لندن: تدور الكاميرات في الشهر الثالث من السنة المقبلة على مسلسل تلفزيوني جديد عنوانه «بولِيت». العنوان مألوف لأن الفكرة مستوحاة من الفيلم الذي قام ببطولته الراحل ستيف ماكوين (ملك الـCool بين الممثلين) وأخرجه البريطاني الفذ بيتر ياتس وذلك سنة 1968.
تصوير ذلك الفيلم والمسلسل الجديد سيتم في مدينة سان فرانسيسكو، تلك التي تعشقها الكاميرا خصوصاً إذا ما كانت تصوّر أحداثاً تشويقية وبوليسية ومطاردات.
«بوليت» الأصلي كان أحد أفضل أفلام الأكشن البوليسية وبعد أكثر من 30 سنة على إنتاجه ما زال كذلك أحد أفضل أفلام الأكشن البوليسية.
في ذلك الفيلم، لعب ماكوين (الممثل وليس المخرج الحالي بالاسم نفسه) دور التحري بوليت الذي لا يُرشى ولا يتأثر بأي تهديد. تُسند إليه مهمة حراسة شاهد عيان والمهمّة لا تتم على النحو المطلوب إذ يتسلل قاتلان (بول كنج وبل هيكمان) إلى غرفة الشاهد في فندق حقير ويطلقون عليه النار. كذلك على التحري الذي عيّنه بوليت حارساً عليه. هذا يغيظ المدّعي العام (روبرت ون) الذي يريد الحفاظ على الشاهد الهارب من المنظمة في شيكاغو حيا إلى حين تقديمه إلى المحكمة وذلك لتسجيل نجاح انتخابي. أعين القتلة على التخلص من الشاهد بعدما أشاع بوليت أنه ما زال على قيد الحياة.
عين المدعي العام على المكسب السياسي بينما عين التحري بوليت على خدمة القانون أولاً وأخيراً. أما أعين القاتلين اللذين انتدبتهما إحدى عصابات شيكاغو لتنفيذ المهمّة فهي على القيام بمحاولة ثانية لقتل الشاهد بعدما نجح التحري بوليت بالإيحاء بأن الشاهد ما زال على قيد الحياة.
ثلاث مطاردات
هذا هو مدخل التوتر الذي ينجزه الفيلم مستخدماً مشاهد لا تُنسى من المطاردات بطلها ماكوين (الذي قاد السيارة المطارِدة بنفسه) وسيارة القاتلين.
ثلاث مطاردات في الفيلم: الأولى في المستشفى (تكاد ضربات قلوب المشاهدين تتوقف فيها) والثانية فوق طرق المدينة المقامة على جبال وهضاب تتيح للسيارات أن تطير طبيعياً (تتوقف ضربات قلوب المشاهدين فيها فعلاً)، ثم ثالثة يبحث فيها بوليت ومعاونه عن قاتل آخر هو الشاهد الحقيقي المطلوب وهذه تدور في مطار لوس أنجليس في القاعة حيناً وعلى أرض المطار حيناً آخر وفي الطائرة التي تقل الشاهد أيضاً.
كون المدينة (في جزء كبير منها) قائمة على مرتفعات تجعل الشوارع في ذلك الجزء المنتصف منها عبارة عن شوارع جبلية صاعدة وهابطة. الشارع يعلو لخمسين أو مائة متر ثم يهبط من جديد لمسافة أخرى موازية، ثم يرتفع مجدداً ليهبط مجدداً. وقمة كل مرتفع هي أعلى أو أخفض من المرتفع السابق، يعتمد ذلك على ما إذا كنت تصعد الطريق أو تهبط منه.
بيتر ياتس، بأسلوبه التسجيلي الذي مارسه كأحد سينمائيي جماعة السينما البريطانية الجديدة في الستينات، عمد إلى توظيف ذلك في مطاردة تبدأ في المدينة ثم تغادرها وتنتهي بمقتل المجرمين الفارين من سيارة فورد موستانغ ذات اللون الزيتي يعتليها ويقودها (بجنون) ستيف ماكوين.
لكن قبل هذه النهاية تقفز السيارتان بعجلاتهما فوق قمة كل مرتفع على علو واضح قبل أن تحط على الأرض منطلقة صوب مرتفع آخر. ويومها كان طيران السيارة يتم فعلياً وليس أمام شاشة خضراء ونظام كومبيوتر.
مشهد لم يغب عن بال هذا الناقد وهو يصل إلى مدينة سان فرنسيسكو لأول مرّة ويأخذ تاكسي من أحد المرتفعات (في اليوم الأول من وصوله) ليجرب هذه الطريق مستعيداً كل تلك الإثارة التي واكبتها حين شاهد الفيلم أربع مرات في غضون ثلاثة أيام في صالة سينما كابيتول في بيروت (ثم مرات لا تحصى بعد ذلك). المنحدرات كانت من الشدة بحيث تساءلت إذا ما كانت سيارة التاكسي ستقلب رأساً على عقب وهي تهبط من أعلى الجبل صوب الساحل الشمالي من المدينة حيث يقع المهرجان والفندق ومطعم الفلافل الفلسطيني القريب.
الجانب المثير
إنها سان فرنسيسكو. المدينة المتميّزة بجمال نادر. مدينة قديمة في ولاية كاليفورنيا. مطارها يقع فوق البحر مباشرة والطائرة التي تقصدها عليها أن تهبط بمقدار كاف حتى من قبل أن تحط عجلاتها على المدرج بسبب قصر مسافته.
فيلم «لوليت» ليس الوحيد الذي تم تصويره فيها واستغل إمكانياتها المعمارية وطبيعتها الخاصة. لكن طبيعتها تناسبت تحقيق أفلام تشويقية في الكثير من الأحيان في مقابل بعض الأفلام العاطفية، من بينها فيلما وودي ألن «العبها ثانية، سام (لهربرت روس، (1972) وبلو جاسمين، إخراجه من دون تمثيله، (2013).
هي المدينة التي اختارها أيضا هال أشبي لتحقيق أحد أفلامه الدرامية «هارولد ومود» سنة 1971 وفيها قام كريس كولومبوس بتحقيق فيلمه الكوميدي «مسز داوتفاير» (.(1993 وحول حاكم المدينة السابق هارڤي ميلك، أخرج غس فان سانت «ميلك» سنة 2008.
هذه النماذج ليست سوى بعض ما تم تصويره هناك، ومعظمها (أي باستثناء «ميلك») كان يمكن نقل أحداثها إلى مدن أخرى على عكس النوع البوليسي الذي كان عليه أن تقع أحداثه في سان فرنسيسكو إما لأنها مستمدّة من حكايات تتطلب جوّاً خاصاً أو تتطلّب الهندسة الفريدة للمدينة أو لأن أحداثها يجب أن تقع هناك كونها مستمدّة من أحداث حقيقية.
الجانب المثير والمعالم الخاصة من المدينة استغل جيداً في عدد من الأفلام البوليسية والتشويقية المتتابعة.
في الأربعينات قام جون هيوستن بإخراج «الصقر المالطي» من بطولة همفري بوغارت لاعباً شخصية التحري سام سبايد كما وضعها الروائي داشل هاميت. ورغم أن هاميت عاش في سان فرنسيسكو وقص حكاية تدور في أرجائها، إلا أن هيوستن آل لعدم استخدام المدينة إلا في مشهد تأسيس المكان العام في مطلع الفيلم الذي تم تصويره سنة 1941.
عاد همفري بوغارت إلى سان فرنسيسكو بعد خمس سنوات وقام بتمثيل «ممر مظلم» لكاتب بوليسي آخر هو ديفيد غوديس. الفيلم، من إخراج المتمكن دلمر ديفيز يوظف المدينة جيداً في الدقائق العشر الأولى من الفيلم. يحيط بها من وجهة نظر البطل وحده قبل أن تدخل شريكته في الحياة والأفلام لورين باكول الفيلم.
بعد عام واحد قام أورسن وَلز بتصوير فيلمه الجيد كذلك «سيدة من شنغهاي» في أرجاء تشايناتاون في سان فرنسيسكو. مثله وَلز، كما أخرجه ومعه في البطولة ريتا هيوارث التي وصفت الفيلم لاحقا بـ«المذهل» ولو أنها أضافت: «لكني لم أفهم ما يدور الفيلم حوله جيداً»… شاركها في هذا الرأي عدد من النقاد والكثير من المشاهدين.
خمسينات القرن الماضي بدأت بفيلم رادولف ماتي «ميت عند الوصول»). أيضاً هو فيلم بوليسي- تشويقي داكن (فيلم نوار) مع إدموند أو برايان في دور فريد: في مطلع الفيلم يسير صوب مركز بوليس ويعلن أنه سيموت خلال 24 ساعة بعدما شرب سماً مدسوساً في كأسه.
المرأة ذاتها
الفيلم نفسه أعيد تحقيقه في سنة 1988 ملوّناً، لكن الأبيض والأسود ما زال الأفضل والأهم.
تعددت الأفلام قليلاً في الخمسينات إلى أن توّجها (وتوّج سينما الغموض والتشويق بأسرها) فيلم «فرتيغو» (1958) للمبدع ألفرد هيتشكوك.
كيم نوفاك تلعب لعبتها على جيمس ستيوارت وتدعي مقتلها ثم تعاود الظهور أمام عينيه حيّة. يعتقد أنها شبيهة بالمرأة الأولى التي وقع في غرامها فيقع في غرامها من قبل أن يدري أن كلتيهما واحدة.
من مطلع الفيلم نرى المدينة… أو جزءاً منها على أي حال. التحري جيمس ستيوارت معلق بين الحياة والموت وقد انزلق من على سطح بناية متمسكاً بالحافة بينما تمر السيارات من تحته. بداية مذهلة لفيلم لا يتوقف بعد ذلك عن الإذهال.
الستينات، طبعاً، هو العقد الذي قام فيه المخرج البريطاني بيتر ياتس بتحقيق فيلمه الرائع «بوليت» كما تقدم. الفيلم الذي وضع أسساً جديدة لأفلام المطاردات من بينها «فرنش كونكشن» لوليام فردكن (1971) الذي دارت أحداثه (ومطارداته) في مدينة شيكاغو المسطّحة. منتج ذلك الفيلم هو فيليب أنطوني الذي أنتج «بوليت» وأنتج لاحقاً «ذا سفن- أبس»: بوليسي آخر قام هو بإخراجه وتصويره في نيويورك سنة 1973. لكن ما حققه في «بوليت» لم يحققه في أي من هذين الفيلمين.
وشهدت الستينات أيضاً فيلم «بوينت بلانك» للأيرلندي جون بورمان أخرجه سنة 1967 حول قصّة انتقام بطلها لي مارفن وعدوه فيها جون فيرنون والخلاف على امرأة (أنجي ديكنسون) وبعض عشرات ألوف الدولارات هي حصة مارفن التي التهمها غريمه فيرنون.
في أول السبعينات قام كلينت ايستوود ببطولة «ديرتي هاري» للمخرج دون سيغال (1971) وهذا الفيلم كان لا بد من تصويره في سان فرنسيسكو كونه مستوحى من شخصية تحرٍ فعلي جسّده ايستوود بجدارة.
وفي نهاية السبعينات عاد ايستوود وسيغال إلى المدينة ليحققا فيها «هارب من الكاتراز» (1979). الكاتراز جزيرة قريبة تم تحويلها إلى سجن محاط بالماء وأسماك القرش وكانت مسرحاً لأفلام سجون عديدة من الثلاثينات والأربعينات وما بعد وظهرت قليلاً في فيلم جون بورمان «بوينت بلانك».
في فترة متوسطة من السبعينات حقق المخرج الرائع فرنسيس فورد كوبولا فيلمه «المحادثة» (1974) ليختار المدينة مكاناً يعيش فيه بعد ذلك (كما يمتلك خارجها حقول عنب هي قوام «بزنس» آخر له هو صنع النبيذ).
ديفيد فينشر أنجز فيلمين في سان فرنسيسكو هما The Social Network سنة 2010 و«زودياك» قبله بأربع سنوات.
هناك أفلام كثيرة أخرى صوّرت فيها واحتمت بديكورها الطبيعي الأخاذ. كثير منها مرّ في مخيلتي خلال سنة 1984 وفي زيارتين لاحقتين للمدينة صممت خلالهما البقاء في ذات الفندق المتواضع (شكلاً على الأقل) وزيارة بائع الفلافل ذاته الكامن في وسط المسافة بين شارع لومبارد وساحل المدينة التي ترى منه جسر غولدن غايت الذي كان مسرح أفلام أخرى أفضلها «فرتيغو» بالطبع.