لندن: قتل مئات المتظاهرين الإيرانيين في الأسابيع الأخيرة، في ظل استمرار زخم أكبر حركة احتجاجية إيرانية هذا العقد. وشهدت أسباب اندلاع المظاهرات تطوراً وتنامياً، فما بدأ بمقتل شابة كردية على يد شرطة الأخلاق التي اعتقلتها بسبب عدم التزامها بـ«معايير» الحجاب، انتشر وتوسع جغرافياً وفلسفياً. وما بدأ كاحتجاج على فرض الحجاب أصبح الآن احتجاجا على نظام الحكم في الدولة، وشعورا بين الأقليات العرقية بأن حياتهم لا قيمة لها. كان الأكراد في مقدمة الاحتجاجات. وعبر الحدود، في إقليم كردستان العراق، تحدث قائد مجموعة مسلحة تضم أكرادا إيرانيين إلى «المجلة» عن الانتفاضة ومضامينها.
مع دخول الاضطرابات الواسعة التي شملت جميع أنحاء إيران في شهرها الثاني، بلغت أعداد القتلى بين المتظاهرين 250 من بينهم 30 طفلا، واعتقل 10 آلاف شخص في 111 مدينة وبلدة. ووضع مئات من المعتقلين في أثناء الاحتجاجات في سجن إيفين سيئ السمعة في طهران، الذي تتهم منظمة هيومان رايتس ووتش سلطاته الإيرانية بارتكاب انتهاكات من تهديدات بالتعذيب وحرمان من الرعاية الصحية. ويشار إلى أن أغلب القابعين في إيفين سجناء سياسيون، ينتمي غالبيتهم إلى أقليات عرقية من سكان إيران، لذلك أصيب المراقبون بالذعر في الخامس عشر من أكتوبر (تشرين الأول) عندما اندلعت النيران في السجن، مما أسفر عن مقتل ثمانية معتقلين وإصابة عشرات غيرهم.
ومن جانبه، ألقى رئيس السلطة القضائية غلام حسين محسني إجئي باللوم في اندلاع الحريق على «عملاء أعداء إيران» مردداً اتهامات المرشد الأعلى علي خامنئي بأن أعداء إيران (تحديداً الولايات المتحدة والسعودية وإسرائيل) يقفون خلف المظاهرات. ولكن إلى جانب هذه الاتهامات المعتادة، سعى قادة إيران إلى توجيه أصابع الاتهام في المظاهرات نحو الأكراد. ليس صحيحاً، هكذا يؤكد قائد الجيش الوطني الكردي الجنرال حسين يزدان بنا لـ«المجلة»، وهو أيضاً زعيم حزب الحرية الكردي- الإيراني المعارض الذي خاض مقاتلوه نزاعاً مسلحاً ضد النظام الإيراني على مدار عقود.
صرح الجنرال يزدان بنا: «المظاهرات والانتفاضة نتيجة لقمع النظام وجرائمه ضد الشعب».
«خرج الناس إلى الشوارع لوضع حد للاحتلال والقمع والنهب. ونحن ندعمهم، ولكننا لم نقدم أي مشاركة مسلحة. ومع ذلك إذا كان بإمكاننا تنظيم انتفاضة الشعب ضد القمع والاحتلال، فسيكون ذلك مصدر فخر لنا، وسنكون أدينا واجبنا. لسنا مختلفين عن شعبنا ولا بلادنا ولا أرضنا. نحن جزء من الأمة، والناس يعرفون أننا ندعمهم».
انتفاضة ضدّ احتلال
كان مقاتلو يزدان بنا هدفاً للصواريخ الإيرانية في قصف غير مسبوق على قواعد التنظيم بالقرب من أربيل في نهاية شهر سبتمبر (أيلول)، والذي أسفر عن سقوط 14 مقاتلا، وإصابة 58 آخرين.
«رجاء، لا تقولوا اضطرابات»، علق يزدان بنا، «بل قولوا انتفاضة ضد احتلال وقمع تراكم على مدار أربعة عقود. وهي مستمرة منذ أكثر من شهر، ولم تتراجع، بل تنامت وتوسعت. بدأت في مدينة واحدة، مدينة مهسا أميني، ثم مدينتين، والآن تغطي جميع أنحاء كردستان، وجميع أنحاء إيران. من الواضح أن الناس يرفضون النظام بأسره. وشعاراتهم موجهة ضد خامنئي. تهاوت جميع المقدسات الخاصة بالنظام تحت شعارات الشعب، ولم يعد هناك مكان لأي من أجنحة النظام».
صحيح ما قاله يزدان بنا. فيما يتعلق بالجغرافيا، اتسع نطاق الانتفاضة، وانتشرت كالنار في الهشيم من المناطق الكردية إلى طهران ومن بلوشستان إلى الأحواز. سعى النظام الإيراني إلى بذر الشقاق والتوترات بين الفارسيين والأقليات، وكذلك بين الأقليات وبعضها مثل الأكراد والأذريين، ولكن باءت كل محاولاته بالفشل.
أكد يزدان بنا: «الوحدة مفتاح النجاح»، مضيفاً: «إنهم (المتظاهرين) متحدون.. ومشكلة الأكراد والجماعات العرقية الأخرى في إيران ليست النظام السياسي الحالي أو المستقبلي، بل هي النظام ونموذج الدولة. فالنظام شمولي فاسد، والدولة غير متلائمة مع السكان. فهي دولة قومية فارسية تتبع الإمامية الاثنى عشرية، في حين يتكون سكانها من ست جماعات عرقية أساسية: الأكراد والأذريين والفرس والعرب والبلوش والتركمان. يملك الفارسيون السيادة، ويتعرض الباقون تحت وطأة الخضوع والقمع لسياسات إدماج ممنهج».
قمع ممنهج وحكم بالقوة
يذكر مراقبون من خارج إيران، بمن فيهم جماعات حقوق الإنسان، أنه منذ اندلاع الانتفاضة، وقعت أسوأ حالات القمع في كردستان وبلوشستان، ولكن كما يقول الجنرال الكردي فإن قمع الأقليات ليس جديداً في إيران.. «قبل الانتفاضة الحالية، تعرض عرب الأحواز إلى هجوم وقمع عنيف». وقال: «تعرض الأكراد والبلوش، وكذلك عرب الأحواز، لمعاناة كبيرة بسبب نظام طهران وسياساتها. وخرج كل من الأكراد والبلوش إلى الشوارع في صورة رمزية منذ البداية. ولكن القوات الأمنية هاجمتهم وفتحت النار عليهم، حتى إن أكبر أعداد الضحايا والجرحى من بلوشستان وكردستان. تتعامل قوات الأمن الإيرانية مع الأكراد والبلوش وعرب الأحواز وكأنها قوات احتلال أجنبية».
وفيما يخص قمع المناطق الكردية، تحدث يزدان بنا عن عدة أسباب: «أولا تحمل القوات الإيرانية مشاعر كراهية شوفينية ضد الأكراد، حيث تعطي قوات الدولة الإيرانية لنفسها الحق في قتل الأكراد طالما وجدت الأمر مناسباً. ثانياً، كان الأكراد في طليعة الرافضين لدولة الملالي ونظامها السياسي. ولم يصوت الأكراد لصالح الجمهورية الإسلامية ولم يخضعوا قط لطهران. وكانت طهران تحكم كردستان بقوة السلاح والعسكر على مدار العقود الأربعة الماضية. ثالثاً، لا توجد مساءلة على أي جرائم وقعت في كردستان، فأي جندي يحق له قتل كردي. رابعاً، إنهم يقتلون الأكراد في مناطق أخرى من إيران لإخافة الناس من النزول إلى الشارع».
ويؤكد القائد الكردي أن وحشية قوات الأمن الإيرانية تزداد كلما استمرت حركة الاحتجاجات.. وقد «بدأت القوات باستخدام أسلحة تستخدم في الصيد من أجل ضرب وإلحاق إصابات وقتل الأشخاص في مجموعات أو وسط حشود. كانوا يضربون الناس وكأنهم يصطادون الطيور. ثم بدأوا باستخدام الكلاشينكوف والبنادق مع أسلحة أخرى ضد المواطنين العُزَّل. وتصاعد استخدام الأسلحة عندما ازدادت صلابة المقاومة. وفي بعض الحالات استخدمت القوات القناصة، ممن يعتلون الجسور الكبرى ويستهدفون النشطاء».
حتى الآن، لم يتدخل المقاتلون الأكراد المقيمون خارج حدود إيران. ويوضح الجنرال يزدان بنا أن ذلك لأسباب وجيهة. «هذه انتفاضة الشعب، فلنترك الشعب يختار ما يريده. لا نريد أن تجد إيران مبرراً لارتكاب جرائم قتل وقمع أخرى. ولكننا ندعم شعبنا. وسوف ننقل صوتهم وما يعبرون عنه إلى العالم. لقد وضعنا قوات البيشمركة في إقليم كردستان في خدمة المعركة ضد داعش، وهي عنصر فعَّال في محاربة التنظيم المتطرف. كذلك لدينا ميدان معركة عند بوابة أربيل الجنوبية، ضد قوات الحشد الشعبي وفيلق القدس».
أما عن دوافع الدولة الإيرانية، فيقول الجنرال: «إنهم غير منتصرين في الواقع، ولا يستطيعون خداع أي شخص سواء في إيران أو خارجها».
أكبر ثورة تحدٍ للنظام
بينما يزداد زخم المظاهرات في إيران، يحتشد نساء الدولة وشبابها وأقلياتها العرقية ضد واحد من أكثر الأنظمة البوليسية القمعية في الشرق الأوسط، في صراع حتمي عنيف، ومع ذلك الحالة العامة في الشوارع مليئة بالثورة والتحدي. يواجه النظام الإيراني أكبر تحدٍ سياسي له منذ أعوام، ولا يبدو أنه يعرف كيف يحتوي الاحتجاجات. ومن أجل تحويل الانتباه عن بركان الغضب المشتعل في المدن والبلدات الإيرانية، تحاول السلطات إلقاء اللوم على القوات الموجودة خارج حدودها وبالتالي شنت هجوماً على القواعد الكردية في العراق في 28 سبتمبر (أيلول).
علق يزدان بنا: «ترغب إيران في أن تظهر للعالم أن الاحتجاجات لا علاقة لها بما يحدث داخل الدولة، ولكنها مدفوعة بشؤون خارجية» وأردف: «إنهم يصدرون هذه الصورة. ويريدون صرف انتباه العالم عنهم. ويهدفون أيضاً إلى تدمير الجناح العسكري للأكراد في الشرق، والممثل في الجيش الوطني الكردي. في أكتوبر (تشرين الأول) عام 2017، هاجمت قوات إيرانية وعراقية (الحشد الشعبي)، بقيادة (الجنرال الذي اغتيل لاحقاً) قاسم سليماني، أربيل وإقليم كردستان. ونحن هنا مع قوات حكومة الإقليم منعناهم وهزمناهم. ولا يزالون يأسفون على هذه الهزيمة، ويرغبون في الانتقام، ولكن لن تدمرنا هذه الهجمات. فجذورنا ممتدة في شرق كردستان وفي قلوب شعبنا. ووحدات حزبنا وجيشنا في مدن وأحياء بلادنا، ونحن مجرد فروع. حتى وإن كسروا الفروع، ماذا سيفعلون بالجذور؟».
وعلى الرغم من تأكيد القائد الكردي على أن مقاتليه لن ينكسروا، فهو يطالب بتوفير حماية من الحلفاء الدوليين أفضل مما يحصلون عليه الآن، قائلاً إن الانتقادات والعقوبات ضد شرطة الأخلاق الإيرانية، والتي وجهتها الدول الغربية هذا الشهر، لا تحقق هذه الحماية. ويشدد: «يتطلب الأمر اتخاذ موقف سياسي مهم، وليس بيانا لينا متحفظا».
لقد انتفض الشعب في أكثر من 90 مدينة إيرانية، وخرج إلى الشوارع، ولكن الولايات المتحدة والأوروبيين يقولون إنهم يتابعون الموقف. أما موقفهم من هجمات الدرون، فهناك الكثير ليقال. هل تستطيع الولايات المتحدة وحلفاؤها التزام الصمت أمام الهجوم على جبهة تتصدى لداعش وعلى جيش يؤدي دوراً مهماً في الحرب ضد داعش؟ هذه القوات تحمي إقليم كردستان، فأين الحماية التي توفرونها لهم؟ كان قادة البيشمركة من الجيش الوطني الحر الذين قتلوا جميعاً من المقاتلين ضد داعش. فكيف يستجيبون لحلفائهم في الحرب ضد داعش؟».
وأكد القائد الكردي: «أكراد الشرق في حاجة الآن إلى تحرك سياسي من المجتمع الدولي. لن يُبقي الإيرانيون على الأكراد، ويعتزمون أن يقمعوهم حتى لا تبقى زفرة حرية في إيران. شعبنا مهدد بإبادة عرقية، كذلك في جنوب كردستان، فإيران تمثل تهديداً لإقليم كردستان وقواته. كذلك الحلفاء يتعرضون لتهديد. إيران تهدد المنطقة كلها. تستطيع الدول صانعة القرار ومجلس الأمن حماية إقليمي كردستان. وإذا لم يحموا الأكراد، فسوف تعود داعش إلى الحياة مجدداً».
وأضاف الجنرال أن المجتمع الدولي يجب أن ينظر في إعادة فرض منطقة حظر جوي على المنطقة، بعد مرور عشرين عاما على رفع هذا الحظر، والذي فُرض لأول مرة لردع الرئيس العراقي صدام حسين عن مهاجمة الشمال الكردي. وأشار: «الحل هو غلق سماواتنا ومنع الإيرانيين من استهدافنا. فإيران لا تحترم العلاقات الدبلوماسية ولا القوة الناعمة. ولا تعرف غير القوة».
وأردف: «أريد تسليح جيشنا بأسلحة متقدمة مضادة للطيران. نحن نحارب الإرهاب، إرهاب التنظيمات وإرهاب الدولة. ونحتاج إلى أسلحة لحماية شعبنا من جميع أنواع الإرهاب. أينما وجد إرهاب في العالم، ستجد رأسه في طهران. لذا نحتاج إلى أسلحة لمحاربة إرهاب كل من داعش والحرس الثوري».
وفي ختام لقائنا مع الجنرال يزدان بنا، سألناه عن آماله، فأجاب بقوة على الفور: «حق أمتنا المقهورة في تقرير مصيرها السياسي بحرية: دولة كردية مستقلة وديمقراطية».