لندن: بين ما سيعرضه مهرجان القاهرة السينمائي عندما ينطلق في الحادي عشر من الشهر المقبل، فيلم المخرج التونسي رضا الباهي «جزيرة الغفران» الذي كان انتهى من تصويره قبل عدّة أشهر، لكنه دخل مرحلة ما بعد التصوير التي امتدت لأشهر أخرى وبسبب ظروف طارئة لم يكن لها علاقة بالتمويل ذاته، بقدر ما كانت معنية بظروف المخرج ومن بينها إدارته لمهرجان قرطاج السينمائي الذي استوعب الكثير من جهده ونشاطه إلى جانب أزمة صحية مرّ بها لعدة أشهر.
عن زهرة حلب
هذا هو الفيلم الأول للمخرج الباهي منذ سنة 2016 عندما حقق «زهرة حلب». قبله عرفناه مخرجاً لا يتوانى عن طرق المواضيع الساخنة بأسلوبه الذي يميل، في بعض أفلامه، إلى صور من ذكرياته وحياته كما في فيلمه «صندوق عجب» (2002). في أفلام أخرى، قصد تقديم أعمال تتطرّق إلى مواضيع معايشة كما في «زهرة حلب» و، قبله، في «السنونو لا تموت في القدس»..
أسس رضا الباهي في «زهرة حلب» لشخصيته النسائية جيداً وسريعاً. هند صبري في دور امرأة تعمل في الإسعاف في مدينة تونس، تبذل ما في وسعها لأجل منح المصابين والمرضى ما يلزم من عناية وإسعافات أولية قبل نقلهم للمستشفى. هي امرأة مطلقة ولديها ابن شاب يفتقد الأبوّة ويبحث عن شيء آخر بديل يعوضه عن هذا الفقدان ويوفر له البحث عن معنى الحياة في بيئة متطرفة. يستجيب الشاب لمجموعة من المتشددين تقنعه بضرورة حمل السلاح والقتال وتبعث به لـ«يجاهد» في سبيل نصرة المسلمين في سوريا.
حين تكتشف الأم ذلك، تجد أن الطريقة الوحيدة لاستعادته هي أن تنضم إلى الجهود النسائية وتتنكر في زي إسلامي كامل وتسافر إلى حلب. لا ذكر لكيف عرفت أن ابنها هناك، لعل أحدهم أسرّ لها بالمكان (وباسم الفصائل والجبهة التي يقاتل الابن فيها)، لكنها الآن في سوريا تمثّل دوراً ترفضه بحثاً عن ابنها.
ينقسم الفيلم، بطبيعة أحداثه، إلى جزأين مترادفين. يقع الأول في تونس تمهيداً لما سيلي، والثاني فيما يفترض أن يكون حلب. في كليهما هناك قدر مختلف من الأحداث. هي درامية اجتماعية في الجزء الأول يماثل الكشف عن مهنة الممرضة كونها تحاول منح الحياة لمن تسعفهم في المسافة الفاصلة بين الحادث والمستشفى وهي تنجح من حين لآخر. ثم يمضي صوب تمثيل حالة فقدانها لابنها وصولاً إلى قرارها بتعقبه إلى حيث سافر. الجزء الثاني هو أحداث تكميلية. هنا لا يغيب المنظور السياسي وحده (وهذا له حق الغياب في بعض الحالات) لكن منح الأحداث مصدراً عاطفياً أو نفسياً أو اجتماعياً أيضاً. في نهاية هذا الجزء، ونهاية الفيلم بأسره، تقدم بطلة الفيلم على القتل وهي التي اعتادت منح الحياة.
هذا تناقض جيد في ذاته، لكن أثره ينضوي سريعاً. يذوب في سرعة إيقاعه ورغبة المخرج بالاكتفاء بسرد الحدث من دون استكمال حشد دواعيه وحيثياته كما كان الحال عليه في الجزء الأول.
نجح «زهرة حلب» على الصعيد العاطفي (تضحية الأم لإنقاذ ابنها) لكنه كان أقل نجاحاً في تطرقه إلى موضوع الحرب ذاتها، بحيث لا يستطيع إلا وأن يبقى على الحواف الخارجية لما يحدث. إنه دراما إنسانية واضحة وذات رسالة مناوئة للتطرف بلا ريب، لكن هناك بضعة مشاهد منفّذة خارج حنكة المخرج المعتادة. على عكس أفلام الباهي السابقة، ليس هناك نية لمعالجة فنية بل متابعة لسرد قصصي ينفّذه المخرج ببعض العناية.
مرجعيات
أفلامه السابقة لذلك كانت أفضل وطروحاتها لا تحتمل تأويلات أو تفتقد إلى الوضوح. وهذا ما يبدو أن المخرج عاد إليه في جديده «جزيرة الغفران». يقول لهذا الناقد: بعد تجربتي في «زهرة حلب» قررت العودة إلى حكاية تنشأ في تونس وتبقى في تونس. «جزيرة الغفران» تستغل، كمكان تصوير، موقعاً طبيعياً خلاباً لحكاية درامية من بطولة شخصيات تعيش فوق جزيرة ما زالت على حالها منذ عشرات السنين وعلى أكثر من وجه.
ويضيف: «لن تكون الغاية تحقيق فيلم سياحي يجذب الناس إلى جربا. لكن مناظرها وطبيعتها البيئية وتعدد أطيافها من البشر عربا وإيطاليين ومسلمين ومسيحيين ويهودا، سيقوم بذلك على نحو تلقائي في اعتقادي».
علاوة على ذلك، البطولة النسائية في هذا الفيلم الجديد لكلوديا كاردينالي. بذلك يعود المخرج الباهي إلى اختياراته السابقة في الثمانينات والتسعينات عندما كان كثيراً ما يستعين بوجوه أجنبية في أفلامه. بالنسبة له، الدافع ليس فقط سهولة التسويق الخارجي بل الحديث عن شخصيات عربية وأجنبية عاشت فوق تلك الجزيرة التونسية (كما في كل تونس) ووجهات النظر المختلفة بين الثقافات.
هذا المنهج هو أكثر مناهج الباهي مثابرة. العديد من أفلامه المنجزة من العام 1972 وحتى اليوم تتضمن طرح العلاقة ضمن حكايات بعضها لا يتبدى، في النظرة الأولى، كما لو كان معنياً بذلك الطرح.
في أحد أفلامه الأولى، وهو «عتبات ممنوعة» (1972) تناول الباهي، وبجرأة باتت نادرة في هذه الأيام، حكاية شاب يلحق بفتاة سائحة ويقوم باغتصابها عندما تتاح له الفرصة. إنه فيلم قصير (من نحو ثلث ساعة) حمل دلالات محددة أهمها الفارق الكبير ما بين عالم قابع في وضع اجتماعي مكبوت (على أكثر من صعيد) وآخر وصل إلى نقطة بعيدة من الحرية الشخصية والاجتماعية. وجود السائحة الشابة، على الرغم مما يبدو من أن أمر هذا الظهور طبيعي، هو الصدام بين الحضارات.
لكن «عتبات ممنوعة» بقي فيلماً صغير الحجم والإرث وكان على المخرج التونسي الانتظار خمس سنوات أخرى ليحقق فيلمه الروائي الطويل الأول «شمس الضباع» (1977) وهو الفيلم الذي جذب أنظار النقاد إليه.
بتمويل فرنسي (ونجاح عروض في باريس وسواها من المدن الفرنسية دام نحو ثلاثة أشهر متواصلة) توسع الباهي في هذا الفيلم في المضمون الذي طرحه عابراً في «عتبات ممنوعة». فـ«شمس الضباع» يتحدث عن ازدواجية المعايير. يفصح عن بعض جوانب العلاقة غير المتساوية بين الوافد وابن البلاد وكيف أن سياسة الانفتاح السياحي قبل تشييد الإنسان المثقّف قد يؤدي إلى كارثة، وهو استعان للتدليل على ذلك بحادثة فعلية وقعت في بلدة القيروان فعلاً.
في هذا الفيلم ضم إلى الممثلين التونسيين (ومن بينهم صالح بن موسى وتوفيق قيقا) الممثلة الفرنسية هيلين كاتزاراس (التي عادت فظهرت في فيلم تونسي آخر هو «حلفاوين» لفريد بوغدير سنة 1990).
على الرغم من النجاح الذي حققه الباهي في «شمس الضباع» تأنى في إختيار فيلمه التالي بضع سنوات. وفي العام 1984 أنجز «الملائكة»، هذه المرّة ذهب المخرج شرقاً إذ تم تمويل الفيلم من قِبل منتجين كويتيين وأسند البطولة إلى فريق من الممثلين المصريين من بينهم كمال الشناوي ومديحة كامل وليلى فوزي.
علاقة الفرد بالآخر
بعد عامين، عاد رضا الباهي أقوى مما كان عليه. ارتبط بتمويل أجنبي في حكاية درامية تمتد من الخمسينات لما بعدها وتحتوي على ذلك الخط الاجتماعي حول تعدد الهويات الثقافية. الفيلم هو «وشم على الذاكرة» الذي ما زال من بين أفضل أفلام الباهي إلى اليوم.
حكاية الغربة إذ يداهم استقلال تونس سنة 1955 شخصياته الأجنبية التي تعيش فوق أرضها. البعض يقرر العودة والبعض يبقى وممن يقرر البقاء المغنية بَتي (كريستي) المرتبطة بعلاقة مع بول لكنه ليس الوحيد الشغوف بها بل ابنه غير الشرعي ونيس (باتريك برووَل) ما يخلق قدراً ملحوظاً من استعادة العقدة الأوديبية الشهيرة.
لكن الفيلم هو أكثر من حكاية حب كون ما يدور في أرجائها من عواطف له علاقة بالانتماء أو دونه. بالرغبة في الانعتاق من الماضي حتى من دون أن تتشكل ملامح المستقبل.
يشرح الباهي منطلقه في هذا التوجه فيقول: «أحاول في أفلامي البحث عن علاقة الفرد بالآخر التي قد لا تكون متساوية لا في الثقافة ولا في المعرفة ولا في العاطفة. كذلك هناك المكان بحد ذاته. البيئة التي تحوي تلك العلاقات الفردية وهي بحد ذاتها تصبح عضواً مهماً في هذا التشكيل لأن المكان أكثر ما يربط الإنسان به وأكثر ما يدفعه للابتعاد عنه».
أمضى المخرج ثماني سنوات ما بين البحث عن فكرة وكتابة سيناريوهات وتذليل عقباب قبل العودة بفيلم جديد عنوانه «السنونو لا تموت في القدس» حاول فيه تصنيف القضية الفلسطينية من زاوية جديدة لم تتطرق إليها الأفلام الفلسطينية أو ذات الشأن الفلسطيني. فالفيلم يجسد ذلك المثلث القائم على مجتمعين وثقافتين من ناحية وعلى التناقض الآتي من عمق التاريخ من ناحية ثانية ثم على المكان ذاته الذي يجمع بين هذه التناقضات. والبطولة فيه كانت لعرب (بينهم ريم تركي ويوسف عياني وعامر خليل) وأجانب (الفرنسيون جاك بيرين وفرنسوا ريغال ولورنس ماسليا).
تجسيد هذه الفكرة ذات القوائم الثلاثية بلغ ذروته في فيلم الباهي اللاحق «صندوق عجب» (2002). الحكاية قريبة هنا من حياة المخرج الخاصة: عائلة مؤلفة من الزوج التونسي والزوجة الفرنسية والابن الحائر. هناك تاريخ عائلي وتاريخ سينمائي فالعنوان يرمز إلى الآلة اليدوية التي كانت تستخدم لعرض الأفلام وكانت تُكنى بـ«صندوق عجب»، لكن المحيط يندفع بشدة صوب تحليل العلاقة بين أفراد العائلة ورغبة الزوجة في الهجرة عائدة إلى فرنسا.
بعد هذا الفيلم الذي شارك ببطولته ماريان باسلر وهشام رستم و(المخرج لاحقاً) عبد اللطيف كشيش، أنجز الباهي حلماً راوده منذ سنوات وكان يرغب في إسناد دور أساسي فيه للراحل مارلون براندو.
«لم يكن براندو في حاجة للإقناع. كان بحاجة لفيلم مكتوب جيداً». قال الباهي بعدما التقى الممثل براندو قبل وفاته بعدة أشهر. المادة الروائية التي تتحدث عن لقاء حضارات عاصف بين الشرق العربي والغرب الأميركي تحولت إلى فيلم تسجيلي بعنوان «دائما براندو»، لكن ما لم يغب عنها هو ذلك الصراع.