باكو: قرار ليس بالجديد اتخذه تكتل «أوبك بلس»الذي يضم الدول الأعضاء في منظمة أوبك والدول الرئيسية الأخرى المنتجة للنفط في العالم ومن بينها روسيا، في اجتماعه الوزاري المنعقد في الخامس من أكتوبر (تشرين الأول) الجاري (2022) برئاسة الأمير عبد العزيز بن سلمان وزير الطاقة السعودي، وذلك بخفض الإنتاج بواقع مليوني برميل يوميًا، اعتبارًا من نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، إلا أنه أثار حالة من الجدل السياسي على المستوى العالمي، بين توجهين متعارضين، لكل منهما منطلقاته ودوافعه وأهدافه ومصالحه، إذ إنه في الوقت الذي نظرت فيه الولايات المتحدة والعواصم الأوروبية إلى أنه قرار جسد حالة الانحياز الكامل لروسيا في موقفها الراهن بعد بدء عمليتها العسكرية في أوكرانيا في فبراير (شباط) الماضي، يأتي على الجانب الآخر، موقف الدول الأعضاء في التكتل منطلقًا من أبعاد اقتصادية مبنية على دراسة علمية لأسواق النفط واتجاهاتها المستقبلية.
ومن نافل القول إنه رغم أن هذا القرار ليس الأول من نوعه، ولكن سبقته قرارات عدة اتخذها التكتل وهدفت إلى تخفيض حجم الإنتاج حينما تواجه سوق الطاقة تحديات جمة؛ أغلبها مرتبط بوقوع أحداث من شأنها تخفيض الطلب على النفط وبالتالي تخفيض حجم الإنتاج، وبعضها الآخر مرتبط بمدى حاجة الدول المنتجة لمصادر تمويلية لتلبية احتياجاتها المتزايدة دون الحاجة إلى ضخ المزيد من النفط للسوق العالمية سعيًا لتحقيق هامش ربح لاقتصاديات هذه الدول بما يمكنها من توفير الموارد المالية اللازمة لخططها التنموية والمعيشية لمواطنيها.
في ضوء ذلك، يستقرئ هذا التقرير بشكل تحليلي قرار منظمة «أوبك بلس»الأخير الخاص بخفض الإنتاج، للوقوف على ملابساته وتداعياته وانعكاساته ومواقف الأطراف كافة من أبعاده، وذلك من خلال محورين يعكسان مواقف طرفي الأزمة (المنتجين والمستهلكين)، وذلك على النحو الآتى:
خفض الإنتاج... قرار اقتصادي من دون دوافع سياسية
ليست مبالغة القول إن سلعة النفط رغم أنها سلعة اقتصادية إلا أنها تحمل في طياتها أبعادًا سياسية يحاول كل طرف أن يوظفها من أجل تحقيق مصالحه، وهو ما تعارضه منظمة أوبك في توجهاتها وسياساتها منذ تأسيسها، إذ تمركز هدفها الرئيسي في كيفية العمل على استقرار أسواق الطاقة، والمحافظة على أسعار مناسبة تراعي مصالح طرفى المعادلة (المنتجين والمستهلكين)، وهو ما يتسق بدوره مع سياسة النفط السعودية التي ترفض استخدام النفط كسلاح لموازنة المشهد أو لإيلام طرف من الأطراف كما أكد ذلك وزير الدولة للشؤون الخارجية السعودي عادل الجبير، في مقابلة مع قناة «فوكس نيوز»بقوله إن «النفط ليس سلاحاً ولا طائرة مقاتلة ولا دبابة يمكن أن تطلق النار منها».
وعليه يمكن القول إن ما يحدث في سوق البترول اليوم ليس بالأمر الجديد؛ بل سيناريوهات متكررة منذ سنوات طويلة، تخضع- كأسواق حرة- لمعادلة العرض والطلب، التي بالضرورة تتأثر بالمعطيات المحيطة، والظروف الجيوسياسية، بدءا من جائحة كوفيد-19 وتأثيراتها على حركة التجارة الدولية والداخلية، وصولا إلى تأثيرات الأزمة الروسية- الأوكرانية واضطرابات أسواق الغاز والفحم، وارتفاع أسعارهما، في مقابل تراجع أسعار النفط كما أشار إلى ذلك وزير الطاقة السعودي الأمير عبد العزيز بن سلمان، في تصريح له بأن «أسعار الغاز والفحم ارتفعت بنسب أكثر بكثير من النفط في الفترة الأخيرة»، وهو ما جعل من قرار «أوبك بلس»تعبيرًا عن مدى ما يتمتع به هذا التكتل من قراءة سريعة للأحداث والمتغيرات، والاستعداد المبكر لمواجهة أي تقلبات في الأسواق، لضمان تحقيق توازن السوق وتوجهاتها المستقبلية، كما أكد على ذلك وزير الطاقة السعودي في مؤتمر صحافي بعد الاجتماع، بأن «هدف ورسالة منظمة أوبك، هو العمل على استقرار السوق لدفع الاقتصاد العالمي، وسط توقعات بركود اقتصادي عالمي ناتج من تداعيات جيوسياسية لا تمت لأساسيات أسواق النفط بصلة.. وأن ما نقوم به ضروري لكل الدول المصدرة للنفط حتى الدول التي خارج منظمة (أوبك+).. سنواصل الإيفاء بالتزاماتنا تجاه الأسواق». ومما يعزز ذلك أن القرار الأخير بخفض الإنتاج لم يأت من فراغ، وإنما بُني على المتابعة الدقيقة والمستمرة للطلب والعرض في السوق، والعمل الجماعي لتحقيق التوازن، إذ أعطى الواقع مؤشرًا على وجود تباطؤ اقتصادي في عديد الدول المتقدمة والنامية على السواء، وهو ما من شأنه أن يؤدي إلى تراجع الطلب على النفط، عزز من هذا التراجع ما كانت قد اتخذته بعض الدول من قرارات لإيقاف شراء السيارات المستعملة للبنزين ابتداء من عام 2030، وسادت حملة عالمية تضخم من إمكانيات الطاقات المستدامة حالياً لتوليد الكهرباء عوضاً عن المنتجات البترولية، وهو ما سيضر بكل تأكيد باقتصادات الدول النفطية، خاصة في ظل استمرار الارتفاع الملحوظ في أسعار السلع الغذائية والأولية الأخرى. ليؤكد ما سبق وهو أن قرار التكتل جاء استباقيا لمنع الانهيار المتوقع في أسعار النفط وليس دعمًا لروسيا في حربها، ويؤكد على ذلك أيضا أن هذا هو النهج المتبع من جانب المنظمة في جل سياساتها، فعلى سبيل المثال ما حدث مؤخرًا حينما قررت المنظمة في يونيو (حزيران) الماضي (2022) زيادة إنتاج النفط عقب الحظر الأوروبي شبه الكلي للنفط الروسي وتزايد المخاوف من حدوث نقص في الأسواق العالمية، وهو ما قوبل حينها بترحيب أميركي وغربي، ولم يقل أحد إن هذا القرار كان قرارًا منحازًا أو سياسيًا وموجها لدعم الغرب في مواجهة روسيا وإنما كان اقتصاديًا مبنيًا على توقعات ومخاوف من حدوث نقص في الإمدادات، وهو ما حرص على تأكيده الأمين العام لمنظمة أوبك هيثم الغيص بقوله: «المنظمة ليست منظمة سياسية ولا تنحاز لطرف مقابل آخر.. وأن القرار مبني على أرقام وحقائق ووقائع، من كثير من الجهات العالمية، تشير إلى احتمال كبير بحدوث ركود اقتصادي، وأن أوبك وتحالف أوبك بلس قررا استباق الأمور، حيث نأخذ من التجارب السابقة ونستفيد منها».
الولايات المتحدة ورد الفعل الغاضب
على الرغم من جلاء الموقف ووضوحه، بأن ضمان استقرار أسعار النفط ومنتجاته يحتاج إلى معرفة بطبيعة الاستثمار في هذه الصناعة التي تتسم بأنها صناعة من المنبع إلى المصب، وهو ما تحاول أن تتغافل عنه الإدارة الأميركية في رد فعلها المتشدد حيال قرار التخفيض، ظنًا منها- وليس كل الظن إثما- أن الرأي العام العالمي لا يدرك حقيقة الموقف وصعوباته ومسؤولية كل طرف فيه، إذ إنه من غير المعقول أن تُنسب الارتفاعات في أسعار النفط إلى قرار تخفيض حجم الإنتاج فحسب، وإن كان هذا القرار بلا شك سوف يؤثر على مستويات الأسعار إلا أنه ليس العامل الأوحد، وإنما ثمة عديد العوامل المؤثرة على ارتفاع الأسعار، من بينها ما تعاني منه المصافي الأميركية من ضعف الطاقة التكريرية التي لا توازي حجم الاستهلاك الداخلي الأميركي للبنزين ولا توازي نمو سكانها إذ سبق أن حذرت «أوبك بلس»من الأثر الخطير لتقليص الاستثمارات في قدرة العرض على مواجهة الطلب المتنامي في السوق، فعلى سبيل المثال تواجه الولايات المتحدة نقصًا كبيرًا في التكرير منذ 20 عامًا، إذ إنها لم تقم ببناء مصافي تكرير منذ عقود، فالعجز والإخفاق من جانب الإدارات الأميركية المتعاقبة في بناء المصافى الجديدة وتطويرها أدى إلى عدم كفاية الإنتاج الوطني لتلبية احتياجات السوق الداخلية، فضلًا عن التوجه الأميركي نحو التصدير إلى القارة الأوروبية بديلا عن توقف الإمدادات الروسية وتعطش سوق الطاقة الاوروبية، وقد جذب ذلك نسبة من الإنتاج الأميركي التي كان من المفترض توجيهه للداخل، بهدف تعظيم العوائد المتحققة من صادرات الطاقة في ظل مضاعفة الأسعار لما يقرب من أربعة أضعاف تتحملها خزائن الاقتصاديات الأوروبية وتمثل في الوقت ذاته دعمًا كبيرًا للخزانة الأميركية على حساب تلبية احتياجات المواطن الأميركي، فنكون بذلك إزاء خطاب رسمي متناقض من جانب الإدارة الأميركية، إذ كيف ترفع الإدارة الأميركية صوتها مطالبة دول «أوبك بلس»بعدم خفض الإنتاج خوفًا من ارتفاع الأسعار في الأسواق الأميركية، وفي الوقت ذاته تقوم بتصدير كميات كبيرة من الغاز إلى الدول الأوروبية مستفيدة من الأزمة في رفع حجم عوائدها حيث تعد الولايات المتحدة واحدة من أكبر ثلاث دول منتجة للنفط، بجانب السعودية وروسيا، ولديها الإمكانيات لزيادة الإمدادات النفطية، إذا شعرت بأن هناك حاجة لذلك. فالحكومة الأميركية يمكنها السحب من المخزون الاستراتيجي المتوفر لديها، بالإضافة إلى تقليص صادرات النفط الخام. ومن ثم تتمكن واشنطن من تزويد السوق الداخلية بإمدادات أكثر وتقليص أسعار البنزين والديزل في السوق الأميركية.
وإلى جانب هذا الإخفاق الداخلى للإدارات الأميركية في تطوير قدراتها الإنتاجية، تأتي المصالح السياسية لتحكم رد الفعل المتشدد والذي لا يعير أي اهتمام لمصالح الدول المنتجة للنفط والتي تحاول إنقاذ الأسعار من التراجع والانخفاض، حيث ترى واشنطن أن انخفاض أسعار النفط يحقق مصالحها من جانبين: الأول، التقليل من حدة الأعباء التضخمية على المواطن الأميركي بما يضمن أصوات الناخبين قبل نحو شهر فقط من انتخابات التجديد النصفي للكونغرس المزمع إجراؤها في نوفمبر القادم. الثاني، أن أسعار النفط المنخفضة ستضعف من الاقتصاد الروسي الذي يعتمد على صادرات النفط بنسبة كبيرة، وبالتالي تراجع القدرة الروسية على إدارة الحرب في أوكرانيا بما يسرع من حسم المعركة لصالح الولايات المتحدة وحلفائها.
وغني عن القول إن رد الفعل الأميركي حيال قرار خفض الإنتاج، قد أكد في جوهره على ما يردده الكثيرون بأن السياسة الأميركية تتسم بالازدواجية في إدارة علاقاتها الدولية حتى مع حلفائها، فحين تأتي تصريحات المسؤولين الأميركيين بأن هذا القرار ينحاز للموقف الروسي كما جاء في انتقادات الإدارة الأميركية للقرار مدعية على لسان المتحدث باسم البيت الأبيض بأنه: «قصير النظر، فمن الضرورة القصوى المحافظة على إمدادات بترولية وافية... وأنه من الواضح أن مجموعة أوبك بلس متكاتفة مع روسيا»، فإن كل هذا يؤكد على ازدواجية السياسة الأميركية فى إدارة هذا الملف الحيوي في هذا التوقيت العصيب الذي يواجه في العالم بأسره تحديات عدة أبرزها تحدي الطاقة وتوفيرها، يدلل على هذه الازدواجية عدد من المؤشرات أبرزها:
رد فعل عديد العواصم الأوروبية على ارتفاع أسعار الغاز الأميركي الذي يصدر إليهم، وهو ما عبر عنه بجلاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في كلمته أمام مؤتمر لرجال الأعمال عُقد في باريس جاء فيه: «نقول لأصدقائنا الأميركيين، أنتم رائعون، تزودوننا بالطاقة والغاز، لكن هناك شيئا واحدًا لا يمكن أن يستمر لفترة طويلة، وهو أن ندفع أربعة أضعاف السعر الذي تقومون بالبيع به للصناعة لديكم. ذلك ليس المعنى الدقيق للصداقة»، ولم يكن الموقف الفرنسي الوحيد المعبر عن هذا الاستياء بل كان الموقف الألماني أكثر وضوحًا حيث أثارت برلين تساؤلات عدة حول الصداقة مع الولايات المتحدة وطبيعتها ومخرجاتها وعوائدها في ظل مضاعفة أسعار الغاز الأميركي الذي أصبح يحتل النصيب الأكبر من تلبية احتياجات السوق الأوروبية بما يعنى أنه كان الطبيعي أن تنخفض الأسعار بحكم ارتفاع كميات الغاز المصدرة وفقا لمفهوم السوق في أي مكان، فكلما زادت الكمية المشتراه انخفض السعر.
ارتباطًا بما سبق، مطالبة الإدارة الأميركية من الدول الأعضاء في «أوبك بلس»وعلى رأسهم السعودية والإمارات أن تستمر في سياستها الإنتاجية بغض النظر عن تراجع الأسعار بهدف معاقبة روسيا، عبر خفض عائدات نفطها التي تستخدمها في تمويل حربها ضد أوكرانيا؛ بمعنى أنها تطلب أن تدفع الدول المنتجة للنفط فاتورة معاقبة النظام الروسي، من دون أن تأخذ هي بعين الاعتبار مصالح هذه الدول وهواجسها الأمنية في الملفات التي تعنيها من ناحية، ومصالحها الاقتصادية واحتياجاتها التنموية من ناحية أخرى.
رد الفعل من جانب الدول الأخرى الأكثر اعتمادًا على استيراد النفط مثل الهند والصين، لم يكن على قرار الخفض لوقف المسار التنازلي للأسعار في مقابل ارتفاع أسعار الغاز والفحم، بأنه قرار موجه ضدهما، على الرغم من أن البلدين يعانيان أكثر بكثير من معاناة الاقتصاد الأميركي، نظرًا لاعتمادهما بشكل رئيسي على استيراد النفط، وبالتالي ستتأثر أوضاعهما الاقتصادية بشكل كبير بسبب ارتفاع الأسعار، وهو ما يعني مدى تفهمهما للدوافع الاقتصادية وراء قرار الخفض، على عكس الموقف الأميركي الذي حاول توظيف الموقف وإدارته على النحو الذي يضمن تحقيق مصالحه على حساب مصالح الجميع.
خلاصة القول إن ما جرى بشأن قرار التكتل بخفض الإنتاج قد أخذ زخمًا ذا بعدين: الأول، بعد إيجابي يتعلق بجوهر المنظمة وأهدافها والتي تتمحور حول كونها منظمة اقتصادية تستهدف تحقيق الاستقرار في أسواق النفط، وحماية مصالح الدول المنتجة للنفط بعيدًا عن أية صراعات أو مطامع سياسية كما أكد على ذلك وزير الخارجية السعودي الأمير فيصل بن فرحان، في لقائه مع قناة العربية، بقوله إن «قرار (أوبك بلس) اقتصادي بحت، وتم اتخاذه بإجماع الدول الأعضاء، وإنهم لا ينظرون لأي تفسيرات سياسية تتعلق بقرارات (أوبك بلس) وإن هذه الدول تصرفت بمسؤولية، واتخذت القرار المناسب، وتسعى إلى استقرار السوق وتحقيق مصالح المنتجين والمستهلكين». أما البعد الثاني، فيتعلق بتوازنات القوى وصراعاتها، إذ سعى الجميع إلى محاولات فك الارتباط بين مصالحهم الراهنة والمستقبلية، في تجاهل لردود الفعل التي يمكن أن تصل إلى حد التضحية بتحالفات قديمة وصداقات مستمرة، من أجل مصالح آنية.