شهدت أيام 5 و6 و7 أغسطس (آب) الماضي مواجهة عسكرية ضارية بين إسرائيل وتنظيم الجهاد الإسلامي الفلسطيني كانت ستصبح أكثر ضراوة وضررا لو لم تتوقف بعد وساطة مصرية استخدمت القاهرة فيها كافة نفوذها على الطرفين. وقد أثارت هذه المواجهة ردود فعل فلسطينية وإسرائيلية، وكذا إقليمية ودولية عديدة، ليس فقط حول مسؤولية الطرف البادئ باندلاعها أو حول ما خلفته من أضرار مادية وخسائر بشرية طالت قيادات عليا في تنظيم الجهاد، وإنما أيضا حول توقيتها ودواعيها، والمغزى من الشعار الذي رفعه الجانب الفلسطيني كعنوان لها، وهو «وحدة الساحات»، ولماذا لم يتحقق هذا الشعار ليجد تنظيم الجهاد نفسه عالقا لوحده في أتون معركة غير متكافئة.
نعم لا أحد يستطيع مصادرة حق الشعب الفلسطيني المشروع في مقاومة الاحتلال، وفي النضال من أجل استرجاع أرضه، ولا أحد يزايد عليه في ممارسة هذا الحق من خلال تنظيماته السياسية وأذرعها الفدائية، وبكل الأشكال النضالية التي يراها مناسبة. ولكن هذا لا يمنع محاولة تقييم كافة المعارك التي خاضتها مختلف الفصائل الفلسطينية تارة كمبادرة بها، وطورا كمرغمة عليها في إطار حقها المشروع للدفاع عن النفس، وخاصة منذ اتفاق تبادل الاعتراف بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية المبرم في واشنطن في سبتمبر (أيلول) سنة 1993، خصوصا وأن بعض المعارك لم تغير شيئا من الواقع المزري لحياة الشعب الفلسطيني بل ضاعفت من معاناته.
وأول ملاحظة تتبادر إلى الأذهان في هذا السياق هو تباين مواقف القوى الممثلة للشعب الفلسطيني من طبيعة الأساليب النضالية المقترحة لمرحلة ما بعد اتفاق واشنطن، التي استلمت فيها السلطة الوطنية الفلسطينية صلاحيات إدارة أجزاء من ترابها الوطني المحتل، وتسيير الشؤون اليومية لمواطنيها انطلاقا من قطاع غزة في البداية، ومن رام الله فيما بعد.
ففي الوقت الذي ركزت فيه معظم الفصائل المنضوية تحت لواء منظمة التحرير، وفي مقدمتها حركة فتح على النضال السياسي من خلال العمل على تثبيت سلطتها الإدارية على الأرض، وتكثيف الضغط السياسي على الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة مصحوبا بالإبداع المتزايد في أشكال الانتفاضة الشعبية السلمية، وبالبحث المتواصل عن المزيد من الدعم السياسي والمالي الدولي؛ اختارت الفصائل غير المنضوية في إطار منظمة التحرير ومعظمها تتدثر بمرجعية إسلامية، مواصلة النضال المسلح، والعمل على تطويره على كافة المستويات.
وكما هو معروف، فإن المسألة الفلسطينية منذ بروزها كحالة استعمارية لم تكن شأنا فلسطينيا بحتا، بل شكلت دوما مجالا مفتوحا لمختلف التدخلات الخارجية، إذ اعتادت بعض الدول العربية والإقليمية والدولية على التدخل في هذه المسألة. وفيما جاءت بعض هذه التدخلات من باب التعاطف والتضامن مع شعب مكافح من أجل حقوقه المهضومة، فإن تدخلات أخرى غذتها دوافع سياسية وأطماع إقليمية، تراوحت بين من حاول مرارا العمل على مصادرة القضية برمتها، ومن سعى فقط إلى التأثير في قرار أصحابها ونشاطهم.
وإذا كانت المواقف المتعاطفة والمتضامنة، وأغلبها صادرة عن دول عربية وإسلامية صنفت معتدلة، قد وقفت على مسافة واحدة من كافة الفصائل الفلسطينية رافضة المزايدة على مواقفها، ومفضلة تقديم عونها المادي والسياسي من خلال منظمة التحرير باعتبارها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، فإن المواقف الباحثة عن استغلال هذه القضية واستخدامها مجرد ورقة للمقايضة أو المساومة على أدوار إقليمية لم تخف أبدا دعمها العسكري والسياسي والإعلامي للفصائل الدينية المسلحة، متجاهلة العنوان الرئيسي والأصيل للقضية الفلسطينية المجسد في منظمة التحرير وسلطتها الوطنية.
وعلى مدى الأربعة عقود الماضية استطاعت إيران أن تتبوأ طليعة الدول العاملة على استغلال قضية فلسطين وتجنيد فصائلها الإسلامية ضمن مشاريع الهيمنة التي تحاول فرضها في المنطقة، وهي اليوم تكاد أن تحتكر نشاط تلك الفصائل لفائدة خططها، خاصة بعد أن استلمت المشعل من سوريا التي دخلت متاهة صراعات أهلية نقلتها من لاعب أساسي وفاعل في الشرق الأوسط إلى ملعب تجري على أرضه وبواسطة أبنائه مواجهات دامية لتصفية حسابات دولية وإقليمية متعددة ومعقدة.
إن التوجيه الإيراني لنشاط الفصائل الدينية الفلسطينية واستغلاله كأداة من أدوات معارك طهران المفتوحة على امتداد جغرافيا الشرق الأوسط في أكثر من مناسبة يظهر في إصرار طهران على اختيار توقيت يناسب سياساتها وتحركاتها لفتح المواجهة مع الاحتلال الإسرائيلي غير آبهة إن كان ذلك التوقيت يناسب الجانب الفلسطيني أو لا يناسبه. وقد اتضح ذلك جليا في معركة «وحدة الساحات»الأخيرة، إذ تبين أن الهدف منها هو محاولة توظيف التوتر الذي حصل لفائدة مفاوضات طهران حول الاتفاق الخاص ببرنامجها النووي ليكون عاملا مساعدا في الضغط على إسرائيل لتذليل بعض اعتراضاتها على إبرام الاتفاق المنتظر.
ولا شك أن اختيار عنوان وحدة الساحات كان يروم جر حركة حماس إلى المواجهة لكي تكون الرسالة الإيرانية أقوى. غير أن حماس لم تنجر للمواجهة انطلاقا مما استخلصته من دروس من معارك سابقة أدركت بعد فوات الأوان أنها لم تحقق الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية، وكذا من توجهها الجديد الرامي كما يبدو إلى ترسيخ صورتها كقوة عقلانية ومسؤولة ومنضبطة، على غرار ما تبديه معظم التيارات الإسلامية ذات النكهة الإخوانية أينما وجدت على امتداد العالم العربي.
وفي المعلومات، فإن حركة حماس التي ترفض أن يشاركها أحد سلطتها المطلقة على قطاع غزة أبلغت جهات إيرانية بأن وحدة الساحات ضد إسرائيل لا تعني الساحة الفلسطينية وحدها، وإنما تشمل أيضا الجنوب اللبناني، الذي باتت مواجهته للدولة العبرية لفظية وإعلامية فقط.