لندن: لم يكن متوقعاً يوم الاثنين الثالث من أكتوبر (تشرين الأول) أن يتراجع الإقبال على مشاهدة فيلم Blonde على النحو السريع الذي تحقق. حيث كان قد استمتع بالمركز الأول حسب حجم المشاهدات لأقل من أسبوع قبل أن يخلفه فيلم تشويقي من بطولة جيرارد بتلر بعنوان Last Seen Alive .
كان «بلوند» عُرض في مهرجان فنيسيا حيث تقاسم ردّات فعل تراوحت بين الإيجاب والسلب. بينما لم يتجاوب النقاد الأميركيون كثيراً مع الفيلم الذي يسرد حياة الممثلة مارلين مونرو واتهمه البعض (كما حال ناقدة «ذا نيويورك تايمز» مانولا دارغيس) بالمتاجرة بالراحلة.
على أنه لا سُلطة للنقاد على المنصّات الإلكترونية وبالتأكيد ليس على «نتفلكس». ما حدث هو أن الجمهور وجد أمامه فيلماً «أفكار» عن الممثلة وليس قصّة حياة محكية على النسق الهوليوودي المعتاد في أفلام السير والبيوغرافيا.
«بلوند» ليس «ألفيس» االذي طُرح في الصالات قبل نحو شهرين من ناحية أنه ليس عن تلميع صورة مونرو بل عن وضعها في الإطار الصحيح الذي لا بد أن يكون داكناً كالحياة التي عاشتها الراحلة.
ألغاز مونرو
على الرغم من ذلك، فإن مصير «بلوند» لن ينتهي عند هذا الحد. المرجّح بشدّة أن تدرجه «نتفلكس» في عداد هجومها المركّز على جوائز الموسم المقبل الذي يبدأ بجوائز «غولدن غلوبز» وينتهي بجوائز الأوسكار بعد أن يمر على جوائز جمعيات المخرجين والمنتجين والكتّاب والممثلين.
ما هو شبه مؤكد أن الفيلم ستكون له جولات مختلفة في مسابقات الأوسكار المتعددة كتمثيل (آنا دَ أرامس في دور مارلين مونرو رائعة) وكإخراج (أندرو دومينيك) وكأفضل فيلم.
كذلك، لا يعني عدم احتفاء جمهور «نتفلكس» بالفيلم بالحجم المتوقع أن نجم مارلين مونرو قد خفت. بعد ستين سنة على موتها ما زالت صاحبة الأنوثة الطاغية وأدوار الإغراء ذات الأسلحة الناعمة والفتّاكة لها حضور مهم وكبير على الساحة الفنية والإعلامية. حضور لم تمحه حقيقة أنه في غضون هذه العقود الستة توالت الأجيال بطبيعة الحال لكن هذا لم يؤثر كثيراً على حضورها الدائم كواحدة من أساطين السينما الأميركية التي اعتلت عرش أشهر ممثلات التاريخ.
هذا مردّه متعدد المصادر. هناك حقيقة أن أدوارها لبّت شبق الرجال وفانتازيّاتهم كما لم تفعل ممثلة أخرى. وهناك حقيقة أنها حظيت بتغطية إعلامية غير مسبوقة لممثلة أخرى، وكذلك حقيقة أنها كانت على علاقات عاطفية شملت ممثلين ومخرجين ورؤساء استوديو ومفكرين ومشاهير آخرين. وإذا كان كل ذلك ليس كافياً فإن علاقتها بالرئيس جون ف. كيندي وحدها كانت كافية لتثبيت حضورها الإعلامي.
حتى موتها بدا كما لو كان ملائماً لألغاز حياتها. هل ماتت منتحرة؟ هل ماتت مقتولة؟ هل ماتت لمجرد أنها أخذت جرعة إضافية من الحبوب المنوّمة فلم تستيقظ بعدها؟
ما يغيب عن بال الكثيرين أنها كانت كذلك ممثلة جيّدة.
هذا ليس من باب إعادة الاعتبار بل واحد من الحقائق التي يمكن تلمّسها من مجرد استعادة بعض أفلامها التي بلغت 31 فيلماً سينمائياً أولها دورها الصغير كنادلة في مقهى في فيلم Dangerous Years سنة 1947 وآخرها دورها الأول في فيلم The Misfits سنة 1961.
وُلدت باسم نورما جين باركر (وبعض المراجع تقول إن اسمها هو نورما جين مورتنسن) في الأول من شهر يونيو (حزيران) سنة 1926. هذا يعني أنها ماتت وهي في السادسة والثلاثين من العمر وفي نفس مدينة ولادتها كون أمها عملت لحين كمساعدة مونتير. لكن من يريد العودة إلى تاريخ حياة هذه الممثلة عليه أن يلجأ إلى واحد من مئات المراجع المطبوعة والإلكترونية وهذا ما يجب تجنّبه هنا لأن الموضوع ليس كيف عاشت وما أحاط بها من مفارقات (نجد بعض قليل مثل هذا الإلمام من خلال تحليل فيلم «بلوند» أدناه) بل كيف نجحت في شق طريقها وكم كانت قادرة على أن تجسد أدوار الأنوثة وتصطاد شغف الرجال في الوقت الذي كانت تعرف كيف تؤدي أدوارها (أو معظم أدوارها على أي حال) بقناعة.
بداية الطريق
موهبتها تبدت في أدوارها الصغيرة في أعمال مثل Love Happy وTicket to Tomahawk وThe Asphalt Jungle. لجون هيوستن. في هذا الأخير، من إنتاجات 1950، لعبت دور عشيقة رجل ثري متزوج وعلى حافة الإفلاس. مشاهدها القليلة في ذلك الفيلم مقنعة ومؤهلة للعودة إليها كمثال على موهبتها التي تعرّضت للإغفال بسبب طغيان الرغبة في استنزافها تجارياً.
كبرت أدوارها مع مطلع الخمسينات عبر أفلام مثل As Young as You Feel و Stars and Stripes ثم Clash By Night .
نقاد «نيويورك تايمز» و«لوس أنجليس تايمز» قادوا حملة إعجاب بـ«هذه الممثلة الشابة التي لا بد سيكون لها شأن كبير في المستقبل».
هذا الشأن الكبير تحقق في أربعة أفلام لعبت فيها أدواراً رئيسية. وارتفع الشأن أكثر وأكثر بدءاً من «الرجال يفضلون الشقراوات» (Gentlemen Prefer Blondes)
للأسف، ارتفعت كذلك أزماتها العاطفية ومشاكلها النفسية مع ارتفاع شأنها ونجوميّتها. وهذا ما يدور حوله فيلم أندرو دومينيك «بلوند».
«شقراء» هو فيلم عن مونرو وعن حنينها لأب لم تعرفه منذ أن كانت طفلة صغيرة وحتى موتها سنة 1962. حنين غريب بثّته أمها في نفسها وهي تتحدّث لها عن أبيها الذي هجر أمها بعدما أخبرته أنها حامل منه. الأم عاشت على ذكراه واعتبرت ابنتها مسؤولة عن غيابه من حياتها.
هناك نحو ثلث ساعة من الفيلم تؤرخ لذلك وتزرع جذور النوع من الدراما التي اختارها دومينيك لفيلمه. هذا ليس فقط فيلم سيرة حياة (مأخوذ عن كتاب روائي وضعته جويس كارول أوتس سنة 2000) بل فيلم مفزع عن حياة مفزعة وعن ممثلة كانت نسخة عن أفلامها بقدر ما عكست أفلامها شخصيتها وحياتها الحقيقية.
بحنان وبقسوة
مارلين مونرو، ولأسباب متعددة كما سبق القول، كانت الممثلة الأشهر في تاريخ السينما (أو بين الأعلى شهرة على الأقل)، لا ينافس اسمها الذائع إلا جمالها وأداؤها الأنثوي الساطع. لكنها كانت امرأة بوجهين متلازمين: هي الممثلة التي تطفح جمالاً وإغراء في الظاهر، والإنسانة التعسة والحزينة في الداخل. من أسباب تعاستها الدفينة الفترة التي عاشتها تحت سُلطة والدتها العنيفة وما تعرضت إليه من قسوة حين كانت صغيرة. الفيلم يمنحنا قبساً من نشأتها قبل أن ينتقل إلى فترة أخرى في أواخر الأربعينات وهي تبدأ بشق طريقها فوق أشواك من الاستنزاف العاطفي والمصالح الفردية.
تؤدي (الكوبية الأصل) أنا دَ أرماس دور مونرو كما لو كانت هي. في 96 في المائة هي ذاتها صوتاً وصورة وتمثيلاً. درست حركاتها وتصرّفاتها الصغيرة قبل الكبيرة وطريقة كلامها. ومنحها المخرج ميزة أن الفيلم حولها وهي المحور فيه والشخصية التي كانت، في الوقت ذاته، محور اهتمام العالم. لا يمكن أن يخطئ مخرج ماهر مثل أندرو دومينيك في عملية توجيه الدفّة لإدارة ممثلته على النحو الذي يعكس الشخصية واقعياً.
هناك تجاوزات وبعض الخيال المسكوب فوق أرض الواقع، لكن ما يسرده الفيلم مستخلص من حياة امرأة عاملتها الحياة بحنان وقسوة في وقت واحد. أصبحت نجمة كبيرة ومبهرة وعلى ألسنة عشرات الملايين، وأودت بها إلى أحضان رجال (بينهم الرئيس جون ف. كيندي والمنتج ريتشارد ف. زانوك) عاملوها كما لو كانت دمية للجنس. في هذا الصدد لا يشيح الفيلم بوجهه بعيداً عن الأوضاع التي تم فيها استغلال مونرو بلا أدنى حرج أو عاطفة.
قام كتاب الروائية أوتس (82 سنة) على تصوير مستوحى من الوقائع، لكن الأسلوب الذي سردت عبره المؤلّفة سيرة حياة واحدة من أشهر ممثلات السينما إلى اليوم، لم تكن بالتحديد بيوغرافية بل من خضم تلك المشاعر القاتمة التي طغت على حياة مونرو منذ مرحلة الطفولة وما بعد. هذا يأتي متماشياً بمحاذاة كتابات أخرى لأوتس من بينها الأفلام الثلاثة التي اقتبستها السينما في عام واحد من ثلاث روايات لها. نجد البحث عن الطفولة المهدرة في Creme Noir التي أخرجتها البولندية ماجدلينا بلانيتا سنة 2017 وهو العام الذي قام فيه الأميركي جوني مارتن بإخراج فيلم حول علاقة أم بابنتها بعد حادثة اغتصاب الأولى. في العام 2017 أيضاً شاهدنا فيلم فرنسوا أوزون Double Lover الذي، وإن لم يتناول حكاية أمومة وطفولة، إلا أنه دار حول تبعات الثقة التي توليها امرأة بعالم هو غير ما كانت تتوقعه.
هذا تماماً ما حدث مع نورما جين باركر التي عُرفت لاحقاً باسم مارلين مونرو. حياة طفولة صعبة بسبب تصرفات والدتها (جوليان نيكولسن) السادية التي حاولت إغراقها في حوض الحمّام، والتي أحبّت التمثيل والأضواء وتعرّضت لحادثة اغتصاب من قِبل مستر زد (مقصود به داريل ف. زانوك الذي ترأس الإنتاج في شركة تونتيث سنتشري فوكس التي أنتجت ثلاثة أفلام ظهرت فيها مونرو في أدوار صغيرة خلال سنة 1948). بعد ذلك هي دمية جنس في علاقات متعددة في طريقها نحو الشهرة والنجومية.
واحد من تلك العلاقات كانت مع «الرئيس» (كما يذكره الفيلم ويعني به جون ف. كيندي) الذي طلبها لدخول شقته وهو يبحث في أزمة صواريخ كوبا طالباً منها القيام بمهامها الجنسية بينما كان مشغولاً على الهاتف.
علاقات صعبة
يستعرض الفيلم كذلك علاقتها مع زوجها الأول لاعب البايسبول المعتزل جو ديماجيو (قام به بوبي كانافال) الذي يبدو حانياً ومتفهماً في بادئ الأمر ثم ينقلب معتدياً عليها بعنف فيما بعد. كذلك هناك جزء من الفيلم يتمحور حول زواجها الثاني من المؤلف المسرحي آرثر ميلر (غير مذكور باسمه ويؤديه أدريان برودي) الذي قام على إشباع الذات الفكرية ورغبة مونرو في أن يُنظر إليها كامرأة جادّة ومثقّفة وليس مجرد نجمة إغراء. الفيلم هنا لا يكترث لشرح السبب الذي من أجله رغب ميلر في الزواج بها لكن هذا الزواج يأتي قبل فترة قصيرة من وفاتها نتيجة جرعة أدوية مسكّنة كما أفتى الطبيب الشرعي حينها بينما سادت إشاعات بأنها قُتلت بسبب علاقتها السابقة مع «الرئيس».
هنا نتذكر الوضع ذاته بالنسبة لوفاة سعاد حسني بعد 39 سنة عندما تردد القول إنها لم تمت منتحرة كما أشيع، بل مقتولة بسبب علاقتها السابقة بالسُلطة. كلاهما، حسني ومونرو، لعبا أدوار الأنثى اللعوب ولو بأداءين مختلفين.
العلاقة الوحيدة التي عاشتها مونرو بعاطفة فعلية كانت بدورها ناشزة. في مطلع الخمسينات تعرّفت على ولدي الممثلين تشارلي تشابلن وإدوارد ج. روبنسن وأقامت معهما علاقة ثلاثية لم تمانعها بل يعكسها الفيلم كواحة عاطفية وحيدة وجدت فيها مونرو سعادتها كون تلك الصداقة قامت على أساس عاطفي كما لم تفعل علاقاتها الأخرى.
حياة مونرو تبدّت على الشاشة أكثر من مرّة (أولها بعنوان Marilyn لهنري كوستر، 1963) لكنها لم تُعالج مطلقاً على هذا النحو الخاص الذي وفّره المخرج دومينيك لفيلمه. صحيح أن جذور هذه المعالجة موجودة في الكتاب، لكن دومينيك مسؤول عن تطويرها فنياً بحيث يجسّدها كنوع سينمائي أقرب إلى فيلم رعب منه إلى سيرة حياة. لكنه في الوقت ذاته ليس فيلم رعب، كنوع، كما أشار عدد من النقاد الذين كتبوا عن الفيلم.
«شقراء» هو رحلتان في فيلم واحد. رحلة مارلين مونرو الشاقة في عالم مثقوب بالاستغلال البشري (وفي هذا الجانب يكيل المخرج لهوليوود وللإعلام بشدّة) ورحلة المخرج في التعبير الفني الذي يشمل الانتقال بالفيلم ما بين الأسود والأبيض والألوان. أحياناً ما يبدو الفيلم كما لو أنه بدوره استهلاك مضاف لما سبق من أعمال توخت الدعاية والتشهير، لكنه لا يذهب فعلياً في هذا الإتجاه بل يقص حكاية امرأة قد تكون خيالية (ولو أنها لم تكن) عاشت بحثاً عن أب لم تعرفه وحنان لم تشهده وأمومة لم تُتح لها (خسرت فيلمها الأول بعملية إجهاض حتى لا تخسر دورها في فيلم والثاني خسرته قبل الوضع). يعكس المخرج هذا الوضع كأحلام مجهضة وكمعاناة متوالية وكحياة اختار لها المخرج أن تمر كهواجس وكوابيس عوض أن يعالجها حيادياً. يسجل للفيلم أنه ابتعد عن سرد حكايات خلفية للأفلام التي مثلتها. هناك ذكر لبعضها لكن الفيلم ليس عن أفلام مونرو بل عن حياة مونرو، وكيف أنها جسدت شخصية ملتصقة بحياتها المزدوجة كممثلة إغراء وكإنسانة بحثت بلا جدوى عن أمان إنساني مفقود.
