بيروت: ما زالت حصيلة ضحايا قارب طرطوس الذي غرق قبالة شاطئ المدينة السورية ترتفع، من بينها عائلات بكامل أفرادها، فحتى الآن، بلغ عدد الضحايا جرّاء الحادث نحو 94 شخصا، علماً أن المركب كان يضمّ بين 100 و150 شخصاً من اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين.
وكان المركب انطلق قبالة السواحل اللبنانية، إلا أنّه تعرّض للغرق قبالة السواحل السورية يوم الخميس الماضي. وإثر ذلك، بدأت الجهات المعنية السورية بانتشال الضحايا.
ومؤخراً، أعلنت وزارة الأشغال اللبنانية أنّ ضحايا مركب طرطوس توزّعت بين 40 رجلاً و31 امرأة و24 طفلاً، وقد تم التعرف على 55 من تلك الجثامين.
ووفقاً للوزارة، فقد بلغ عدد الجثامين التي نُقلت إلى لبنان 17، منها 11 لبنانياً. مشيرةً إلى أن «إفادات الناجين والذين توافدوا إلى مستشفى الباسل في سوريا، بيّنت أن عدد المفقودين اللبنانيين يناهز الـ14».
وقالت مصادر لبنانية إن المركب كان يتجه إلى إيطاليا، ويحمل نحو 150 مهاجراً من اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين، وانطلق من شمال لبنان قبل 48 ساعة.
هكذا تتم عمليات الهجرة غير الشرعية
وفي الآونة الأخيرة، ازدادت رحلات الهجرة غير الشرعية باتجاه عدد من الدول الأوروبيّة، ولا سيما إيطاليا، بحيث يكاد لا يمر يوم واحد دون انطلاق رحلة أو أكثر من شمال البلاد تقل على متنها عشرات اللبنانيين والسوريين في محاولة للوصول إلى حياة أفضل.
المُثير للدهشة أن تلك الرحلات لم تتوقف رغم حادثة غرق أحد القوارب الكبيرة في البحر المتوسط قبالة مدينة طرابلس في أبريل (نيسان) الماضي وفقدان أكثر من 30 مهاجرا في البحر.
يكشف أحد المهربين غير الشرعيين في حديث لـ«المجلة» أن «الوجهة الأساسية للرحلات البحرية غير الشرعية هي إيطاليا، حيث يطمح المهاجرون للدخول إلى أوروبا، على أن يقوموا في وقت لاحق بالانتقال إلى بلدان أخرى ولاسيما ألمانيا». وأضاف: «هذه الرحلة تحتاج عادةً إلى 7 أيام، إلا أن العديد من المراكب تتعرض لعطل في المحرك أو أي عطل آخر أمام الشواطئ القبرصية بسبب الوزن الزائد على متنها وتهالكها، إذ إن المهربين عادةً ما يستخدمون مراكب قديمة، وفي الكثير من الحالات تقوم السلطات القبرصية بإعادة المهاجرين إلى لبنان».
وتابع: «هذه الرحلات تنطلق من أماكن مختلفة من الشاطئ اللبناني، وتحديداً شمال البلاد، في حين أن الرحلات غير الشرعية التي تنطلق من العاصمة بيروت محدودة جداً».
ويشرح المُهرب كيف تمم هذه الرحلات، حيث يؤكد أن «خروج المركب من الميناء يكون بشكل طبيعي، إذ إنه يكون مُسجّلا باسم أحد الأفراد الهاربين، بحيث يتم تحديد نقطة التقاء على الشاطئ لنقل باقي المهاجرين الذين عادةً ما يتراوح عددهم بين 70 إلى 100 شخص، بحسب سعة المركب المُستخدم». وأضاف: «في الآونة الأخيرة بات معظم المهربين يعتمدون على إقامة الرحلة بمراكب غير مسجلة أساساً في الموانئ اللبنانية من أجل عدم إثارة الشُبهات لدى الأجهزة الأمنية، وفي هذه الحالة فإن المركب ينطلق من أحد الشواطئ وليس من الموانئ».
كما يلفت إلى أن «السبب الرئيسي الذي يدفع الكثير من المواطنين للهجرة غير الشرعية هو الوضع الاقتصادي الذي يتفاقم يوماً بعد آخر ويجعل من خيار الهجرة بمثابة سفينة النجاة من الواقع». وتابع: «هذه الكلفة عادةً ما تتراوح بين 5 إلى 7 آلاف دولار بحسب عدد الأشخاص على المركب، مع الإشارة إلى أن قبطان الرحلة وعامل الكهرباء والصيانة لا يدفعون أي أموال لقاء هجرتهم».
رواية أحد الناجين
من ناحيته، يستذكر وسام التلاوي في حديث لـ«المجلة» الذي خسر زوجته وأولاده الأربعة على متن الرحلة الأخيرة التي غرقت قبالة شاطئ مدينة طرطوس السورية، تفاصيل الرحلة التي أفقدته أعز ما يملك، مشيراً إلى أنه اضطر إلى السباحة لمدة يومين للوصول إلى الشاطئ، إذ إن «المركب تعطل في المياه الإقليمية وكان علينا السباحة لفترة طويلة للنجاة».
ويلفت التلاوي إلى أن الدافع وراء مشاركته مع عائلته في هذه الرحلة جاء بسبب «حلمنا بحياة جديدة وأن نتمكن من تعليم أولادنا». وأضاف: «وضعنا المادي صعب جداً، ولم أكن أملك أي أموال، لذا اتفقت مع المُهرب بنقل ملكية منزلي وهو في حالة قيد الإنشاء إليه، بحيث تبلغ قيمته نحو 15 ألف دولار».
وعن تفاصيل الرحلة، يُشير التلاوي إلى أنها «انطلقت عند الساعة الثالثة والنصف صباحاً من منطقة المنية الشمالية بحيث كان المُهرب ينقلنا عبر قوارب صغيرة على دفعات إلى المركب المخصص للرحلة في عمق البحر، وعند الساعة التاسعة والنصف صباحاً غرق المركب في المياه الاقليمية اللبنانية». وأضاف: «المركب لم يكن صالحا للسفر، إذ إن الموتور توقف عن العمل أكثر من مرة في عرض البحر ليقوم القبطان بإعادة تشغيله، وفي المرة الأخيرة لم يعد يعمل وصارت الأمواج تضرب المركب الذي غرق لاحقاً».
ويؤكد التلاوي أن «هذا المركب كان يحوي نحو 150 شخصا على القارب في حين أننا كنا متفقين مع المُهرب على أن يكون على متنه 65 شخصاً فقط، ولكنه أجبرنا على الصعود للمركب والانتقال». مشيراً إلى أن «وجهة المركب كانت إيطاليا».
يشعر التلاوي بالندم على المشاركة في هذه الرحلة مؤكداً أنه لا ينصح أحداً بالمغامرة التي ستقوده إلى الموت.
شبكات منظمة للهجرة غير الشرعية
يلفت رئيس بلدية القرقف يحيى الرفاعي، وهي إحدى القرى في محافظة عكار الشمالية التي شارك بعض أبنائها في هذه الرحلات غير الشرعية، إلى أن «تصاعد وتيرة الهجرة غير الشرعية مُرتبط بالأزمة المالية والمعيشية في المدة الأخيرة». وأضاف: «الأسباب الرئيسية ليست تأمين المأكل وإنما ما يُعاني منه لبنان هو غياب مقومات الحياة من كهرباء ومياه وطبابة وتعليم، إضافة إلى غياب أي أفق لانتهاء الأزمة». وتابع: «مع الإشارة إلى أن المهاجرين يدفعون أموالا طائلة».
ويُشير الرفاعي إلى أن «المركب الذي غرق طوله 16 متراً، وهو يتسع لـ80 راكبا، في حين أن المُهرب ب. ن. (موقوف لدى الأجهزة الأمنية) قام بوضع نحو 170 راكبا لأن لديه جدولا بأعداد كبيرة من طالبي الهجرة غير الشرعية وأخذ منهم أموالا، وباتوا يطالبونه بهذه الأموال، فأراد التخلص منهم عبر تسفيرهم».
ويؤكد أنه «من الناحية اللوجستية لا يمكن لشخص واحد تنظيم رحلة هجرة غير شرعية، فربما في البداية كانت هذه الرحلات بمبادرات فردية ولكنها في الآونة الأخيرة باتت أكثر تنظيماً عبر شبكات تهريب». وأضاف: «الدولة اللبنانية أصدرت قرارا بمنع تسجيل المراكب التي يفوق طولها العشرة أمتار، لذا يقوم المهربون بشراء مراكب من خارج لبنان وتحميل المواطنين على شواطئ بعيداً عن الموانئ».
وتابع: «من يتحمل مسؤولية ذلك هم المواطنون الذين يرمون أنفسهم في هذه المراكب، وكذلك الدولة اللبنانية التي لم تضع أي خطة اقتصادية لمنطقة عكار، فضلاً عن تجار البشر».
مأساة عائلة مصطفى مستو
وتقول مايا مانع، التي فقدت ابن خالتها مصطفى مستو وأبناءه الثلاثة، في حديث لـ«المجلة» أن «مستو اضطر إلى بيع سيارته لتسديد تكلفة الرحلة». وأضافت: «إحدى بناته كانت نائمة في غرفة المركب، وهذا ما يعني أن إمكانية نجاتها معدومة، في حين حاول مصطفى إنقاذ إحدى بناته لكنها غرقت هي الأخرى. وتابعت «لم نجد سوى جثة إحدى بناته الثلاث لغاية الآن».
وتستذكر مانع كيف قام ابن خالتها بتوديع العائلة فرداً فرداً باستثناء والدته التي لم تكن تعلم بشأن رحلته. مشيرةً إلى أن «الدولة اللبنانية مسؤولة عن هذه المأساة، وفور معرفتنا بما حدث حاولنا التواصل مع مكتب رئيس الحكومة نجيب ميقاتي ولكن دون أي تعاون من قبلهم». ولفتت إلى أن «الدولة حرمتنا من أبسط حقوقنا كمواطنين من كهرباء ومياه وطبابة وتعليم وغيرها من الحقوق».
كما تستغرب مانع كيف اقتنع مستو بالهجرة عبر قوارب الموت، مؤكدةً أنها تُعارض هذه الهجرة «ولكن في الفترة الأخيرة كان متألما من الوضع في البلاد».
مشكلة أخرى واجهتها العائلة هي إيجاد مقابر لدفن الجثث، إذ إن تكلفة المدفن الواحد تبلغ نحو 900 دولار، فتُشير إلى أن «المسؤول الوحيد الذي تواصل معنا وتبرع لنا بهذا المبلغ هو النائب أشرف ريفي».
ظاهرة الهجرة غير الشرعية نحو التفاقم
من ناحيته، يؤكد المحامي محمد صبلوح لـ«المجلة» أن «الأزمة الاقتصادية التي تزداد سوءاً يوما بعد آخر هي الدافع الأكبر لازدياد ظاهرة الهجرة غير الشرعية، مع الإشارة إلى أن هذا النوع من الهجر موجود مُنذ زمن بعيد في لبنان ولكنه كان محدودا جداً». وأضاف: «على الرغم من أن المواطنين شاهدوا الحادث الذي تعرض له أحد المراكب في أبريل (نيسان) الماضي وأدى إلى وفاة نحو 40 شخصاً، إلا أن وتيرة هذه الهجرة ارتفعت».
ويستذكر صبلوح حديثه مع أحد الأشخاص الذين وصلوا إلى اليونان عبر هذه المراكب وتعرضوا إلى ضرب وتعذيب من قبل السلطات اليونانية وأُعيدوا إلى لبنان، ومؤكداً أن ذلك الشخص قال له إنه «يموت في اليوم ألف مرة إذ إنني لم أعد أتمكن من تأمين الطعام لأولادي، وأريد الوصول إلى دولة تحترم الإنسان».
يلفت صبلوح إلى أن «جميع المشاركين في الهجرة غير الشرعية ينتمون لطبقات فقيرة جداً، ويقومون بتأمين تكلفة الرحلة من خلال بيع ممتلكاتهم من ذهب أو منزل أو سيارة أو غيره». وأضاف: «إلى جانب الأزمة الاقتصادية، ثمة عوامل أخرى مرتبطة بهذه الهجرة وهي انسداد أفق الحل والحديث عن أحداث أمنية قد يشهدها لبنان، فضلاً عن ارتفاع سعر صرف الدولار بشكل جنوني».
كما يؤكد أنه «وفقاً للمعلومات التي سمعها من أكثر من مصدر، فإن ثمة بعض عناصر الأجهزة الأمنية الذين يحصلون على أموال لقاء غض النظر عن هذه المراكب والسماح لها بالخروج من المياه الإقليمية، وهذا ما يُفسر سبب خروج عشرات الرحلات غير الشرعية من الشواطئ اللبنانية». وأضاف: «الدولة اللبنانية لم تعط أي اهتمام لهذه العائلات الفقيرة ولا تقدم لهم أي مساعدات اجتماعية، وذلك بسبب الفساد المستشري في مؤسسات الدولة والمحسوبيات، فضلاً عن غياب الرؤية لدى الدولة للتخفيف من هذه الظاهرة، فعلى سبيل المثال، لم تقم الدولة اللبنانية بأي إحصاء لأعداد المواطنين الذين يخرجون عبر هذه المراكب، في حين أن الجمعيات الأهلية هي من تقوم بإحصاء لهؤلاء على قدر المستطاع». وتابع: «أعتقد أن هذه الظاهرة تتجه نحو التفاقم، كما يجب الإشارة إلى بروز عصابات مُتخصصة في عمليات التهريب مقابل مبالغ مالية».
إذن، يبدو أن مسار الهجرة غير الشرعية قد انطلق بكثافة في لبنان، وذلك بعد أكثر من سنتين على بروز الأزمة الاقتصادية والمالية التي عصفت بالبلاد دون أي بشائر مستقبلية بإمكانية حلها. فما كان من اللبنانيين والسوريين والفلسطينيين القاطنين في بلاد الأرز سوى خيار خوض غمار البحر بحثاً عن حياة أفضل. وهذا ما يضع الدولة اللبنانية أمام مسؤولية كبيرة بشأن حماية هؤلاء عبر إيقاف شبكات التهريب التي تزداد من ناحية ووضع برنامج مساعدات اجتماعية يُمكنه من التحفيف من وطأة هذه الأزمة.