بيروت: في عدّاد أزمات لبنان، انضم عنصر جديد إلى رزمة التحديات التي لم تفلح الدولة في معالجتها، وفي مقدمتها الملف الصحي المثقل بالمشاكل الناتجة عن افتقاره للمقومات المالية المعدومة، إلى جانب الكادر البشري المتخصّص، الذي غادر بغالبيته بحثاً عن استقرار خارج حدود وطن ينزف من جراح اقترفتها منظومة «لا مسؤولة» لم ترحم مواطنيها بفعل انغماسها بأساليب فساد مزّقت البلاد إلى أشلاء.
حطّ الكوليرا في لبنان بعد نحو ثلاثين عامًا من آخر ظهور له، فتسلّل بغياب الرقابة إلى لبنان حيث إجراءات الحماية لم تحضر استباقياً والعين الساهرة غافلة عن البلاد، على الرغم من تفشي الوباء في سوريا المتداخلة معه بحكم الجغرافيا كما العلاقات البشرية، ليفرض على المعنيين استفاقة متأخرة دفعتهم إلى التأهب بالاجتماعات في انتظار بلورة خطط قد لا تنفع مع ارتفاع الإصابات التي بدأت تتزايد بغياب تدابير فعلية سريعة للحدّ من تفاقم الأوضاع.
الإصابات الأولى سُجّلت في أحد مخيمات النازحين العكارية، والعامل الأساسي لانتشار العدوى هو تلوث المياه، ومع ازدياد حالات الإصابات، لا تزال مضخات محطات الصرف الصحي للمخيمات شبه متوقفة بغياب الطاقة ليبقى السؤال: هل لبنان جاهز هذه المرة لمحاربة هذه العدوى؟
جزم وزير الصحة في حكومة تصريف الأعمال فراس أبيض أن الجهوزية على مستوى النظام الصحي جيدة، لكنه استطرد إلى أساس المشكلة التي تبدأ بتقديم المياه السليمة للمواطنين كما للنازحين، بالإضافة إلى صرف صحي فعّال للتخلّص من الجراثيم الموجودة في المياه المبتذلة، وخلص عقب اجتماع اللجنة الوزارية المكلفة بمكافحة انتشار الأوبئة في السراي الحكومي إلى ضرورة تأمين الطاقة الكهربائية بشكل كامل في المناطق الموبوءة وصهاريج المياه المعقمة بالتعاون مع وزارة الداخلية والجمعيات، وتكثيف وزارة الزراعة للفحوصات اللازمة للمنتجات الزراعية المستوردة والمحلية، مع دعوة منظمات المجتمع المدني التي تعنى بالنازحين المساعدة في تأمين بيئة ملائمة لهم، وكذلك التنسيق مع مصانع الأمصال والجهات المحلية والدولية لتلبية الحاجة لتصنيع المزيد منها بحسب تطور الوضع الوبائي.
أزمة كبيرة.. وتحضير للأسوأ!
على الرغم من التوقعات بوصول الكوليرا إلى لبنان بسبب تسجيل آلاف الحالات في سوريا مع وجود مليون ونصف المليون نازح سوري فيه، قسم منهم ينتقل من وإلى سوريا، إلا أن اتخاذ إجراءات مسبقة لم يحصل، والتحرك بدأ مع تسجيل أولى الإصابات، وبحسب ما أكده رئيس لجنة الصحة والعمل والشؤون الاجتماعية النيابية النائب بلال عبدالله لـ«المجلة» فإنه «من الطبيعي أن تشهد البلاد حالات كوليرا وهي بدأت في مخيمات النازحين السوريين أولاً في الشمال ومن ثم في عرسال ومرشحة للارتفاع والتمدّد»، لافتاً إلى أن «لجنة الصحة بالتنسيق مع وزير الصحة باشرت باتخاذ التدابير اللازمة عبر زيارات ميدانية للاطلاع على الأوضاع، ومن الواضح أن هناك أزمة كبيرة في هذا الملف مرتبطة بدايةً بالاعتمادات المطلوبة لتغطية نفقات مكافحة الكوليرا في ظل شحّ في اعتمادات المؤسسات الدولية المعنية بمتابعة أوضاع النازحين السوريين».
واعتبر أن «غياب الكهرباء في لبنان يعرقل عمل كل محطات الصرف الصحي ويعطّل عمل الآبار وضخّ المياه إلى المنازل ويدفع بالناس إلى اللجوء إلى صهاريج المياه المجهولة المصدر، لذلك فالخوف حقيقي من تفشي الكوليرا بشكل أساسي عبر المياه، لأن انتشارها يكون سريعاً فتلوث المياه بالكوليرا يعني أنها ستفتك مباشرة بآلاف الناس».
أضاف: «نحاول قدر الإمكان اللجوء إلى الإجراءات السريعة على الأرض أي مراقبة الصرف الصحي وتأمين فحوصات سريعة لمياه الريّ والشرب والمتابعة مع منظمات المجتمع الدولي المعنية بالنازحين السوريين لمراقبة أكبر ودرس كل التدابير الأخرى المرتبطة بالعناية وتعقيم المياه، وكذلك تأمين مراكز لاحتواء المرضى وتجهيز المستشفيات وتوفير الأمصال والاحتياط المطلوب منها في حال وجود كثافة في المرضى».
وعلى الدولة أن تقوم بالتحضير للأسوأ حتى لا تتفاجأ، وفق عبد الله الذي أوضح أن «وزارة الصحة، على الرغم من الإمكانيات الضئيلة الموجودة لديها، أثبتت خلال مواجهة كورونا أنها تملك فريقاً متخصصاً في الطب الوقائي بلجانها العلمية»، مشيراً إلى أنه «تم التوافق على أنه يجب الضغط مع الحكومة باتجاه فتح ملف انتقال السوريين من المناطق الموبوءة بالكوليرا من سوريا إلى لبنان وضرورة الحد من توافدهم، والأهم أن تكون هناك إجراءات سريعة باتجاه مراقبة الصرف الصحي ووضع المخيمات والتعقيم المدروس لمياه الشفة طبيّاً».
وشدد على «أهمية التحضير للاحتمالات كافة بشرط أن يكون هناك عمل موحّد، ووجوب استحداث لجنة خليّة أزمة في رئاسة الحكومة أو في الوزارات المعنية للمؤازرة لأن العمل يتطلب جهداً جماعياً ليس فقط من قبل وزارة صحة بمفردها، مع التأكيد على مواكبة لجنة الصحة لعملها في كل الاتجاهات».
بنية تحتية صحية «مهترئة»
بين الكوليرا والتهاب الكبد الوبائي مؤشرات لناحية ازدياد أعداد المصابين أو في ظهور أوبئة جديدة، بحكم الإهمال وتردي الوضع السياسي والاقتصادي وانهيار الدولة ومؤسساتها، ما أدى إلى انهيار الخدمات الذي طال البنية التحتية الصحيّة في لبنان، بحسب ما أوضحه اختصاصي الأمراض الجرثومية المسؤول عن ملف الاوبئة في لجنة الصحة النيابية النائب عبد الرحمن البزري الذي لفت عبر «المجلة» إلى أن «الصحة مرتبطة بالبنية الصحية التحتية وبالبيئة الصحيحة أكثر من ارتباطها بالدواء والمستشفى».
واعتبر «أن الأفراد في لبنان يفتقرون لأساليب العيش السليمة في ظل البنية التحتية المهترئة، فالمياه غير موجودة، والصرف الصحي يطوف على المزروعات والمنازل والأراضي ويلوّث شبكة المياه التي تفتقر للصيانة، والكهرباء مقطوعة، والنفايات لا يتم جمعها بشكل سليم، بالإضافة إلى انخفاض نسبة التلقيح بسبب الأزمة إلى حدود 40 في المائة لبعض الأمراض».
وشدد البزري على أنه «لا يجب مقاربة مسألة الكوليرا من منطلق أن هناك سوريين أدخلوها للبلاد، فصحيح أن الكوليرا موجودة في سوريا من شهر أغسطس (آب)، ولكن لو كان لبنان يمتلك بنى تحتية جديّة، لاتّخذ التحضيرات مسبقاً، لذلك هناك تقصير وإهمال»، لافتاً إلى أن «تقديمات المجتمع الدولي الذي يدعم النازحين في لبنان تتراجع بسبب الأزمات ومنها الحرب الأوكرانية، كما أن أسعار الخدمات في لبنان ارتفعت، وكل هذه العوامل مجتمعة أدت إلى دخول الكوليرا التي لا يزال تفشيها محصوراً وبالإمكان استيعابه واحتواؤه شرط أن تكون هناك جهود جدية للقيام بذلك».
واعتبر البزري أن «المطلوب أن تقوم الحكومة بمقاربة هذا الملف بشكل جماعي بين الوزارات المعنية أي الصحة والطاقة والأشغال والبلديات والتعاون فيما بينها، وكذلك الضغط على المجتمع الدولي لتأمين الإمكانيات اللازمة»، مشدداً على «ضرورة العمل واستنفار كل الطاقات، فالظروف ليست سهلة وإحتمالات الخطر موجودة، ولكن في المقابل الفرصة لاحتواء الأمر لا تزال ممكنة».
المستشفيات حاضرة «وفق الإمكانيات»
بدأت مستشفيات لبنان «المنهكة» من تداعيات جائحة كورونا، وفي ظل هجرة كادرها الطبي والتمريضي وضعف إمكانياتها وافتقارها للمستلزمات والأدوية، تتحضر لمواجهة وباء الكوليرا، وعمدت إدارات المستشفيات إلى إبلاغ كوادرها الطبية بأن يكونوا بحال جهوزية، على وقع جولات لوزير الصحة عليها في مختلف المناطق، مترافقة مع حملات توعية صحية.
وفي الإطار، أكد نقيب أصحاب المستشفيات الخاصة سليمان هارون لـ«المجلة» أن «التنسيق قائم مع الوزارة، وتم إعطاء التوجيه للمستشفيات للتأهب على الرغم من الصعوبات لتكون على استعداد للمواجهة»، مشيراً إلى أنه «يتم تجهيز غرف العزل وتدريب العاملين وتذكيرهم بكيفية الاعتناء بالمرضى، وتوفير الأدوية والمستلزمات الضرورية للعلاج».
ولفت إلى أن «كلفة العلاج من الكوليرا في المستشفى غير مرتفعة، والعلاج يكون عبر المضادات الحيويّة، والبقاء في المستشفى حوالي ثلاثة إلى خمسة أيام»، وقال: «تستطيع المستشفيات أن تستوعب استقبال مئات حالات الإصابة بالكوليرا لكن ليس الآلاف منها، وإلا سنكون أمام أزمة حقيقية»، موضحاً، أنه «لا تستوجب كل الحالات دخول المستشفى».
وعلى الرغم من تأكيده بأنه «في مدة أقصاها أسبوع ستكون المستشفيات جاهزة للتعامل مع الوباء الجديد»، وأوضح هارون أن «القطاع الاستشفائي في حالة مزرية، ولكنه يعمل على مبدأ الاستمداد من الضعف قوة وبذل الجهود وفق الإمكانيات»، موجهاً النداء إلى «المنظمات الدولية لتساهم في الدعم للمصابين، فالدولة غير قادرة كما الأفراد على تغطية التكاليف، والمرض انتشر من الوافدين في مخيمات النازحين، وبالتالي المساعدة الخارجية ضرورية لتتمكن المستشفيات اللبنانية من التعامل مع الموجة المرتقبة».
إجراءات وقائية في المدارس
من المعروف أن مدارس لبنان، خصوصاً الرسمية تعاني من أزمة مالية حادة، وسبق أن عجزت عن تأمين مستلزمات الوقاية من فيروس كورونا بشكل مستمر، على الرغم من المساعدات التي كانت تأتي من جمعيات محلية ودولية.
وفق ما أكدته مصادر وزارة التربية لـ«المجلة» فإن التدابير الحالية لخّصها وزير التربية والتعليم العالي في حكومة تصريف الأعمال عباس الحلبي تعميماً إلى المسؤولين عن المؤسسات التربوية الرسمية والخاصة حول الإجراءات الوقائية من الأمراض الوبائية والمعدية ومنها الكوليرا.
وتتضمن الإجراءات توفير المعلومات للهيئتين الإدارية والتعليمية والأفراد العاملين والأهل والتلامذة والطلاب، وتكثيف الجهود لتأكيد غسل التلاميذ والطلاب أيديهم بالماء والصابون وبالطريقة الصحيحة، إضافة إلى تأمين نظافة البيئة في المؤسسة التربوية، بما في ذلك طاولات الدراسة والمرافق الصحية، وتأمين الصابون والماء والمناديل الورقية في جميع مرافق غسل اليدين، مع تأمين عبوات تحتوي على سائل التعقيم في الممرات أو داخل الصفوف.
وتشمل الإجراءات تأمين نظافة وسلامة المياه في المؤسسة التعليمية، ومطالبة الأهالي بعدم إرسال أي تلميذ يشكو من العوارض المرضية، على أن يقوم كل من أفراد الهيئة التعليمية بمراقبة تلاميذ صفه وإحالة كل من يظهر عليه أحد العوارض إلى المسؤول الصحي في المؤسسة لإبقائه في غرفة الصحة، ريثما يتم الاتصال بالأهل لاصطحابه ومتابعة وضعه الصحي.
في الخلاصة، فإن لبنان أمام امتحان صعب، ويتطلب من الجهات المحلية قبل المنظمات الدولية المعنية، تحمّل مسؤولياتها والقيام بواجباتها قبل أن تتمدّد العدوى، وحينها يكون قد «فات الأوان».