القاهرة: عماد الدین أدیب ماذا حدث في مصر؟ هل هي محاولة انقلاب فاشلة؟ أم حادث اغتيال فردي لرئيس الجمهورية الشرعي؟ أم إنه كما يقول البعض «نصف انقلاب»؟ أم إنها بداية أحداث كبرى وتحولات جذرية في مستقبل مصر، لا أحد يعرف أبعادها أو نتائجها؟
مات أنور السادات، أو بالأصح اغتيل، ومعه نجحت أول محاولة اغتيال لرئيس جمهورية مصري منذ ثورة 1952. وبوفاته ينتهي دور رجال يوليو (تموز) 1952. وبرحيله، ترحل معه مدرسة من الفكر السياسي الممزوج بمبادئ العسكرية، وبتولي محمد حسني مبارك الحكم، تبدأ صفحة جديدة من حكم عسكريي حرب أكتوبر الطموحين في بناء مصر جديدة بفلسفة سياسية تؤكد مصادر «المجلة» أنها على المدى البعيد ستكون صورة أخرى مخالفة لمدرسة آخر رجال يوليو.
وفي هذا التقرير المفصل من القاهرة محاولة للإجابة على تساؤلات عميقة أهمها ببساطة سؤالان: كيف رحل السادات بهذا الشكل التراجيدي، وكيف رحلت معه مدرسته السياسية؟ وكيف ستكون فترة حكم «رجال أكتوبر» التي يرأسها محمد حسني مبارك؟
ويكشف هذا التقرير، أيضا، سرا كبيرا يتعلق بضابط مخابرات حربية مصري شارك في تنظيم العرض العسكري الذي تمت فيه عملية اغتيال السادات.. ثم هرب!
عندما تولى محمد أنور السادات الحكم في مصر في 16 أكتوبر 1970 كانت مكونات شخصيته. حتى لحظة وفاته. تعتمد على ثلاثة عناصر شخصية:
عنصر الرجل الريفي: السادات فلاح مصري بكل معنى الكلمة. وهو فلاح من نوع خاص، لأن فلاحي محافظ المنوفية التي ولد وتربى فيها يعتبرون من أذكى وأمهر فلاحي مصر، فالرجل المنوفي معروف عنه صبره الشديد ومهاراته في التعامل مع الأرض الزراعية حتى إن أرض المنوفية تعرف منذ أكثر من 200 عام بأنها أخصب أراضي مصر من ناحية الإنتاجية الزراعية.. وفلاح المنوفية تاجر ماهر بمحصوله الزراعي، وهو قادر على بيع حاصلات أرضه بأفضل الأسعار وكما يتردد في التراث الشعبي المصري فإن المنوفي يصعب على من يتعامل معه أن يعرف بالضبط ماذا يريد. وماذا سيفعل في المستقبل. ولم تغير المدينة شخصية السادات، الذي ظل دائما متمسكا بمنوفيته حتى اللحظة الأخيرة من حياته، حتى عندما حانت نهايته لم يعرف أقرب مساعديه ماذا كان في عقل الرجل. وماذا كان يخطط للمستقبل..
عنصر الرجل العسكري: كان السادات مولعا بعسكريته منذ الصغر. وكان للصورة التي يرفعها والده على جدران المنزل أكبر الأثر. كانت الصورة لمصطفى كمال أتاتورك، ويقول السادات في كتابه «البحث عن الذات»: «كان مصطفی کمال نمودجا للرجل الذي حرر بلاده من التبعية وخلق لها الشخصية المتميزة».. ولكن عسكرية السادات كانت رومانسية ثورية، كان يؤمن بنظرية «الديكتاتور العادل» وكان يؤمن بفلسفة القوة ولكن من أجل الخير. كان ولعه بشخصية هتلر مبعثه أن هتلر استطاع أن ينقل ما تحدث عنه الأستاذ توفيق الحكيم في «عودة الروح» أن يصبح الجميع «الكل في واحد».. وفكرة التوحد خلف القائد هي نفسها كانت وما زالت مرکز دوران السياسة المصرية وفلسفة الحكم منذ الفراعنة إلى الحاكم بأمر الله إلى محمد علي باشا إلى الملك فاروق انتهاء بمحمد نجيب فالرئيس عبد الناصر ثم لحظة اغتيال الرئيس السادات.
كان السادات في أيامه الأخيرة يريد تحويل فلسفة الطاعة العسكرية التي يفرضها الانضباط العسكري إلى نظرية «رب العائلة» الذي يجب أن يطيعه الشعب ليس بسبب رتبته العسكرية ولكن ثقة في «أبوته» الحكيمة التي ترى ما لا يرون وبصيرته السياسية التي تعرف ما لا يعرف شعبه سواء من المؤيدين والمعارضين.
عنصر رجل الدولة: كان السادات دائما يراقب عبد الناصر عن بعد يرى أخطاءه ویری إیجابیاته وكان في كل هذه الفترة يتابع الأحداث من موقع الذي يريد أن يفهم ماذا يحدث، لكنه لم يعد نفسه يوما لأن يحكم ويتولى المسؤولية. كانت مشاغل الحكم تبعد ناصر عن تنمية قدراته الشخصية كإنسان أو كزعيم.. كان ناصر يستهلك نفسه في متابعة أمور السياسة اليومية، ولكن السادات الذي أتيحت له فرصة الابتعاد عن تقلد المناصب التنفيذية في عهد ناصر، كان يتعلم الإنكليزية والفرنسية والأمهرية والألمانية، وهي لغات كان يعرفها قبل الثورة لكنه دأب على أن يجود قدراته ومستواه فيها، كان السادات يقبل على لعب اليوغا والسباحة يوميا والمشي السريع مسافة 4 كيلومترات كل صباح، وكان لدور السيدة جيهان السادات في حياته أبلغ الأثر في اهتمامه بمظهره الشخصي وبشكل حياته اليومية. كل هذا أدى إلى رغبة السادات الشديدة في الظهور أمام العالم كرجل دولة وليس كزعيم ثوري.
وفكرة رجل الدولة، الحكيم المستنير، المنفتح بالمقاييس الغربية كانت هي الفكرة المسيطرة على عقل السادات.
وجاءت أجهزة الإعلام الأميركية على وجه التحديد لتلعب دورا في تضخيم شعور السادات بجدارته بلقب رجل الدولة عقب زيارته للقدس المحتلة في نوفمبر (تشرين الثاني) 1977، وأخذت عبارات معلقي التلفزيون الأميركي تدق في رأس الرئيس الراحل منذ نوفمبر 1977 حتى لحظة وفاته، فوصفوا زيارته للقدس بأنها «أعظم وأضخم من أول هبوط أميركي على سطح القمر». وأن السادات «هو أعظم رجل سلام عرفته البشرية». وأن «دور السادات التاريخي هو دور حملته له العناية الإلهية». ثم كانت أهم العبارات التي أثرت في شخصية السادات مؤخرا وهي «أن أنور السادات لو رشح نفسه في الولايات المتحدة أمام أي رئيس أميركي، لربح المعركة الانتخابية في أميركا من أول جولة بنجاح ساحق».
كانت لهذه العبارة بالذات أعمق الأثر داخل عقل ونفس الرئيس الراحل، خاصة عندما يقارن بين التقدير المبالغ فيه الذي تحمله هذه العبارة وعبارات النقد والهجوم الشديدة التي يوجهها إليه منتقدوه في داخل مصر وخارجها على الصعيد العربي. وكونت هذه العناصر، الرجل المنوفي، والرجل العسكري، ورجل الدولة بالتوازي مع الأحداث، المقدمات الرامية لنهايته التراجيدية.
الانتحار السياسي
يقول دبلوماسي أميركي في القاهرة: لقد انتحر الرئيس السادات سياسيا عندما قرر أن يقبض على كافة معارضيه.
ويؤكد أحد رجال الخارجية المصرية السابقين «لقد انتحر السادات سياسيا عندما هبطت قدماه أرض القدس المحتلة».
أما أحد رجال الأمن المصريين السابقين الذين كان لهم دور بارز في بداية عهد الرئيس السادات، فيقول: «لقد انتحر السادات سياسيا عندما وقع أثناء زيارته الأخيرة لواشنطن على رسالة تعطي للولايات المتحدة حق استخدام التسهيلات العسكرية المصرية في رأس بناس». أما لطفي الخولي، الكاتب اليساري المعروف وأحد المطلوب التحفظ عليهم في مصر فيقول: «هذه بداية النهاية لهذا النظام».
من أين جاء مقتل الرئيس السادات؟
للإجابة على هذا السؤال لا بد من الإجابة على 3 أسئلة فرعية هي:
1ـ ماذا حدث في الأسبوع الذي سبق عملية الاغتيال؟
2- كيف تمت عملية الاغتيال؟
3ـ من وراء عملية الاغتيال؟
السر
من الغريب والمدهش، أن يذيع السادات بنفسه في خطاب المؤتمر العام الثالث للحزب الوطني الحاكم، الذي ألقاه في أقل من أسبوع واحد قبيل العرض العسكري معلومات تؤكد معرفته بمحاولة اغتياله في العرض العسكري. لم ينتبه إليها أحد من المراقبين أو الصحافيين الأجانب إلا أن الكثير من الصحافيين كانوا يتحدثون عنها في مجالسهم الخاصة بشكل عادي.
قال السادات في خطابه: «الولد اللي هربان ده دلوقتي زمانه سامعني».
وقال السادات في خطابه: «هما فاكريني النقراشي» (رئيس وزراء مصري اغتاله أحد رجال الإخوان المسلمين لموقفه ضد الإخوان).
والقصة كما يتداولها العارفون بها في مصر هي أن أجهزة الأمن المصرية قد كشفت النقاب عن طريق الصدفة، عندما اكتشفت بعض الأسلحة المهربة من صعيد مصر الذي يعتبر مخزن السلاح المهرب في البلاد، عن وجود علاقة بين هذا السلاح وضابط مخابرات حربية مصري وبعد التحريات البسيطة، اكتشفت أجهزة الأمن أن هذا الضابط هارب منذ عدة أيام وغير متواجد في وحدته، وبعد عمليات التحقيق في الموضوع التي كان يتابعها كبار قادة القوات المسلحة علمت السلطات أن الضابط كان أحد المشاركين في تنظيم العرض العسكري ووجدت بعض الأوراق التي تضم مسودات لمداخل ومنافذ العرض العسكري، وتم إخطار الرئيس السادات بذلك وأجريت عدة بروفات للعرض العسكري وتم اختبار وإعادة اختبار إجراءات الأمن الحربي للعرض العسكري، ولكن كما يقول المثل المصري الشعبي: «الحذر لا يمنع القدر».
السادات.. مغتالا
كانت لحظة قوة بالنسبة للسادات وهو يستعرض حرس الشرف الذي اصطف ينتظره عند منصة العرض العسكري صباح يوم 6 أكتوبر (تشرين الأول) 1981، فاليوم بالنسبة للسادات هو استعادة شريط أحداث لأحد أيامه المجيدة التي يفتخر بها. واليوم يأتي بعد أن هدأت عاصفة المعارضة السياسية والمعارضة الدينية وبدأ التوجيه الإعلامي السياسي للرأي العام في اتجاه ضرب التسيب المهني في الشارع المصري وبدأ التجاهل التدريجي لقضية المقبوض عليهم ونتائج التحقيق معهم. وقال السادات في اجتماع مغلق لرؤساء تحرير الصحف: «ما حدش يتكلم بقى على عملية التحقيق أو الإفراج عنهم دلوقتي لأنها عملية حتاخد على الأقل سنة».
كان السادات يخطط للإفراج عن معارضيه بعد عام من تاريخ القبض عليهم. بعد أن يزول السبب الأساسي الذي جعله يقبض عليهم وهو منعهم من تهديد التطبيع مع إسرائيل وبالتالي تهديد عملية الانسحاب من الجزء الأخير من سيناء في أبريل (نيسان) عام 1982.
كان كل شيء في العرض العسكري يسير بانتظام دقيق. والسادات يتابع طائرات الـ«إف- 4»، و«الميراج-4»، في سماء العرض العسكري في سعادة بالغة. وسارت دبابة أمام الرئيس حولت مدفعها نحو منصة الرئيس كعلامة تحية له، رغم أنه محظور في العروض العسكرية حسب تعليمات الأمن الحربي، إلا أن الرئيس تابع ذلك بابتسامة وحيا الدبابة.
وسبق الحادث أيضا تعطل إحدى الشاحنات العسكرية أمام المنصة لعدة ثوان وتم إصلاحها حتى جاءت لحظة ارتكاب الحادث. اللحظة الرهيبة. وفيما يلي الوصف المفصل للحادث:
الحادث
توقفت شاحنة عسكرية (عربة مدفع) مزودة بمدفع كوري الصنع، أمام منصة الرئيس حينما كان الرئيس ومرافقوه يشاهدون الحركات البهلوانية لفريق من الطيارين في سماء العرض. وفجاة هبط من الشاحنة، قائد المجموعة، الملازم أول خالد وتقدم 4 خطوات من المنصة التي كانت تبعد عنه 20 مترا، ثم ألقى قنبلة دخان هبطت تحت المنصة المرتفعة عن الأرض 120 سنتیمترا في نفس اللحظة التي وقف فيها السادات وارتدى قبعته العسكرية ظنا منه أن الضابط هبط من السيارة لتحيته. لقد وقع الحدثان في تطابق زمني شديد، ففي نفس الوقت الذي تخرج فيه قنبلة الدخان من يدي الملازم أول خالد يقف الرئيس السادات وحده لتحيته، وفي خطى مسرعة يقترب الملازم أول خالد من المنصة وخلفه يهبط اثنان من مساعديه وفي اللحظة التي يطلق فيها قائد المجموعة أولى دفعات رشاشه الكوري الشمالي الصنع يلقى مساعدوه قنبلتين من الدخان ثم يبدآن هما أيضا في إطلاق الرصاص على المنصة.
کان إطلاق النار يسير بشكل متفق علبة ويشكل منتظم للغاية، كل فرد من المجموعة كان يطلق في اتجاه محدد وكان تشكيل الهجوم على هيئة رأس حربة. يرأسها خالد قائد المجموعة الذي كان يقصد الرئيس السادات نفسه دون سواه حتى إنه اقترب من المنصة فالتصق تماما بها وصوب مدفعه نحو الرئيس شخصيا.
في تلك اللحظة فقط سقط الرئيس رغم محاولات سكرتيره الخاص فوزي عبد الحافظ الارتماء عليه من على يساره لجذبه أرضا ومحاولات وجدى مسعد أحد كبار حرسه الخاص في إلقاء مقعد عليه ليكون ساترا من النيران. ونال فوزي عبد الحافظ دفعة رشاش في جانبه الأيسر وفي أسفل قدمه. أما وجدي مسعد فقد نال رصاصات في الكتف ونال الفريق أبو غزالة وزير الدفاع الذي كان يجلس على يسار السادات مباشرة شظايا في الأذن واليد وأصيب النائب حسني مبارك الذي كان يجلس على يمينه في يده اليمنى إصابة بسيطة.
كانت الصدمة العصبية الشديدة التي أحدثتها الصاعقة التي ألمت بأعصاب الرئيس من مفاجأة الحادث هي سبب ثباته الشديد وصعوبة طرحه على الأرض من جانب مساعديه وبعد الدفعة الأخيرة من الملازم خالد الذي أصاب الرئيس بأربعة أماكن في جسده في الرقبة فوق الترقوة اليمنى وبطلق ناري آخر في مقدم الصدر بفتحتين من رصاصتين كما أصيب الرئيس في أسفل عظمة الفخذ الأيسر وجرح فوق الركبة اليمنى سقط الرئيس السادات أسفل المنصة على الأرض وقام عريف من الحرس الجمهوري بالجري مسرعا نحو الرئيس في الوقت الذي تحولت فيه المنصة إلى بحيرة من الدماء والمقاعد المكومة فوق جثث المصابين والقتلى والفاقدين للوعي وانتشل العريف الرئيس السادات من تحت المقاعد ومن تحت جثة فوزي عبد الحافظ ووجدي مسعد وجذب الرئيس بصعوبة من قدميه حتى حمله مع جندي آخر حينما هتف آخر «عربية.. وهليكوبتر بسرعة.. بسرعة.. الرئيس انضرب بالنار». وبينما الرئيس يحمل إلى السيارة أخذ خط دماء يرسم مغادرته لأرض ساحة العرض للمرة الأخيرة. في الوقت نفسه كان الملازم أول خالد وزملاؤه يغطون عمليات انسحابهم، فقفز أحدهم إلى العربة وقتل آخر بطلق ناري غير معروف إذا كان أطلق عليه أو أطلقه هو على نفسه وتم القبض على 2 من الجنود.
مدة العملية من البداية حتى النهاية 140 ثانية أطلقت فيها 8 خزائن من الرصاص تضم كل خزينة 30 رصاصة. وفي الوقت نفسه اغتيل السيد محمد رشوان المصور الخاص للرئيس الذي كان يقف تحت المنصة مباشرة عند لحظة بدء الهجوم، عندما حاول أن يهرب. وترك مصور التلفزيون المصري الكاميرا الأرضية وشاهد المتفرجون على شاشات التلفزيون الكاميرا تثبت «الكادر» فجأة على الأرض مع أصوات قنابل ورصاص وقطع الإرسال التلفزيوني.. وقطع مذيع «صوت العرب» وصف العرض بقوله «خونة.. عملاء.. خونه». وقال: «إن مصر أيها الإخوة».. ولم يكمل عبارته. وتم قطع الإرسال.. وينهض النائب حسني مبارك ويزيح المقاعد من على الجثث ويطمئن على أن الرئيس قد حملته سيارة إلى الهليكوبتر. بينما ينهض الفريق أبو غزالة والجانب الأيسر من وجهه ملطخ بالدماء وعلى وجهه علامات الغضب والانزعاج الشديدين، ويقترب منه أحد الضباط: «سلامتك يا افندم» فيصرح فيه أبو غزالة: «سيبني دلوقتي» ويدفعه بعيدا وينهض أحمد سرحان مدير الأمن الخاص للرئيس، والدماء على وجهه، وملابسه غير مرتبة وعلى وجهه كل علامات الألم والإعياء والذهول. لقد فعل هو وزملاؤه المستحيل ليمنعوا وقوع مثل هذا الحدث طوال الأعوام الماضية.
ويقوم ممدوح سالم رئيس الوزراء الأسبق ومساعد رئيس الجمهورية، الذي لم يصب بشيء بمساعدة فوزي عبد الحافظ على النهوض لكنه لا يقدر ويجثو فوزي على ركبتيه ويبكي من الألم ويمسك محمود عبد الناصر رئيس البروتوكول بذراعه اليمنى، وقد تدلت اليد إلى أسفل بعد أن مزقت دفعة مدفع رشاش الذراع من أعلى إلى أسفل وتخرج منها الأعصاب والعروق والدماء إلى خارج اليد في مشهد بشع. ويهتف: «ساعدوني». ويتمدد جسد الأنبا صمويل أسقف الخدمات بالكنيسة القبطية وأحد الخمسة الذين يشرفون على الكنيسة بعد عزل البابا شنودة الثالث عن منصبه، بعد أن قتل، ويضطر بعض المصورين للاحتماء من الرصاص إلى المشي بأقدامهم على الجثث، ويهتف صوت: «الرئيس فين.. الرئيس فين» ويكتشف البعض أنه صوت أحد سكرتارية السيدة جيهان السادات التي أخذت تهرول صارخة باحثة عنه وتبدأ سيارات الإسعاف في نقل القتلى والجرحى ويبدأ الدبلوماسيون في نقل مصابيهم الذين شاهدوا العرض في سياراتهم الخاصة ويتم القبض على مرتكبي الحادث ويقول أحد الأطباء الذين تابعوا حالة الرئيس السادات الصحية: عندما رأيت حالة «المرحوم» أدركت أنه لم يكن لهذا الرجل أن يعيش أكثر من دقائق، كانت الإصابات قاتلة لكن الصدمة العصبية الشديدة هي السبب الأساسي للوفاة لتأثيرها على القلب.
ولعل الصدمة العصبية كانت قاتلة لكون الرئيس المصري قد أصيب بنوبتين قلبيتين حادتين في حياته.
من هم الجناة؟
المعلومات عن مرتكبي الحادث قليلة للغاية ولم تكشف المصادر المصرية أو مصادر التحقيق عن أي معلومات عنهم لكن مصادر «المجلة»، أكدت أن المجموعة كلها من الجيش، وأنها تعبر عن أفكار تیار إسلامي متشدد من تيار الإخوان، وليس من تيار الجماعات الإسلامية، وأنهم قد يسألون عن رأي الدين في العقاب أو الثواب الذي يمكن أن يتعرض له المسلم إذا قتل حاكما عن حق. وقد طرح هذا السؤال في إحدى ندوات الشيخ صلاح أبو إسماعيل، عضو مجلس الشعب المصري عقب صلاة الجمعة منذ أكثر من 3 شهور في مسجد النور بالقاهرة، ويبدو أن الفكرة كانت موجودة لدى هذه الجماعة، خاصة وأن تدريبات العرض العسكري تبدأ منذ 4 شهور على الأقل من العرض ويعرف أعضاء الوحدات التي ستشارك فيه في مدة لا تقل عن 3 أشهر.
ويثير البعض عدة أسئلة تبحث عن إجابات حول كيفية وصول هؤلاء الرجال بأسلحتهم إلى المنصة دون اكتشاف امرهم، فنظام التحركات العسكرية المعمول به في القوات المسلحة في تحركات المركبات العسكرية ينص على ألا تغادر مركبة عسكرية وحدتها دون أن يحمل قائدها تصريحا موقعا عليه من قائد الوحدة ويضم رقم المركبة وسلاحها وأسماء الذين سيقلونها وفي حالة العرض العسكري تنص اللوائح العسكرية على أن يتم التأكد من خلو المركبة من أية سلاح أو ذخائر غير مصرح بها والتأكد من مطابقة البطاقات العسكرية لراكبي الشاحنة «بأمر التحميل الموقع عليه من قائد الوحدة».
إذن، كيف حصل هؤلاء على أمر التحميل إذا كان بعضهم من غير العسكريين كما تقول بعض المصادر المصرية؟ وكيف أفلتوا من إجراءات التفتيش على الذخائر التي يقوم بها قائد الفصيلة وقائد السرية؟
ليس من المعلوم حتى الآن إذا كانت هذه المجموعة لها علاقة مباشرة بالضابط الهارب منذ أكثر من 10 أيام والذي ضبطت عنده ذخائر وأسلحة، وليس من المعلوم إذا كان لهذا التنظيم فروع أخرى في القوات المسلحة ولكن من الواضح أن هذا التنظيم يلاقي تعاطفا شديدا من بعض التيارات الدينية التكفيرية التي قامت بمحاولة اقتحام مركز شرطة في محافظة أسيوط بصعيد مصر وبمحاولة مقايضة بعض الرهائن بالمقبوض عليهم. ومن الواضح أيضا أن المنشورات التي ألقيت أمام أبواب العديد من الوحدات السكنية في مدن القاهرة والتي تحذر من الخروج إلى جنازة الرئيس السادات لإلقاء نظرة الوداع سوف تواجه المزيد من العنف من «التيارات الثورية» ويقول المنشور إن ما حدث للسادات سوف تتبعه خطوات أخرى ضد كل من يؤيد كامب ديفيد ويتعامل مع الاستعمار والصهيونية. وقد أصدرت وزارة الدفاع المصرية بيانا رسميا عن اغتيال السادات قالت فيه إن الهجوم كان بقيادة الملازم أول خالد أحمد شوقي الإسلامبولي وهو شقيق أحد المعتقلين من جماعة التكفير والهجرة، وأنه اتفق مع ثلاثة من الشباب المضلل على تنفيذ العملية. وأوضح البيان أن النيابة العسكرية تستكمل التحقيق مع المعتقلين وأن «الصالح العام يتطلب عدم الإفصاح حاليا عن أية معلومات أخرى عن مرتكبي الحادث».
واشنطن والمسؤولية
يتهامس البعض في القاهرة عن وجود أصابع خفية وراء الحادث. قد تكون أصابع واشنطن. ويقول هؤلاء إن الرئيس السادات بعدما أدى دوره الوظيفي في تحقيق أول تعامل مباشر مع إسرائيل ومنح أميركا أول تسهيلات مصرية لواشنطن، أصبح عقبة في أهم شيء ترتكز عليه خطة إدارة ريغان الجديدة وهي «التوافق الاستراتيجي». وهي فكرة قائمة على ألا يضر التنافس أو الخلاف بين حلفاء واشنطن في المنطقة في تنفيذ خطة مواجهة السوفيات في المنطقة. ولخلافات الرئيس المصري الشديدة، يقول هؤلاء، إن الرئيس السادات قد عقد عملية التقارب المصري مع العرب بسبب وجود عنصر الخلاف الشخصي بينه وبينهم وأن وجوده هو شخصيا أصبح مرفوضا عربيا.. لذلك كله، أصبح استمرار الرئيس السادات عقبة لواشنطن. وبالتالي لا يمكن لمصر السادات أن تلعب دورها في التنسيق مع حلفائها العرب مع استمرار الخلافات المصرية العربية على المستوى الموضوعي والمستوى الشخصي.
ويؤكد الفريد اثرتون السفير الأميركي في القاهرة لزائريه من صحافيين أجانب إن خسارة واشنطن في وفاة السادات لا تعوض وإن حدوث الوفاة قبل إتمام الانسحاب الإسرائيلي من سيناء يعرض كل الجهود والاستثمارات الأميركية في مصر وإسرائيل إلى مخاطر شديدة. ووصف اثرتون ما يتردد عن وجود علاقة لواشنطن بما حدث بأنها «معلومات مختلقة ودعاية رخيصة وكاذبة وضد العقل والمنطق». وإذا كان القلق الأميركي شديدا على مستقبل مصالحهم في مصر عقب وفاة الرئيس السادات فإن القلق الإسرائيلي أشد وأعمق خاصة وأن من يتولى المسؤولية بعد السادات هو محمد حسني مبارك، قائد السلاح الجوي المصري أثناء حرب أكتوبر وأحد الرجال غير المفضلين لدى أجهزة الإعلام الإسرائيلية.
من هو محمد حسني مبارك، رابع رؤساء جمهورية مصر الذي سيرسم سياسة ومستقبل مصر في الأيام القليلة القادمة؟
اختيار حسني مبارك
عندما التقى أنور السادات بشباب الحزب الوطني الحاكم في لقاءاته الأسبوعية التي كان ينظمها لهم منذ ثلاثة أشهر، قال لهم في هذا الاجتماع المغلق: «أنتم عارفين، المعارضة بتاعتي مش قادرة تعرف قيمتي الحقيقية، أنا شخصية سوف يذكرها التاريخ ويتحدث عنها مثلما يتحدث عن العمالقة أمثال أيزنهاور وتشرشل وديغول وتيتو».
كان السادات، عقب زيارته للقدس يشعر بأنه تعدى دوره كسياسي وأنه أصبح زعيما دوليا. وكان يفكر جديا بعد أن يتم المرحلة الأخيرة من الانسحاب ويعيد العلاقات المصرية- العربية من منطق: «لقد كنت مصيبا وكنتم مخطئين»، أن يكون أول رئیس عربي يترك الحكم ويسلمه لغيره بشكل سلمي. ومما قاله الرئيس كارتر عند سماعه نبأ إطلاق النار على الرئيس السادات يؤكد ذلك عندما قال: «أرید بعد إتمام الانسحاب أن أترك الحكم لحسني مبارك من بعدي وأعيش حياتي الباقية في سلام». وفي 26 مایو (أيار) 1975 کشف مبارك لأحد مساعديه عن أسباب اختيار السادات له عندما عينه نائبا وحيدا له خلفا للسيد حسين الشافعي عضو مجلس الثورة السابق في 15 أبريل 1975 عندما قال له السادات عند اختياره له: «أريدك أن تکون نائبي أريد نائبا لي يتولى معي المسؤوليات ويشاركني فيها. لا أحد يعرف ماذا يخبئ لي المستقبل خاصة وأن أسرار الدولة لا يجب أن توضع في يد شخص واحد فقط».
والحقيقة أن السادات باختياره مبارك كان يريد أن يخلق شرعية ثورية جديدة، بأن يتخلص من حسين الشافعي آخر رجال يوليو، الذين يشاركون السادات الحكم، ويعطي أحد أبرز رجال حرب أكتوبر الشرعية الثورية للاستمرار. وفي الواقع لم يكن للشافعي رصيد في القوات المسلحة. أما مبارك الذي كان وما زال يتمتع بشعبية شديدة في القوات الجوية (وهو السلاح الحاسم في الجيش) كان يستطيع أن يضيف للسادات وقتها الكثير. كان السادات وقتها مقدما على توقيع فك الاشتباك الثاني مع إسرائيل في سبتمبر (أيلول) 1975 وكان لا بد أن يرضي الجيش وأن يؤكد له أن القوات المسلحة- بعد أن انتهى الصدام العسكري مع إسرائيل قد حصلت على مكافأة حرب أكتوبر بأن شاركت في الحكم.
لتجربة السادات السياسية كان يعرف أهمية وجود رمز من رموز الجيش في الحكم، فالسادات نفسه عايش الصورة ولكن بشكل معاكس مع عبد الناصر عقب هزيمة 1967 ففي الهزيمة، كان لا بد على القيادة السياسية أن تعاقب المؤسسة العسكرية بأن تقصي رموزها من الحكم والحكومة ورئاسة المناصب التنفيذية الكبرى مثلما حدث في مارس (آذار) 1968.
ولم يكن غريبا أن يؤدي مبارك حلف اليمين الدستورية الأولى له كنائب رئيس جمهورية في احتفال أقيم في مجلس الوزراء، حضره الرئيس السادات وقادة الأسلحة الثلاثة للقوات المسلحة، وهو تقليد عسكري وسياسي لم يحدث إلا في حالة مبارك يتم اتباعه في الأنظمة العسكرية لدول أميركا اللاتينية.. ولكن لماذا اختار السادات حسني مبارك بالذات؟
العلاقة بين السادات ومبارك قديمة بدأت فور تخرج الملازم طيار حسنى مبارك من الكلية الجوية عام 1950 وعمل في قاعدة عسكرية بالعريش حيث التقى بالنقيب محمد أنور السادات بسلاح الإشارة وتم التعارف بينهما وأعجب السادات بمبارك إعجابا شديدا خاصة بأخلاقه وانضباطه الشديد، ودون اسمه في ورقة صغيرة احتفظ بها وظل السادات من يومها يتابع التطور في حياة هذا الطيار. وعندما أراد السادات أن يعد سلاح طیرانه لحرب أکتوبر استدعی حسني مبارك الذي كان يشغل منصب مدير الكلية الجوية ثم رئيسا لأركان القرات الجوية وقائدا للقوات الجوية وهو منصب تنفيذي هام خلفا للواء علي بغدادي الذي ترك منصبه لانتقاداته الشديدة للوجود العسكري السوفياتي في القوات المسلحة المصرية.
وشارك مبارك لأول مرة مع السادات مفاوضات سياسية وعسكرية هامة في نوفمبر 1972 عندما زاروا موسكو للتفاوض على سلاح جوي متقدم يساعد مصر على الدخول للحرب القادمة وعاد مبارك وحده مرة ثانية في نفس العام للاتفاق على تفاصيل الصفقة. ويقول أحد أصدقاء مبارك عنه إنه رجل بولدوزر يعمل 20 ساعة في اليوم بلا تعب أو هوادة وقبل أن ينام يلعب مباراة اسكواش لتنشيط دورته الدموية.
حسني مبارك المولود في كفر المصيلحة بالمنوفية في 4 مايو 1928 هو ابن لطبقة مصرية متوسطة ليس فيها أحد من الأثرياء أو التجار أو الإقطاعيين. كل من برز فيها برز بشکل عصامي معتمد على قدرته العلمية والشخصية. والمعروف عن مبارك أنه لا يجامل حتى أقرب أقربائه، ولا يؤدي لأحد منهم خدمات استثنائية بحكم منصبه. ولم يتردد في القاهرة شائعة واحدة حول مبارك تتحدث عن ارتباطه بأية أعمال خاصة أو استثمارات شخصية يستغل فيها منصبه. ويتحدث زملاؤه الطيارون أن مبارك رجل شريف لا يملك سوى مرتبة وأنه يقدر مساعدة الصديق ولا ينسى الجميل. ويجيد مبارك اللغة الإنكليزية وبعض الفرنسية ويجيد الروسية. حيث قضى في الاتحاد السوفياتي في أواخر الخمسينات عدة دورات تدريبية في أكاديميات الاتحاد السوفياتي العسكرية للتدريب على قيادة طائرات (التوبيلوف-16) وهي قاذفه ثقيلة.
ومبارك مستمع جيد جدا وهو يفضل الاستماع عن الحديث. وفي أغلب الاجتماعات الحربية التي كان يرأسها مؤخرا کان يلعب دور المدير للحوار ويرفض أن تقتصر الاجتماعات على أن يلقي هو كلمة في الحاضرين ويذكر كل من عمل في رئاسة الجمهورية أن علاقة السادات بمبارك كانت علاقة الأستاذ بالتلميذ. كان مبارك يحضر اجتماعات الرئيس منذ اليوم الأول لتوليه منصب نائب الرئيس ومعه مفكرة سوداء صغيرة يدون فيها الملاحظات الهامة.
ويذكر كاتب هذه السطور أنه عندما أجرى حديثا صحافيا مع الرئيس السادات، حضره حسني مبارك، كان أيضا ممسكا لهذه المفكرة ليدون بها ما يستخلصه هو كدروس مستفادة.
أداء الواجب المدرسي
ومبارك مثله مثل الرؤساء الأميركبين يحب أداء واجبه وهو قراءة التقارير والاستماع إلى الشروح السياسية من مساعديهم. وهي نقطة كانت تعاب على الرئيس السادات، الذي يكره القراءة أو الاستماع للآخرين مطولا. ويذكر كاتب هذه السطور أن مبارك في رحلة هامة له في عمان أخذ يقضي الليل كله في شرفة قصر الضيافة يمشي جيئة وذهابا، يطالع التقرير الذي أعده له أسامة الباز أحد كبار مساعديه للشؤون الخارجية ليحفظ ما به عن ظهر قلب ويذكر أيضا عنه أنه عقب إتمامه الاجتماعات السياسية يجلس مع أحد مساعديه، ليسترجع ما جاء من حوار داخل الجلسة ويتأكد من أنه لم يرتكب خطأ ما خلال إجرائه لهذا الحوار. ولشخصية مبارك الودودة والصريحة إلى حد يتعدى بروتوكولات الدبلوماسية أبلغ الأثر في نجاحه الشخصي.
وفي جولاتنا الصحافية معه كنا نسأله في بعض القضايا فكان يجيب بلا حرج: لا اعرف عن هذا الموضوع. أو: لم يطلعني الرئيس بعد عن هذا الموضوع. أو ينظر إلى أسامة الباز ويقول له أمام الصحافيين: «أريدك أن تعد لي تقريرا عن هذا الموضوع لأنني لا أعرف الكثير عنه». ويرى المراقبون أن هذه ظاهرة صحية للغاية لأن الخطأ ليس في أن لا يلم القائد السياسي بقضية ولكن الخطأ هو أن يصدر قراره فيها دونما أن يلم بحقيقة أبعادها.
ضد الفساد
ويشرف حسني مبارك بنفسه على مشتريات السلاح المصري، خاصة في ما يتصل بالطائرات الحربية، وهو من الشخصيات العالمية التي تدعى كل عام لمعرض بورجيه الدولي للطيران. ولم يذكر مرة واحدة عنه تورطه في أية عمولة أو صفقة عسكرية ولو من قبيل الشائعات. ويعرف أيضا عن مبارك رفضه للفساد الإداري والسياسي، ولرجال الأعمال الأثرياء الذين يعملون بالسياسة. لذلك كان مبارك بعيدا تماما عن المهندس عثمان أحمد عثمان. وكان رافضا لوجود السيد حسن كامل رئيس ديوان الرئاسة في رئاسة الجمهورية التي أصبحت بعد رحيل السيد منصور حسن وزير الدولة السابق لشؤون الرئاسة المعقل الخاص لمبارك.
مبارك عربيا
ويذكر كاتب السطور أن مبارك في زيارته لإندونيسيا في مايو 1979 قد تلقى رسالة تفيد أن الرئيس السادات قد هاجم السعودية في خطاب الأول من مايو 1979 في البحر الأحمر بمناسبة عيد العمال- ساعتها لم يستطع الرجل أن يمنع غضبه وقال في غيظ مكتوم: «لیه... کده»!!
ولمبارك دور عربی بارز فهو مبعوث الرئيس للشؤون العربية منذ عام 1975، لذلك عمل جاهدا على إبعاد السيد أشرف مروان الذي كان ينافسه في نفس المجال، لأن مبارك كان يرى أن مروان يربط السياسة المصرية العربية ببعض المصالح الخاصة.
وقام مبارك بأكثر من 60 رحلة عربية، أهمها وساطته في وقف الصدام العسكري الوشيك بين الجزائر والمغرب عام 1975 في رحلة طيران مكوكية استغرقت 60 ساعة بين البلدين خلال 4 أيام.
ولمبارك علاقات شخصية قوية مع الكثير من الزعماء العرب، على رأسهم: الملك الحسن، والرئيس نميري، والملك حسين، والسلطان قابوس، والأمير فهد بن عبد العزيز، والرئيس صدام حسين.
مبارك إسرائيلياً
لا يمكن لقائد سلاح الطيران المصري الذي أخذ يعد نفسه ليوم لقاء العدو الإسرائيلي في أكتوبر 1973
أن ينسى عداءه لإسرائيل بسهولة ويصبح المسؤول الأول عن السلام معها ببساطة، ويحكى عن مبارك أن الرئيس السادات منعه بالأمر ظهر يوم 6 أکتوبر أن يشارك في الضربة الجوية الأولى ضد إسرائيل على أساس أن مخاطر سقوط قائد الطيران المصري في المعركة تصبح فظيعة من الناحية المعنوية على الجيش المصري إذا حدثت في اليوم الأول للقتال ولم يزر مبارك إسرائيل إلا مرة واحدة لمدة 3 ساعات مرافقا للرئيس السادات عند زياراتهم لبئر السبع. وتعتبر أغلب لقاءات مبارك مع المسؤولين الإسرائيليين منذ محادثات الإسماعيلية في ديسمبر (كانون الأول) 1977، حتى زيارة بيغن لمصر في شهر أغسطس (آب) الماضي، مجرد لقاءات بروتوكولية. ويقال إن مبارك كان يحرص على ذلك وعلى أن يترك الحكم في قضايا المفاوضات مع الإسرائيليين للرئيس السادات نفسه. ويبدو أن مبارك كان حريصا على ألا ينسف جسوره عربياً مما استفز الإسرائيليين ضده وفي أواخر شهر فبراير (شباط) من هذا العام نشر عنان صفدي أحد كبار كتاب «الجيروساليم بوست» الإسرائيلية المعروف باتصالاته القوية بـ«الموساد» 4 حلقات عن مستقبل الحكم في مصر. وركز صفدي في هذه الحلقات على ما سمي بصراع القوى الخفي في الحكم بين رجال السادات وعثمان من ناحية، ورجال مبارك من ناحية أخرى، وقال صفدي الذي يعتبر تقريره الصحافي كتقرير أمني يكتبه رجل استخبارات، أن مبارك يمهد المسرح ضد الرئيس السادات. وكان من جراء ذلك قيام الرئيس الراحل بتعيين منصور حسن وزيرا للدولة لشؤون الرئاسة ومنحه 11 اختصاصا من اختصاصات مبارك داخل الرئاسة. وكانت فترة نفسية عصيبة لمبارك منذ أن تولى منصب نائب الرئيس. وكانت سياسة مبارك في مواجهة ذلك هي مزيد من العمل والإخلاص في صمت للرئيس. ولم تمر عشرة أيام إلا وقد أعاد الرئيس 8 من هذه الاختصاصات لمبارك وترك 3 منها لمنصور حسن وهي كلها اختصاصات بروتوكولية. وعند لقاء مبارك بعد هذه المقالات بوفد من المثقفين الإسرائيليين نفى نائب الرئيس وجود أي موقف مسبق ضد إسرائیل أو ضد التطبيع، إلا أنه ركز على التزامات مصر العربية والطريق الشاق الذي ترقد فوقه طائرة حسني مبارك السياسية، تقف أمام 4 قضايا عاجلة تحدد له وتطالبه برسم رؤية واضحة إزاءها. هذه القضايا:
1ـ مستقبل التطبيع مع إسرائيل وربط إسرائیل بإجراءات جديدة أكثر شدة من المطالب السابقة بعملية الانسحاب من سيناء، واعتبار الشهور الثلاثة القادمة فترة اختبار أولية من إسرائيل لأسلوب مبارك في الحكم.
2ـ قضية من هم رجال الرئيس القادم، وأول التحديات سيكون من هو نائب الرئيس القادم؟ هل هو الفريق أبو غزالة أم هو محمد لطفي شبانة قائد سلاح الطيران أم شخصية مدنية مثل دكتور مصطفی خليل؟ وثاني التحديات من هو رئيس الحكومة المقبلة؟ وثالث التحديات هل سيحافظ مبارك على القيادات الحزبية والإعلامية الحالية؟
3- القضية الثالثة تتركز في تعامل مبارك مع قضية 1600 شخصية من شخصيات المعارضة المقبوض عليهم ومدى سرعة التحقيق وهل سيتم التحفظ عليهم لمدة عام مثلما خطط الرئيس الراحل أم إنه سيقوم بمصالحة وطنية قريبة معهم.
4- تعامل مبارك مع المتطرفين الإسلاميين والأقباط. هل سيكون على نفس نهج الرئيس الراحل، أي عن طريق «الحل الأمني» أم إنه سيطرح أصعب الطرق ولكن أكثرها إيجابية وهو الحل السياسي للمشكلة؟
المقربون من مبارك يقولون إن الحكمة تدعو إلى أن يتريث الرئيس الجديد في خطواته وفي اختياره لرجاله الجدد. ولكن الحكمة أيضا تدعو أن يقطف هو ثمرة معاناة السادات ويحصل على الجزء المتبقي من سيناء من خلال المهادنة مع عدم الهجوم الإعلامي أو السياسي على العرب وقادتهم حتى يأتي أبريل 1982. ثم يكون لكل حادث حديث. وقد لوحظ أن مبارك أدلى بأول مقابلة إلى صحيفة «معاريف» الإسرائيلية أكد فيها العزم على الاستمرار في تنفيذ معاهدة كامب ديفيد.
ماذا سيحدث في مصر في الأسابيع والشهور القادمة، وماذا سيفعل القادم الجديد بها؟ وماذا ستفعل الأحداث به؟
نعود ونتذكر جملة مذيع «صوت العرب» عندما تم إطلاق النار على الرئيس السادات: «أيها الإخوة إن مصر».. وهكذا المستقبل.. «.. إن مصر»، ولا يعرف المراقب كيف يكتب بقية العبارة.
============================
مأتم السادات أمن مشدد وزعماء أجانب
سمح لملايين المصريين بمتابعة جنازة الرئيس الراحل أنور السادات ولكن من خلال شاشات التلفزيون وأثير الإذاعة، وقامت قوات من الأمن المركزي والحرس الجمهوري بفرض حصار أمني حول منطقة الجنازة، بلغ عددها 275 ألف رجل مسلح.
استغرقت عملية الصلاة على جثمان الرئيس الراحل في مسجد رابعة العدوية في مدينة نصر على بعد مسافة محدودة من خط سير الجنازة 3 دقائق. وشاركت في الصلاة عائلة الرئيس الراحل وبعض مساعديه المقربين. وحمل جثمان الرئيس على عربة مدفع عسكرية، ولف النعش بعلم القائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية.
وقد سارت الجنازة مسافة 500 متر حتى مكان المدفن وأخذت الفرقة العسكرية الموسيقية تعزف لحنا جنائزيا لنغمة واحدة ظلت تتردد طوال الوقت وقد شارك في الجنازة رئيسان عربيان، هما الرئيس السوداني جعفر نميري، والرئيس الصومالي سياد بري. كما شارك في تشييع الجثمان ممثل عن سلطنة عمان، أما أكثرية الدول العربية فقاطعت المأتم، بينما حضره زعماء ورسميون من نحو 80 دولة في العالم. وكان أكبر وفد بالطبع هو الوفد الأميركي الذي ضم ثلاثة رؤساء سابقين هم: کارتر وفورد ونيكسون، إضافة إلى وزيري الخارجية والدفاع هيغ واينبرغر، والدكتور كيسنجر.
وحضر المأتم أيضا الرئيس الفرنسي ميتران، والمستشار الألماني الغربي هيلموت شميت، والأمير تشارلز ولي العهد البريطاني، والرئيس الفرنسي السابق جیسکار ديستان، ورئيس الحكومة الإسرائيلية مناحيم بيغن، وآخرون. وأحيط بيغن الذي كان إلى جانب الرئيس جيسكار ديستان بدائرة خاصة من رجال الأمن المصريين والإسرائيليين. وقاطعت روسيا المأتم.
وبالرغم من محاولة السيدة جيهان السادات أن تبدي تماسكها الشديد، إلا أنها أخذت تنتحب بصوت عالٍ في لحظة إسكان النعش مثواه الأخير تحت النصب التذكاري لحرب أكتوبر، وفي قبر أعد مقابل المنصة التي اغتيل فيها.
ولا يقارن البعض بين جنازة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وهذه الجنازة فحسب. ولكنهم يقارنون بين الترتيبات التي أعدها الرئيس السادات لجنازة صديقه الشاه الراحل، والتي بلا جدال تم الاهتمام بها بشكل شعبي ورسمي أفضل.