باكو: تعيش المنطقة العربية عديد الأزمات بعضها نابع من داخلها وبعضها الآخر انعكاس لتدخلات خارجية؛ إقليمية ودولية، الأمر الذي يؤدي إلى تعقد تلك الأزمات وتشابكها وتداخل عناصرها وتأزم حلولها، وتمثل الأزمة اليمنية نموذجا واضحا لهذا التداخل، بما يتطلب تفكيك أبعادها، في محاولة لإيجاد حلول ناجعة تخفف وطأة الواقع المأساوي الذي يعيشه الشعب اليمني منذ أحداث عام 2011 بصفة عامة ومنذ الانقلاب الحوثي على الشرعية على وجه الخصوص، إذ مثّل هذا الانقلاب نقطة البدء في هدم الدولة اليمنية بعدما بدأت السيطرة على مفاصلها ومؤسساتها، الأمر الذي أوقفته عاصفة الحزم التي قادتها المملكة العربية السعودية بتحالف دولي أدرك منذ اللحظة الأولى حجم الخطر الذي يواجه العالم والمنطقة بسبب السيطرة الحوثية المدعومة إيرانيا.
ومن نافل القول إن ما يعيشه اليمن اليوم ليس وليد الأحداث الأخيرة فقط، بل كان لإيران وجود في اليمن منذ التحول الذي تبنته جماعة الحوثي في ولائها لملالى طهران وتصاعدت حدتها مع حروب صعدة الستة في منتصف العقد الماضي (2005-2006)، إذ مثل ذلك بداية المواجهة الداخلية في الدولة اليمنية، تلك المواجهة التي شهدت تصعيدا كبيرا بعد أحداث 2011 كما سبقت الإشارة، إذ وجدت الجماعة الحوثية الفرصة سانحة للانقضاض على الدولة اليمنية بدعم طهران، مستفيدة من حالة الفوضى التي ضربت عديد دول المنطقة العربية ما بين عامي (2011- 2013).
ومن ثم تصبح من الأهمية بمكان تسليط الضوء على مدى التشابك بين ما يحدث في طهران وانعكاساته على ما يجري في اليمن، ففي السابق اعتبر البعض أن الأزمة اليمنية وتصعيدها أو تهدئة وتيرة حدتها مرتبط بالملف النووي الإيراني وما يشهده من تراجعات أو تفاهمات، إذ حرصت طهران على توظيف الأزمة اليمنية وغيرها من أزمات المنطقة التي تتواجد في تفاصيلها على غرار الأزمة العراقية واللبنانية والسورية، في إدارة عملياتها التفاوضية بشأن برنامجها النووي مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية، سعيا إلى تحقيق مكاسب وإحراز نقاط لصالح برنامجها في سبيل تهدئة هذه الأزمات دون أن تضع حلا نهائيا لها، وإنما تسعى إلى ضبط بوصلتها في كيفية إدارة مثل هذه الأزمات بقدر ما تحقق مصالحها ويمنحها أدوات تعزز مساحات تفاوضها.
وغني عن القول إن هذا النهج التفاوضي الإيراني ليس جديدا بقدر ما إن نجاحها في توظيفه إنما يظل مرهونا بأمرين: الأول، غياب الفاعل الإقليمي أو الدولى في الملف محل الأزمة بما يعطي لطهران مساحة أكبر للتحرك على غرار ما يحدث فى الأزمة السورية، إذ كان للاعب الروسي ومصالحه دور في الحد كثيرا من التمدد الإيراني في تلك الأزمة، مقارنة بالدور الإيراني الواسع في العراق واليمن ولبنان. الثاني، غياب الطرف الداخلي القادر على مواجهة الطرف المدعوم إيرانيا، ولعل ما يحدث في لبنان يمثل نموذجا جليا في هذا الخصوص، إذ إن إخفاق الأطراف اللبنانية على التوحد في مواجهة حزب الله وحلفائه أعطى الأخير الفرصة لتعطيل الحياة السياسية والاقتصادية، إلى الدرجة التي وصلت فيها لبنان إلى مشارف الدول الفاشلة.
وفي ضوء ما سبق، يأتي الحديث عن العلاقة الارتباطية والتشابكية بين الأوضاع الإيرانية الملتهبة وبين تصعيد الأزمات فى المنطقة بصفة عامة والأزمة اليمنية على وجه الخصوص، وهو ما يستعرضه هذا التقرير من خلال محورين:
انهيار الهدنة.. العودة إلى نقطة الصفر
في خطوة لم تكن متوقعة من الكثيرين انهارت الهدنة اليمنية التي كانت قد بدأت تؤتي بعضا من ثمارها تحت الرعاية الأممية والدعم الإنساني للمملكة العربية السعودية، ذلك الدعم الذي شعر به اليمنيون كافة، إذ استطاعت الهدنة أن تفسح المجال أمام دخول المساعدات والمعونات للشعب اليمني بما فيهم الحوثيون، بل ومكنتهم أيضا من الخروج إلى تلقي العلاج في الخارج حينما تم تشغيل المطارات وإعادة عمل الموانئ وكذلك تسهيل الملاحة إلى آخر ما تم التوافق عليه بمقتضى هذه الهدنة التي كان من المأمول أن تستمر لتصبح هدنة دائمة تفسح على أثرها الباب أمام مفاوضات جادة بين الأطراف كافة من أجل وضع نهاية لحرب دخلت عقدها الثاني، بما يمثل خطوة مبدئية في مسيرة استعادة الأمن والاستقرار للدولة اليمنية مع إعادة بناء هياكلها التنظيمية.
ولكن، من دون أية ترتيبات مسبقة رفضت جماعة الحوثي تمديد الهدنة واتجهت إلى تصعيد الأوضاع الميدانية وإشعال المعارك، مستخدمة في ذلك كافة الأسلحة المهربة إليه من طهران، إلى جانب استهداف المواطن اليمني في أمنه واستقراره، لتعيد الأوضاع إلى نقطة الصفر من جديد، وهو التصعيد الذي أفرغ كل الجهود الأممية والإقليمية من مضمونها من ناحية، وكشف عن سياسات المراوغة والمماطلة التي طالما انتهجتها تلك الجماعة الخارجة عن الشرعية الوطنية والدولية والتي تعمل لصالح الدولة الإيرانية التي طالما مدتها بالسلاح والتمويل اللازمين للاستمرار في المعارك من ناحية أخرى.
وعليه، يمكن القول إن رفض جماعة الحوثي لتمديد الهدنة كشف عن إصرار الجماعة وحليفها الإيراني على مواصلة طريقهما لاستنزاف الدولة اليمنية وإنهاكها من ناحية، ومحاولة فرض إرادتهم بالقوة من ناحية أخرى، بما يمكنهما من كسب مساحات سياسية في معركة التفاوض السياسي للضغط على الأطراف الإقليمية والدولية في ملفات أخرى يجري التفاوض بشأنها، وفي مقدمتها الملف النووي الإيراني الذي لا يزال يراوح مكانه في ظل تعقد الأوضاع بسبب الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها عالميا وإقليميا.
إيران وإشعال الأزمة اليمنية.. استراتيجية مستمرة
في قراءة مختلفة للتصعيد الحوثي في الأزمة اليمنية، لا يمكن إغفال الدور الإيراني الفاعل الرئيسي في دعم هذه الجماعة ليس فقط بالسلاح والذخيرة وإنما بالتمويل والخبراء واستراتيجيات التحرك، الأمر الذي يؤكد على ما سبق ذكره بشأن استراتيجية طهران في محاولاتها المستمرة على تصدير أزماتها الداخلية في إشعال توترات خارجية. مع الأخذ في الحسبان أن هذه الاستراتيجية ليست إيرانية الصنع وإنما هي استراتيجية قديمة، عرفتها عديد الدول حينما تعجز أنظمتها الحاكمة عن أداء مسؤولياتها الداخلية، تتجه إلى خلق أزمات خارجية للفت اهتمام الرأي العام الداخلي عما تعانيه من أوضاع مأساوية يعيشها الشعب الإيراني الذي انتفض مؤخرا بسبب مقتل الفتاة الإيرانية مهسا أميني بيد رجال النظام الإيراني، تحت شعار حماية الأخلاق، إذ مثلت هذه الحادثة القشة التي قصمت ظهر البعير، وعود الثقاب الذي أشعل النيران في الجسد الإيراني الذي أصبح متشبعا بالضغوط السياسية والأزمات الاقتصادية، فانفجرت الأوضاع الداخلية بشكل غير مسبوق وصولا إلى رفع شعارات مطالبة بإسقاط نظام الملالي الذي لم يفلح في تحقيق أية طموحات لشعب كان يوما ما من الشعوب أصحاب الحضارات والثقافات، واليوم يقف يتسول احتياجاته الأساسية في ظل أزماته المعيشية المتصاعدة وحرياته المكبوتة.
وفي ظل هذا الداخل الإيراني الملتهب الذي يهدد بالانفجار الكبير بين الحين والآخر، وفي ظل إخفاق خارجي في إدارة الملف التفاوضي بشأن برنامجها النووي، لم يجد نظام الملالي مخرجا من أزماته الداخلية إلا بإشعال الدول التي يملك فيها أجنحه تابعة تمحور جل اهتمامها في تحريك الأوضاع وإثارة القلاقل والاضطرابات والحروب والصراعات سواء اتخذت شكلا سياسيا كما هو الحال في لبنان أو عسكريا كما هو اليمن أو الجمع بين السياسي والعسكري كما هو الحال في العراق وسوريا.
في خضم ذلك، يُفسر الموقف التفاوضي الرافض لتمديد الهدنة في اليمن من جانب جماعة الحوثي في ضوء الضغوط الإيرانية على الجماعة للعودة إلى مرحلة الحرب والصراع، أملا في ممارسة المزيد من الضغوط على الدول الإقليمية والأطراف الدولية الفاعلة في الأزمة اليمنية لتخفيف الضغوط على طهران من ناحية، وتحويل انتباه الرأي العام الإيراني بعيدا عن إخفاقات الداخل إلى أزمات الخارج من ناحية اخرى.
ولكن رغم ما حققته هذه الاستراتيجية الإيرانية والتي انتهجتها سابقا كما حدث في الثورة الخضراء عام 2009، إلا أن نجاحها هذه المرة يواجه صعوبة في ظل حدة التظاهرات الداخلية وتوسيع رقعتها وانتشارها في مختلف المحافظات والمدن الإيرانية، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى تفاعل الخارج ممثلا في الجاليات الإيرانية في مختلف دول العالم والتي خرجت في مظاهرات رافضة للممارسات غير الإنسانية في الداخل وتدخلاته في شؤون عديد الدول في الخارج، بما يفاقم من حدة الغضب الشعبي تجاه النظام الحاكم وسياساته.
نهاية القول إن ما يحدث في اليمن من تفاقم للأوضاع وتصعيد للمعارك وانتهاك للشرعية من جانب جماعة الحوثي يأتي في الأساس من الدعم الإيراني الواسع الذي طالبها برفض الهدنة والعودة إلى المربع الأول، مستفيدة في ذلك من اللحظة الراهنة بتشابكاتها الدولية والإقليمية، إذ تدرك طهران أن ما يشهده النظام الدولي من تحولات جارية بين فواعله الكبرى تجعل الجميع مشغولين بكيفية ترتيب أوضاعه، بما يعطيها مساحة أكبر للتحرك والتصعيد، إلى جانب إدراكها أيضا لما تعانيه المنطقة من أزمات عدة؛ سياسيا واقتصاديا وأمنيا بما يجعل دولها الرئيسية مشغولة بالبحث عن حلول ناجعة لهذه الأزمات خوفا من تفاقم الأوضاع بشكل قد ينذر بتحركات تهدد أمنها واستقرارها.
ولذا، تسعى طهران لتوظيف الأزمة اليمنية وغيرها من أزمات المنطقة للتخفيف من إخفاقاتها الداخلية أملا في عبور الأزمة الراهنة كما سبق لها ذلك، وهو ما يحتاج من الجميع الانتباه إلى التصعيد الحوثي فى اليمن والذي يحمل معه نذر أخطار عدة تهدد الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي معا.