاجتماعية أو السياسية أو البيئة والمحاسبة. وبالتالي لا تتم على هذا الأساس، الربح أو الخسارة يتعلقان بمفاهيم الكرامة والعنفوان. الربح أو الخسارة ينطلقان من مفهوم العار والشرف. لهذا من يفهم اللبنانيين تماما يصور لهم كل الأمور على أنها مسألة عار أو شرف. ومن هذا المنطلق يمكن للزعيم أن يخطئ قدر ما شاء في الاقتصاد والسياسة من دون أن يحاسب طالما يحمي العنفوان والكرامة لجماعته أو طائفته أو منطقته. فمن يستطيع أن ينتقد زعيما في لبنان بموضوعية من دون أن يتعرض إلى الإهانات الشخصية؟ وعلى هذا الأساس من غير المفهوم أن يكون لصهر رئيس الجمهورية السابق كتلة نيابية وازنة وناخبون ومناصرون في حين أن إدارته لموضوع الكهرباء كلفت خزينة لبنان 40 مليار ليرة. هذا يقال على سبيل المثال لا الحصر وينطبق على كل زعماء لبنان من دون أدنى شك التي تجدد لهم البيعة في كل استحقاق انتخابي ليس على أساس النتيجة لعمله في الشأن العام إنما على مدى دفاعه عن كرامة وشرف طائفته وجمهوره.
ومن هنا ليس مستغربا أن يخسر اللبنانيون مدخراتهم ويعيشوا أسوأ الأزمات الاقتصادية والمالية والمعيشية من دون أن تكون لهذه الأزمة أية تداعيات على الطبقة السياسية المسؤولة عنها.
من هنا فإن تأثير كل الكلام الذي يقال في السياسة من قبل اللاعبين اللبنانيين على مجريات الأمور محدود إن لم نقل غير موجود. فمن يجد في الزعيم حصنا للشرف والعنفوان والكرامة لن يهمه إن جاع أو مرض أو اعتاز. أما الذي يعتقد عكس ذلك فتراه يغادر موطن الأرز.