أكد مجلس الأمن الدولي مرة أخرى في قراره رقم 2654 الصادر بتاريخ 27 أكتوبر (تشرين الأول) 2022 جدية ومصداقية مبادرة الحكم الذاتي المقترحة من المغرب، مشيرا إلى أن من شأنها المساعدة في إيجاد حل سياسي واقعي للنزاع المفتعل حول مغربية الصحراء، ولكنه فشل كما كان متوقعا في اتخاذ قرار حاسم في هذا الصدد، والإشارة صراحة إلى أن هذه المبادرة هي الحل الوحيد الممكن لهذا النزاع، مفضلا تكرار نغمة قراراته المعهودة الداعية إلى العمل من أجل الوصول إلى تسوية سياسية متوافق عليها، علما بأنه أكثر المؤسسات الدولية دراية باستحالة التوافق بين كافة الأطراف المعنية بالنزاع، إذ اعتاد مباشرة بعد صدور قراراته سماع تنديد جبهة البوليساريو بتقاعسه في فرض تطبيق حق تقرير المصير مقابل ترحيب المغرب بواقعية تلك القرارات وانسجامها مع معطيات الواقع.
وحسب بعض المتابعين، فإن هذا الموقف المعتاد من مجلس الأمن الدولي إزاء نزاع طال أمده ليس مفاجئا، لأن المناوشات التي يقوم بها أحد الأطراف بين الفينة والأخرى تنفيذا لتعليمات الجهة الحاضنة له، وتمشيا مع إعلانه رسميا عن عدم تقيده بمقتضيات اتفاق وقف إطلاق النار المبرم سنة 1991 لا تمثل حاليا أي تهديد جدي للسلم والأمن الدوليين في منطقة شمال غربي أفريقيا خلافا لعدد من الصراعات الدامية المندلعة في مناطق أخرى من العالم، وخاصة تلك التي تتورط فيها الآن وبشكل مباشر أطراف دائمة العضوية في مجلس الأمن، الذي بات مشلولا باستخدام تلك الأطراف لحق الفيتو.
ورغم أن الأمين العام للأمم المتحدة قد كشف في تقريره إلى مجلس الأمن أن عناصر البوليساريو عملت طوال المدة الماضية على عرقلة تحركات أفراد قوات المينورسو المكلفة بمراقبة مدى احترام وقف إطلاق النار، وحذر في ذات الوقت من مغبة أن ينزلق التدهور الحاصل في العلاقات المغربية الجزائرية إلى مواجهة مباشرة، فإن المجلس أكد اعتقاده الراسخ بأن المعطيات الميدانية الحالية غير ضاغطة على الأمم المتحدة وأجهزتها المتخصصة.
وعلى أساس هذا الاعتقاد لم يجد مجلس الأمن الدولي مفرا من أن يتبنى في قراره الجديد مناشدة السيد الأمين العام لكافة الأطراف المعنية بهذا النزاع بضرورة العودة إلى الالتزام بمسلسل المفاوضات، التي يرعاها مبعوثه الشخصي السيد ستيفان دي ميستورا، والانخراط فيها بحسن نية، من خلال المشاركة في صيغة الموائد المستديرة، خصوصا وأن مناشدة السيد غوتيريش نابعة من قناعته بأن بالإمكان الوصول إلى تسوية سياسية معقولة ومقبولة إذا ما توفرت لدى كافة الأطراف المعنية الإرادة الصادقة والدعم الدولي المطلوب.
ومن المنطقي أن تفرض هذه القناعة على الأمين العام للأمم المتحدة، وعلى أعضاء مجلس الأمن الدولي السعي إلى كسر الحلقة المفرغة التي يدور فيها النزاع منذ أمد بعيد، وتجاوز الصيغ المعهودة التي تدعو فقط إلى أن تؤخذ بعين الاعتبار كل الجهود المبذولة منذ سنة 2007 والتطورات اللاحقة لها، وذلك بـ:
* ضرورة التذكير بأسباب فشل المبعوث كريستوفر روس، والدوافع الحقيقية وراء استقالة خلفه توماس كوهلر، ناهيك عن استحضار جرأة سلفهما بيتر فان فالسوم، الذي لم يخف قناعته بأن خيار الاستقلال الذي تصر عليه البوليساريو خيار غير واقعي، وأن خيار استفتاء تقرير المصير أمر تجاوزه الزمن.
* العمل تبعا لذلك على توسيع دائرة تحرك المبعوث الشخصي الحالي، وعدم تقييد نشاطه بنصوص وإجراءات ثبت عقمها منذ زمن طويل، خاصة وأن قرار مجلس الأمن الجديد على غرار القرار السابق رقم 2602 بتاريخ 29/10/2021 تحدث عن ضرورة التوصل إلى حل سياسي واقعي، مقبول، عملي ودائم، قائم على روح التوافق.
في هذا السياق ينبغي على المؤسسات الأممية أن تعكس ترحيبها بالمقترح المغربي الجدي وذي المصداقية عبر إثارة انتباه الأطراف المتخندقة في موقف واحد منذ اندلاع المشكل إلى أن الحكم الذاتي هو أيضا شكل من أشكال تقرير المصير يتم تبنيه عند استعصاء عملية اللجوء إلى تطبيق الاستفتاء، خصوصا وأن الأمم المتحدة نفسها اعترفت باستحالة تنظيم استفتاء في المنطقة في ضوء ما تابعه مبعوثوها المتعاقبون من تلاعب لممثلي البوليساريو في لجان تحديد الهوية، التي كانت تعمل على تحديد من لهم حق المشاركة في استحقاق الاستشارة الشعبية.
ومن الممكن أن تستند المؤسسات الدولية في هذا التوجه على تجارب دولية سابقة، ودراسات علمية وأكاديمية في القانون الدولي، فضلا عن الواقع الموجود على الأرض، والمتمثل في الارتفاع المطرد لعدد الدول المعترفة صراحة بالحكم الذاتي، والذي وصل إلى 90 دولة، حوالي 30 منها جسدت هذا الاعتراف بافتتاح قنصليات عامة لها في كبريات مدن منطقة الحكم الذاتي المقترحة، العيون والداخلة.
إن أصالة وجاذبية مبادرة الحكم الذاتي التي يطرحها المغرب، الذي بدأ تدريجيا يجسدها على أرض الواقع لا تكمنان فقط في سعة الصلاحيات المقترح منحها لسلطات الحكم الذاتي وهي مهمة، وإنما في كونها لن تطبق بقرار داخلي يمكن التراجع عنه، كما يحاول الانفصاليون إيهام كل من يثير الموضوع معهم، بل ستسندها الإرادة الدولية بتوفير كافة الضمانات لها، وبمشاركة قوى دولية وإقليمية في التوقيع على اتفاقية إحداثها، وترحيب مغربي مسبق بهذا الحضور الدولي.
ومما لا شك فيه، فإن البدء في تنفيذ الحكم الذاتي بضمانات دولية سيكرس منطق «لا غالب ولا مغلوب»في هذا النزاع المفتعل بشكل يساعد كثيرا في تجنيب المغرب العربي حالة عدم استقرار مزمنة، وسباق تسلح يستنزف قدرات بلدانها على حساب احتياجاتها التنموية، ويفسح المجال أمام بناء وحدة مغاربية متكاملة ومفيدة للجميع.