بيروت: يتصدرّ ملف ترسيم الحدود البحرية الجنوبية بين لبنان وإسرائيل المشهد الداخلي إثر التطور النوعي الذي طرأ على الملف مع موافقة الطرفين على المقترح الخطي الأميركي على قاعدة «نصر للجميع»، وذلك بعد أشهر من الجولات المكوكية لوسيط الولايات المتحدة آموس هوكشتاين بين بيروت وتل أبيب وما رافقها من تصعيد من جانب إسرائيل وحزب الله كاد يُطيح بما أُنجز.
وبعد أخذ ورد وصلت مفاوضات ترسيم الحدود البحرية إلى خواتيمها وسط أجواء إيجابية أوحت بأنه بات على مسافة أيام من توقيع الاتفاق الذي وصفه الرئيس الأميركي جو بايدن بـ«الاختراق التاريخي». وكما لو انه تم توقيعه اتصل الأخير مساء الثلاثاء بكل من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد «مهنئاً». ما يشير إلى أهمية الدور الذي لعبته الإدارة الأميركية لابرام هذا الاتفاق الذي سيشكل دفعا كبيرا لخططها في المرحلة القادمة لاسيما في المواجهة التي خلّفتها العقوبات على روسيا وتقليص حجم توريد الغاز الروسي بسبب الحرب على أوكرانيا.
وقد أعلن المسؤولون اللبنانيون أن الصيغة النهائية للعرض مرضية للبنان وتلبي مطالبه بعد تسلّم نائب رئيس البرلمان إلياس بوصعب، مساء الاثنين الفائت، النسخة الرسمية النهائية المعدلة للاقتراح الذي كان قد تقدم به الوسيط الأميركي، وسلّمها بدوره صباحاً إلى عون الذي أكد أنها «حافظت على حقوق لبنان في ثروته الطبيعية وذلك في توقيت مهم بالنسبة إلى اللبنانيين»، في وقت طلب فيه رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي ممثلي شركة «توتال» المباشرة بالإجراءات التنفيذية للتنقيب في المياه اللبنانية فوراً.
في إسرائيل
إلى ذلك، أُعلن في إسرائيل أيضا أن بايدن ولابيد أكدا خلال اتصال هاتفي بينهما أن «اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع لبنان سيضمن أمن إسرائيل». وقال لابيد: الاتفاق مع لبنان إنجاز تاريخي سيعزز أمن إسرائيل ويضخّ المليارات في الاقتصاد الإسرائيلي ويضمن استقرار حدودنا الشمالية، وسيتم عقد اجتماع للحكومة الأمنية المصغرة وللحكومة الأربعاء للموافقة على الاتفاق».
وفي السياق، هنّأت السفيرة الأميركية في لبنان دوروثي شيا، الشعب اللبناني بإنجاز «الترسيم البحري مع إسرائيل، وكل من لعب دوراً بنّاء في المفاوضات»، وأكدت أن «هذه الاتفاقية ستعزز الاستثمار الخارجي في لبنان وهذا أساسي إزاء الوضع المأساوي في البلد».
ولفتت في كلمة لها من السفارة إلى أنه «يمكن للبنان التعويل على التطور في مجال الطاقة والموارد الطبيعية ستكون مفتوحة للاستيراد والتصدير، ومن المهم التزام الجميع بتعهداتهم»، وأضافت: «حقول الغاز ستُؤمّن موارد طاقة للأسواق والمهم الآن التزام الأفرقاء بالتزاماتهم بموجب هذا الاتفاق».
ضغوط أميركية
وبعد النكسة التي أصابت الاتفاق الأسبوع الفائت والتي أطاحت بالأجواء الإيجابية، مصادر متابعة للملف، اكدت لـ«المجلة» على أن «ثمة ضغوط أميركية هائلة لتمرير الاتفاق، وصلت إلى حدود التواصل مع نتنياهو لتخفيف الضغوط عن لابيد، ترافقت مع اتصالات مكوكية بالمسؤولين اللبنانيين»، مشيرة إلى أن «الاتفاق أُنجز على قاعدة إعلان الطرفين أن الورقة النهائية تلبي طموحاتهما ورغباتهما على نحو كامل، وصولا إلى حدود اعتباره انتصارًا تاريخيًا لكليهما».
كما لفتت المصادر نفسها إلى «الخروج من عنق الزجاجة، من حيث أن الترسيم قد يُشرع الباب أمام حلول متكاملة للأزمات اللبنانية، بدءًا من انتخاب رئيس جديد، وصولا إلى ترتيب أكثر ليونة مع الـIMF»».
ويعوّل المسؤولون اللبنانيون على هذا الاتفاق للخروج من الأزمة الاقتصادية المستمرة منذ ثلاث سنوات، ففي حال سارت الأمور كما يجب، فإن لبنان بذلك سيدخل نادي الدول النفطية في الوقت الذي يزداد فيه الطلب العالمي على الغاز والنفط بفعل تداعيات الحرب في أوكرانيا ومدى تطّورها نحو الأسوأ، مع ما يتهدّد أوروبا من شتاء قاسٍ في ظل حاجتها إلى موارد للطاقة غير متوافرة في المدى المنظور.
مضمون الاتفاق
ووسط التكتم اللبناني الرسمي حيال بنود الاتفاق، أفادت مصادر مطلعة على أجواء ملف الترسيم بأن «لبنان حصل في الاتفاق على ما كان يُطالب به، أي الخط 23، بالإضافة إلى حقل قانا، من دون اقتطاع أي جزء من البلوكات النفطية اللبنانية (8 و9 و10)، مقابل احتفاظ إسرائيل بحقل كاريش كاملاً.
كما أردفت: «نحن في الأمتار الأخيرة من إبرام الاتفاق، وهو من مصلحة لبنان، وهناك عوامل عديدة لعبت دوراً في تسريع المفاوضات».
إلى ذلك، نشرت وسائل إعلام إسرائيلية، بنود الاتفاق الذي سربته مصادر إسرائيلية استنادا إلى مكتب رئيس الوزراء الإسرائيلي:
• الاعتراف بالخط الحدودي في البحر بين إسرائيل ولبنان، ولن تكون هناك مطالبات بتغيير الخط ما لم يتم التوصل إلى اتفاق مستقبلي آخر بين الطرفين.
• بعد خط العوامات، سيعتمد الخط البحري على الخط 23 (الحدود البحرية المستقبلية بين البلدين).
• ستحصل إسرائيل على تعويضات مالية عن عائدات خزان قانا وفقا لمفاوضاتها مع شركة توتال الفرنسية.
• ستتلقى إسرائيل من الحكومة الأميركية ضمانات تؤكد التزام واشنطن بكافة حقوقها الأمنية والاقتصادية، حال قرر حزب الله أو طرف آخر الطعن في الاتفاقية بشأن ترسيم الحدود البحرية مع لبنان.
• تشمل الضمانات، الدفاع عن إسرائيل وحماية حقوقها الاقتصادية في خزان قانا، بالإضافة إلى منع عائدات الخزان من الوصول إلى حزب الله وفقًا لنظام العقوبات القائم في الولايات المتحدة.
لا اتفاق بل ترتيبات لاستخراج الغاز
وفي الأثناء، قال الرئيس السابق للوفد اللبناني المفاوض على الحدود البحرية اللواء عبد الرحمن شحيتلي، إن «الاتفاق وقع لكن حتى الآن هو ترتيبات لاستخراج الغاز بين الطرفين، وبالتالي لم يرق إلى مستوى الاتفاق الحدودي، وهو ما يعكسه تصريح نائب رئيس مجلس النواب إلياس بوصعب الذي أكد أنه لا معاهدة بين الطرفين، فقد حرص الأخير على التأكيد بأن «لبنان وافق على الورقة التي عرضت عليه»، في إشارة حاسمة بأن لا اتفاق حدوديا أو إبرام اتفاق مباشر حول ترسيم الحدود البحرية.
وأوضح شحيتلي في حديث لمجلة «المجلة» أن ما يجري، هو عبارة عن ترتيبات تسمح للطرفين بالاستفادة الاقتصادية من استخراج الغاز والنفط شمال وجنوب خط «هوكشتاين»، مشيرا إلى أنه «حتى الساعة لم يؤكد أي طرف أن خط هوكشتاين يتطابق كليا مع الخط 23، وهذا يعني أننا أمام خط أزرق جديد يحترمه لبنان من جهة وتحترمه إسرائيل من جهة ثانية على غرار الخط البري».
وأضاف شحيتلي، أن الولايات المتحدة نجحت في أن يحصل كل طرف على ما يريده من خلال هذه الترتيبات.
وأشار إلى أن «المادة 74 من القانون الدولي للبحار تنص على أنه إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق بين الأطراف المتنازعة خلال مدة معقولة، فيجب على تلك الأطراف اللجوء إلى ترتيبات مؤقتة تسمح لها بالاستفادة اقتصاديًّا من المناطق المتنازع عليها حتى التوصل إلى اتفاق نهائي».
وحول التخبط الإسرائيلي بخصوص التعديلات التي طلبها الطرف اللبناني على الاتفاق، رأى شحيتلي أنه «كان واضحا أنه لن يؤثر سلبا لأن إسرائيل ليس لديها خيار ثان، وقد صرح رئيس وزراء إسرائيل بأن بلاده أخذت الأمن وحقولها النفطية مائة في المائة، ما يعني أنه في حال فشل الاتفاق فحقولهم وأمنهم مهدد، بينما في حال أبرم الاتفاق فيعني أن إسرائيل رابحة، وكذلك لبنان من حيث البدء باستخراج النفط والغاز من كافة الحقول اللبنانية شمال خط 23 وكذلك حقل قانا بكامل موجوداته للطرف اللبناني بعد انتظار 12 سنة».
لبنان أمام تاريخ جديد
ولفت إلى أنه «في حال باشرت شركة توتال الفرنسية بالعمل والتنقيب مباشرة فور إعلان الاتفاق كما يشاع، فهذا يعني أن لبنان أصبح مغطى إلى حد كبير من الناحية الاقتصادية وبالتالي استقطاب الاستثمارات».
وأضاف: «في حال بدأت عمليات تنقيب واستخراج النفط والغاز فهذا يعني أن لبنان أمام تاريخ جديد، لا سيما وأن لبنان لديه الحقل رقم 4 الذي تم اكتشافه ويستطيع البدء فورا بالاستثمار فيه، أما باقي الحقول فهي حقول واعدة»، مشيرا إلى أن «ما يجري هو أمر إيجابي كبير ومهم جدا بالنسبة للبنان حتى لو كان لا يرقى لمستوى معاهدة حدودية وهذا لا يضر لبنان على الإطلاق».
كما أشار شحيتلي، إلى أنه «من المرتقب التوقيع على محضر اجتماع ضمن اتفاق إطار في الناقورة برعاية الأمم المتحدة ينص على احترام خط هوكشتاين من الجهتين»، لافتا إلى أن «هذا سيرتب على كل دولة خطوات معينة، فإسرائيل ستواجه خطوات أكبر من حيث سحب إعلانها عن الخط رقم 1 من الأمم المتحدة وهذا ما يتطلب موافقة الحكومة الإسرائيلية، وكذلك ثمة اتفاقية بين إسرائيل وقبرص بين الرقم 1 والخط 23 وهي مبرمة في الكنيست الإسرائيلي ما يتطلب تعديلا مع الجانب القبرصي»، وتابع: «ثمة خطوات كبيرة مطلوبة من الجانب الإسرائيلي وهو تحدٍ كبير لها في الداخل، بينما لبنان ليس المطلوب منه خطوات دستورية كبيرة كما هو المطلوب من الأخيرة».
الاتفاق الحدودي والأمن
ولكن هل من شأن هذا الاتفاق منع أي تطور عسكري جنوبا، قال شحيتلي إن «أي اتفاق اقتصادي يفترض أن يتضمن حماية أمنية تشجع الشركات على الاستثمار لأن أي تهديد أمني من شأنه أن يطيح بها».
مراسم التوقيع في الناقورة
في السياق، أشارت المصادر إلى أن مراسم التوقيع الرسمي للاتفاق ستكون في مقر قوات حفظ السلام الدولية (يونيفيل) في الناقورة جنوب لبنان، بحضور الطرفين اللبناني والإسرائيلي والوسيط الأميركي وممثلين عن الأمم المتحدة كونها راعية المفاوضات، على أن يُسجل لاحقاً لدى الأمم المتحدة كمرسوم مُعترف به دولياً.
تحوّل استراتيجي للبنان
من شأن التوصل إلى اتفاق لترسيم الحدود البحرية أن يسهّل عملية استكشاف الموارد النفطية ضمن مياه لبنان الإقليمية. وتعوّل السلطات اللبنانية على وجود احتياطيات نفطية من شأنها أن تساعد البلاد على تخطي التداعيات الكارثية للانهيار الاقتصادي المتمادي منذ نحو ثلاثة أعوام.
وقد أشار رئيس الجمهورية ميشال عون، في وقت سابق إلى أن شركة «توتال» مستعدة للتعاون مع لبنان في التنقيب، فور التوصل إلى اتفاق، لافتا إلى أنه حرص طوال الأشهر الماضية على «ضمان حقوق لبنان في مياهه وتوفير الظروف الملائمة لبدء عمليات التنقيب في الحقول النفطية والغازية المحددة في المنطقة الاقتصادية الخالصة التي يفترض أن تبدأ بها شركة توتال الفرنسية».
في السياق، أشار المحلل السياسي الصحافي منير الربيع، إلى أن «لبنان أرسل بعض التعديلات على المقترح الأميركي المتعلق بالمنطقة الأمنية التي يرفضها، ويرفض دفع تعويضات للإسرائيليين».
ولفت في حديث لـ«المجلة» إلى أنه «بالرغم من أن الصراع في الداخل الإسرائيلي السياسي والانتخابي والتنافسي كاد أن يطيح بالاتفاق، إلا أن ثمة ضغطا أميركيا كبيرا لتمريره».
ورأى أن «هذا الاتفاق هو تحوّل استراتيجي بالنسبة للبنان لأنه سيؤدي إلى اتفاق يتعلق بتمديد أمد الاستقرار بالجنوب، وهو ما يعني أن حزب الله بشكل أو بآخر اعترف بترسيم الحدود أي إنه اعترف بحدود إسرائيل ما يعني أن لبنان وإسرائيل دخلا في حالة هدنة».
ورأى الربيع أنه «يمكن اعتبار أن لبنان يحقق مكسب الاستقرار، والمكسب الثاني هو التنقيب واستخراج الغاز، ولكن فيما بعد يطرح سؤال أساسي وهو كيف سيتم تصدير هذا الغاز»، موضحا: «هناك خياران إما عبر الأنبوب المصري المستخدم من قبل إسرائيل أيضا، وإما البحث عن وسيلة في البحر أو بيع الغاز للشركة المنقبة».
وعن قدرة هذا الاتفاق على إخراج لبنان من الأزمة الاقتصادية، قال الربيع إن «عملية التنقيب واستخراج النفط بحاجة من 6 إلى 7 سنوات، ولبنان لا يحتمل هذه المدّة، وحتى لو استخرج النفط غدا طالما لا يوجد خطة إصلاحية أو برنامجا اقتصاديا واضحا وسلطة سياسية منسجمة وقادرة على إعادة العلاقات مع العرب والغرب واستعادة الثقة، ومن دون ذلك لن يؤدي الغاز إلى إصلاح اقتصادي لأنه سيصب في مصلحة القوى السياسية الموجودة التي تريد إطالة أمد وجودها».
هذا ويتنازع لبنان وإسرائيل على منطقة بحرية غنية بالنفط والغاز في البحر المتوسط تبلغ مساحتها 860 كيلومترًا مربعًا، وتتوسط الولايات المتحدة في مفاوضات غير مباشرة بينهما لتسوية النزاع وترسيم الحدود.
وهذه هي المرة الأولى منذ بدء المفاوضات غير المباشرة بين لبنان وإسرائيل قبل عامين، التي يعلن فيها عن تقديم رسالة خطية من الجانب الأميركي حول ترسيم الحدود، بعدما كانت قد تسارعت التطورات المرتبطة بالملف منذ شهر يونيو (حزيران) الماضي بعد توقف لأشهر، إثر وصول سفينة إنتاج وتخزين على مقربة من حقل كاريش، تمهيداً لبدء استخراج الغاز منه، وهو الذي يقع الخلاف عليه بين لبنان وإسرائيل.
وكانت المفاوضات بين لبنان وإسرائيل انطلقت في عام 2020، ثم توقفت في شهر مايو (أيار) 2021 جراء خلافات حول مساحة المنطقة المتنازع عليها.