داهم الخريف أوروبا مبكراً هذا العام، فتساقطت أوراق الأشجار الصفراء الذابلة لتتحالف الطبيعة مع الآثار المدمرة لحرب أوكرانيا على الأقتصاد الأوروبي، تزامناً مع التوقعات المتشائمة بكساد اقتصادي، مصحوب بانهيارات سياسية وإضرابات واحتجاجات لن ينجو منها أحد حول العالم بأسره. حتى الصين التى تواجه بطئا في النمو الاقتصادي بأكثر مما واجهته زمن جائحة كورونا والإغلاق التام، مع توقع زلازل سياسية عنيفة، ليس أقلها احتمالات دخول تايوان لبيت الطاعة الصيني، أو مناوشات حدودية تمهد لاجتياح كوريا الجنوبية. بالإضافة لسقوط حكومات واستيلاء كثير من اليمين المتطرف على الحكم في بعض الدول الأوروبية، ولا عزاء للمواطنين العاديين من الكادحين، فهم من يدفع ثمن مغامرات قادتهم من الهواة، بعد أفول عصر الزعامة المحترفة.
وتبقى على المزاود شر البقر، والفضل يرجع للسيطرة على وسائل التواصل الاجتماعي التي أضحت تصنع الزعماء والقادة والأبطال، لكنهم أبطال من ورق لا يصمدون عند أول أزمة، ويُشل تفكيرهم ويعجزون عن الفعل المسبق لتجنب الأزمات. فمما لا شك فيه أن حرب أوكرانيا خير دليل؛ فبعد عقدين من الهدوء النسبي للسلام العالمي، تتفجر الحرب في أوكرانيا، وكان من الممكن تجنبها لو قرأ العالم رسائل بوتين رجل المخابرات العتيد الذي ترعرع في مجد الاتحاد السوفياتي، ثم عاش ليرى بلاده بعد الحرب الباردة تُعامل كدولة من الدرجة الثانية، وتدخل من باب الخدم وتخرج من سلم الشغالين.
ذهب بوتين في فبراير (شباط) 2007 إلى مؤتمر ميونيخ للأمن الأوروبي بهدف وحيد هو تدشين الحرب الباردة الثانية، وخبط على المنصة وحذر من خرق الغرب لوعوده مع روسيا، إبان توحيد ألمانيا بعدم التمدد شرقاً. ولكن حدث العكس، ضم الناتو بولندا والمجر وبلغاريا وتشيكوسلوفكيا في أصعب أوقات روسيا قبل ظهور قيصر روسيا الشاب فلاديمير بوتين، الذي اتخذ سياسته الخارجية كسلاح فتاك للتماسك الداخلي، وبناء روسيا العظمى على أنقاض روسيا المنهارة، وأعلن شعاره الناقوسي: من لم يندم على ضياع روسيا فهو بلا قلب، ومن يريد إعادتها كما كانت فهو بلا عقل. والأنسب هو بناء روسيا العظمى الجديدة، ووقف تمدد عالم القطب الواحد إلى الشرق.
لم يتأخر بوتين كثيراً فعندما غازل الناتو جورجيا بعد افتعال فوضى خلاقة، انتهت بدخول الدبابات الروسية العاصمة الجورجية تبليسي لتعرية حلفاء الانفصاليين في الغرب، لينضم ملف جورجيا إلى أوكرانيا كصراعات مجمدة مع إبراز احتقار أميركا للقانون الدولي في غزو العراق وأفغانستان، والتصرف بأحادية في جميع المشاكل العالمية التي تهدد السلام. ولأن بوتين برغماتي ونهاز للفرص، فقد استغل الثورة ضد رجال روسيا في كييف فضم شبه جزيرة القرم، واستعاد ميناء سيفاستوبول لأحضان روسيا منفذها للمياه الدافئة، واحتفالا بهذه المناسبة دخل بوتين القرم وهو يقود دراجة نارية محاطاً بفريق من شباب الدراجات وهم أشبه بالميليشيات العسكرية، إبان حقبة هتلر وموسوليني. في إشارة لا تخطئها العين، عن قوة أجنحة الصقر الروسي بوتين الذي نجح في التعامل مع خمسة رؤساء لأميركا، وهو كالطود الثابت الخطى لبناء روسيا الجديدة، اعتماداً على السياسة الخارجية، فهو المتصرف الأوحد في سوريا، فاضحاً تردد أوباما. وعندما اندلعت الحرب بين أذربيجان مدعومة بحليفتها تركيا من جانب، وأرمينيا المخذولة من روسيا لحسابات إقليمية، ومراعاةً لأصدقائه المحتملين تركيا وإيران، ولكن الحرب وضعت أوزارها بمحادثات السلام برعاية سيد الكرملين وحده واستبعاد تركيا وإيران، ودخول الجيش الروسي القوقاز مرة أخرى، ولو بدعوى حفظ السلام الهش بين الشعبين الأذري والأرميني.
ولم يكتف القيصر بذلك، بل مد عينيه إلى القارة السمراء خاصة جمهورية أفريقيا الوسطى التي كفرت بالنفوذ الفرنسي، الذي يغني على ملف حقوق الإنسان والديمقراطية فيها، للوصول إلى مناجمها لتأتي روسيا وأيضاً تحتل مناجمها، ولكن بما يشبه التعاون التنموي وبدون دروس في حقوق الإنسان التي لم تراعيها فرنسا في أي من مستعمراتها السابقة. مما يعد نجاحا منقطع النظير للسياسة الخارجية الروسية، التي تنامى أيضاً نفوذها في فنزويلا وليبيا، مما هيأ عودة الحرب الباردة فعلياً، وهو ما تجاهلته أميركا مع الحذر الشديد. فآليات الدمار أصبحت أكثر شراسة، وخطوط المواجهة طالت بأكثر مما ينبغي، فكانت درة تاج السياسة الخارجية الروسية هي الاستيلاء على قاعدة حميميم وطرطوس في سوريا، لتتحول خطوط التماس مع تركيا إلى وسيلة تعاون لدرجة تغاضي روسيا عن إسقاط تركيا للسوخوي الروسية، لغرض في نفس القيصر الذي برح خفاؤه بعد ضم القرم و20 في المائة من أوكرانيا معلناً أن روسيا عادت للساحة الدولية مرة أخرى وبقوة.
اكتفى الغرب بتوقيع عقوبات محدودة الأثر على دولة أقل حجماً مثل إيران، لكن عجلت بقيام حلف ثلاثى بين روسيا وتركيا وإيران ظهرت نتائجه في صفقة الصواريخ الروسية لتركيا، واتفاقية خروج الحبوب من أوكرانيا، والمسيرات الانتحارية المنهمرة على كييف. وهو نجاح غير مسبوق لروسيا منذ عقود الإمبراطورية الأممية عندما كان بريجينيف يعطس في موسكو فيشمت في كوبا. ولأن الضغط يولد الانفجار فكانت الحرب الأوكرانية، نتيجة منطقية لمحاولة انضمامها للناتو، وتهديد المجال الحيوي الروسي، فتم تحميل الدبابات الروسية بزعم المناورات السنوية الحدودية، ولكنها لم تعد إلى قواعدها وفشل الغرب في التقاط الرسالة، بل لم يستمع لنصيحة كيسنجر، آخر من تبقى على قيد الحياة من ثعالب الحرب الباردة، الذي نصح بابتعاد الناتو عن أوكرانيا. ولم يع أو يسمع أحد فتتغطرس وزيرة الخارجية البريطانية في موسكو عشية الغزو الروسي، وبدلاً من نزع فتيل الأزمة تصرفت وكأنها وزيرة خارجية العصر الفيكتوري، عندما كانت سياسة البوارج تربح دائماً فأهملها وزير الخارجية الروسي الأريب، وأنزلت الحاملات دباباتها في ضواحي كييف، بينما الهدف الحقيقي هو قضم شرق أوكرانيا، وبعضاً من جنوبها ليغني زيلنسكي على ليلاه، التي لن ينقذها الغرب من الدب الروسي الذي عاد بقوة و«غشومية» غير مسبوقة، ليعاني الأوروبيون من قسوة الخريف، انتظاراً لكوارث غير معلنة، ليس أقلها تغير رئيس الوزراء البريطاني مرتين في أقل من ثمانية أسابيع. وهذا قليل من النار التي تختفي تحت رماد الحرب الأوكرانية.
فبعد أكثر من أربعة عقود أقمتها في بريطانيا أكاد أن أجزم بأن الأوروبيين لن يتحملوا حرمانهم من «شاي العصاري» مصحوباً ببسكوتهم المفضل، لأنهم لا يختلفون عن بقية شعوب العالم عند نقص السلع كما حدث في الأسابيع الأولى لجائحة كورونا. وقتئذ نسي الناس النظام والأدب واندلعت المعارك في محلات بيع الأغذية، لذا من المتوقع سقوط عدة حكومات أوروبية، وعودة الأغلبية للحزب الجمهوري في الكونغرس الأميركي، مع زيادة التعاطف الشعبي خارج القارة الأوروبية مع روسيا، ليس حباً أو إعجاباً أو تقديراً لبوتين، بل شعور بالغضب من تناقض سلوك وسياسات الغرب حول العالم وإدمانه السلوك الانتهازي الانتقائي للمشاكل الدولية الأخرى. وسيضطر الغرب لمفاوضة روسيا، وسيعلم الأوكرانيون حينئذ أنهم راهنوا على الحصان الخاسر، وكان الأفضل لهم التفاهم مع جارهم الدب الروسي الذي يجيد لعبة الأرض المحروقة، كما أنه يوظف الجليد في جيشه برتبة جنرال لتستمر معاناة العالم من خريف أوروبا.