القاهرة: عندما وصف الرئيس البولندي أندريه دودا (14 يونيو/ حزيران 2020) المطالبة بحقوق المثليين بأنها آيديولوجيا أكثر تدميرًا من الشيوعية، كان يقرع جرس إنذار تاريخيًا، لكنه للأسف لم يجد آذانًا صاغية. واستمرت عمليات تقنين، عبر السلطة فوق الوطنية للاتحاد الأوروبي، لسياسات ليبرالية متطرفة دفعت القوى الاجتماعية المحافظة إلى لعب دور سياسي أكثر فعالية، في الوقت الذي همشت فيه السياسات الاقتصادية الرأسمالية المعولمة الملايين من سكان الريف والمدن الصغيرة، ما خلق تربة استياء خصبة ترعرعت فيها الدعوات القومية والوطنية. واليوم، في الأرض التي اخترعت الفاشية، عاد اليمين المتطرف إلى السلطة، وأسفرت الانتخابات العامة الإيطالية عن النتيجة المتوقعة، فوز حزب «إخوان إيطاليا» القومي. ورغم وجود ما يشبه الإجماع على أن نجاح الحزب يمثل لحظة مهمة ليس فقط لأوروبا ولكن لجميع الديمقراطيات الليبرالية الغربية، فإن البعض يراهن على قدرة الواقع على تقليص الادعاءات والوعود الانتخابية. وفي المقابل هناك من يصرون على إعادة إنتاج الصورة النمطية واستدعاء التاريخ، كما هو، وعلى سبيل المثال يتكرر في معظم التحليلات أن الزعيمة اليمينية الإيطالية تعهدت بـ«الدفاع عن الله والوطن والأسرة»، وهو شعار حزب موسوليني. ورغم أن القوميين اليمينيين يتقدمون انتخابيًا في جميع أنحاء القارة، ويتدثر بعض سياسيي الوسط الأوروبيين بلغة ساخرة عن الحاجة إلى حجر صحي لمواجهة الوباء!
وإذا كانت هناك قصة واحدة سائدة في السياسة الغربية على مدى العقد الماضي، فهي أن اليمين المتطرف لم يزدهر، فقد استحوذ على قلب المشهد في العديد من البلدان، وربما أهمها: أميركا وفرنسا، وفيهما طالما كان اليمين المتطرف قوة المعارضة الرئيسية، وهو في إسبانيا أيضًا يزداد ثقلًا، وفي السويد، أصبح الحزب الذي أسسه في الأصل نازيون جدد ومتطرفون يمينيون آخرون ثاني أكبر حزب في البرلمان، فضلًا عن وجود أحزاب أقصى اليمين في السلطة في المجر وبولندا.
الذبح بسكين الديمقراطية
واليوم تؤكد دلالات نتائج الانتخابات في عدة دول أوروبية في مقدمتها إيطاليا، كذلك أشكال استطلاعات الرأي المختلفة أن الربط الحتمي بين الليبرالية (وبصفة خاصة الليبرالية المتطرفة) وبين الديمقراطية، أصبح موضع شك عميق في أوروبا وأميركا وغير قليل من ديمقراطيات أميركا اللاتينية. وبناءً عليه، أصبح التعاطي مع «المنعطف اليميني العالمي» يحتاج إلى مناهج قراءة وتحليل مغايرة، تتجاوز الصورة النمطية لقوى اليمين ومصادر قوتها، وكذلك لإشكاليات الممارسة الديمقراطية خلال العقود القليلة الماضية.
في العام 2009 كانت أوروبا مع أحد أهم الدروس المتصلة بـ«حدود الديمقراطية» عندما قررت سويسرا تنظيم استفتاء يحدد الموقف من السماح للمسلمين ببناء «مآذن» للمساجد، وكان رد الفعل الأكثر إدراكًا للخطر هو رد فعل الاتحاد الأوروبي الذي اعتبر أن اللجوء إلى التصويت على حق أقلية دينية في ممارسة شعائرها هو- بغض النظر عن نتيجة التصويت- استخدام في غير محله لإحدى أدوات الديمقراطية. وقد عقب وزير الهجرة السويدي، آنذاك، توبياس بيلشتروم عن صدمته، وقال: «أعتقد أنه من الغريب بعض الشيء أن يتم اتخاذ قرار في هذا الشأن من خلال استفتاء». ومنذ هذا الاستفتاء وقضية «حدود الديمقراطية» تطرح نفسها بأشكال مختلفة في الاتحاد الأوروبي، وفي نهاية المسار ثار نقاش محتدم في أميركا بسبب حكم المحكمة الدستورية الأميركية بإلغاء «حق الإجهاض»، فتساءل معارضون للحكم عما إذا كان يحق لقضاة المحكمة- وهم غير منتخبين- أن «يغيروا المجتمع الأميركي».
وعندما أعلنت الحكومة البولندية- في 2020- عزمها على الانسحاب من «اتفاقية إسطنبول» التي تهدف إلى تعزيز حماية النساء من العنف، أعرب نواب أوروبيون عديدون عن قلقهم، واعتبر داسيان كيولوس رئيس مجموعة «تجديد أوروبا» الليبرالية «استعمال المعركة ضد اتفاقية إسطنبول كأداة لإظهار النزعة المحافظة خطوة جديدة بائسة ومثيرة للشفقة»، وتبنى مجلس أوروبا، وهو منظمة حقوقية أوروبية مقرها ستراسبورغ، «اتفاقية إسطنبول» عام 2011، كأول آلية فوق وطنية تضع معايير ملزمة قانونيًا. ووقعت بولندا الاتفاقية في 2012، وفي 2020 وصفها وزير العدل البولندي زبيغنيو زيوبرو حينها بأنها «بدعة، اختراع نسوي يهدف إلى تبرير آيديولوجيا المثلية الجنسية»، وبين توقيع بولندا الاتفاقية وبين إعلانها عزمها الانسحاب منها، كانت قد جرت في النهر مياه كثيرة في أوروبا وخارجها، وبحسب أحد الأكاديميين الغربيين المرموقين، كانت الأحزاب اليمينية المتطرفة (وكذلك الأفكار) «جزءًا من التيار السياسي الأوروبي السائد منذ عقدين على الأقل الآن».
والصورة الشائعة لليمين المتطرف أنه حركة اجتماعية وسياسية ترفض المساواة والتعددية، بالتالي معادية للديمقراطية. منظماته تسعى إلى بناء مجتمع منظم هرميًا تتمتع فيه مجموعات معينة من الناس بسلطة سياسية واجتماعية واقتصادية أكثر من غيرها، فهو «سلطوي ورجعي»، وأحيانًا تآمري وعنصري وقومي. ليست كل المجموعات والأفراد الذين يشكلون اليمين المتشدد لديهم نفس المعتقدات أو يتبنون نفس الاستراتيجيات السياسية. لكن القسم الأكبر من هذا اليمين يتبنى وجهة نظر مجتمعية إقصائية، وهو بشكلٍ عام، يستهدف الملونين والنساء والمثليين ومزدوجي الميل الجنسي ومغايري الهوية الجنسية والأقليات الدينية والمهاجرين وغير المسيحيين.
هل يتكرر سيناريو الشيوعية الأوروبية؟
أحد الاقترابات التي غابت وسط ضجيج التنديد والشجب، المصاحب لصعود أحزاب أقصى اليمين الأوروبية، أن الديمقراطية الأوروبية نجحت في منعطف سابق مشابه في احتواء الحركات الشيوعية الأوروبية ودفعها إلى التحول إلى أحزاب تقبل التداول الديمقراطي للسلطة، وهو نجاح كان من أهم شروطه فك الارتباط بين الديمقراطية والليبرالية، ليلتقي الثوريون السابقون- في كل الدول الأوروبية تقريبًا- مع خصومهم على قبول تداول السلطة والاحتكام إلى الصناديق، والحالتان غير متطابقتين، لكن أوجه التشابه بينهما كبيرة، وقد يكون الاكتفاء بتحذير الناخبين من التصويت لقوى اليمين قد فات، وقد يكون مما تقتضيه الواقعية أن ينصب التفكير على «دمقرطة» أحزاب أقصى اليمين.
وأحد الاعتبارات الأكثر فعالية في أيِّ مسعى لاحتواء اليمين سيكون تأكيد أن وصوله للسلطة- منفردًا أو متحالفًا مع آخرين- كان مستحيلًا لولا تسامح المؤسسة، وأن الديمقراطية التي منحته الفرصة ينبغي احترام مؤسساتها وقيمها معًا. وبحسب ديفيد برودر، مؤلف كتاب: «أحفاد موسوليني: الفاشية في إيطاليا المعاصرة» أن «ميلوني تدين بالكثير للقوى الأكثر اعتدالًا... لقد أتاحوا لها الفرصة لتقديم نفسها كجزء من التيار السائد».
وبدأت الحركات الشيوعية الأوروبية مسيرتها نحو التغير مع تحولات شهدتها الحركة الشيوعية العالمية، فمنذ عام 1957 فصاعدًا، أعلن الزعيم الشيوعي الصيني ماو تسي رفضه التعايش السلمي مع الرأسمالية وقبول الطرق البرلمانية وغير العنيفة لتحقيق الاشتراكية. وبدأت الصين الماوية في الادعاء بأن الاتحاد السوفياتي لم يعد دولة ثورية حقيقية. وبعض الأحزاب الشيوعية الغربية مثل: الإيطالية والسويدية والنرويجية، انتهزت فرصة الانقسام الصيني السوفياتي لتأكيد استقلاليتها. ولم يكن هناك سبب لوقوف الشيوعية الأوروبية الغربية إلى جانب ماو، حيث رفض استراتيجيات ما بعد 1956 للطريق السلمي إلى الاشتراكية والتعايش السلمي، التي أصبحت أساسًا للاستراتيجية الشيوعية لأوروبا الغربية.
وبدأت تظهر بقدر أكبر من الوضوح الدعوات إلى استقلال كل حزب شيوعي. وفي منتصف الستينات، كثفت الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية اتصالاتها مع بعضها البعض وبدأت في العمل كمجموعة ضغط غير رسمية داخل هياكل الحركة الشيوعية العالمية. ويذهب كثير من الباحثين إلى أن الأحزاب الشيوعية في أوروبا الغربية تقاربت لأنها أدركت الحد الأدنى من المصالح المشتركة. ومنذ منتصف الستينات، ظهرت حالة انفراج في القارة الأوروبية، كانت ثمرة التغييرات في النماذج الأمنية التي اعتمدها الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة بعد أزمة الصواريخ الكوبية عام 1962. ونتج الانفراج الأوروبي، كذلك، عن حقيقة أن القوتين العظميين حولتا انتباههما- بدرجة أكبر- بعيدًا عن القارة العجوز. وفي نهاية المسار، بعد الثورات الديمقراطية عام 1989، أصبحت جميع الأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية تقريبًا أحزابًا ديمقراطية اجتماعية وأصبحت الشيوعية الأوروبية هي القاعدة.
ورغم أن الأحزاب اليمينية تتحرك جميعًا تحت مظلة سقف سياسي قومي (أو وطني) لا يرحب بأشكال التنظيم السياسي «فوق الوطنية» أوروبية كانت أو عولمية، فإن مرد ذلك قد يكون إلى المحتوى الليبرالي المتطرف للتصورات التي كانت تدعمها المنظمة الأوروبية وبعض مؤسسات الأمم المتحدة، ما يعني أنها قد تكون أقل تخوفًا وتحفظًا في حال أصبح «الصوت الأوروبي» أكثر ميلًا إلى التوفيقية.
انظروا خارج أوروبا
كاتب المقالات الإيطالي روبرتو سافيانو قال إن إمكان نجاح اليمين الإيطالي يرجع إلى أن «اليسار فشل، تمامًا كما هو الحال في معظم أنحاء العالم، في تقديم رؤى أو استراتيجيات موثوقة». وعند الحديث عن اليمين خارج أوروبا يصبح المثال البرازيلي درسًا شديد الأهمية، ويحذر باحثون من أن تطبيق التواصل الروسي «تليغرام» أصبح مركزًا لليمين المتطرف في البلاد، الذي يدعو إلى انقلاب عسكري أو انتفاضة عنيفة على غرار هجوم الكابيتول الأميركي في 6 يناير (كانون الثاني) 2021، في حال خسر الرئيس الحالي جاير بولسونارو. وهنا تتضح أكثر ممكنات احتواء اليمين الأوروبي ضمن ماكينة تداول سلطة تستمد قوتها من رسوخ التقاليد الديمقراطية وقدرتها- كما سبقت الإشارة في تجربة «دمقرطة» الأحزاب الشيوعية الأوروبية- فصعود أقصى اليمين خارج أوروبا، كما يعكس مثال البرازيل ينطوي على مخاطر محتملة تختلف باختلاف درجة رسوخ التقاليد الديمقراطية. وأحد الشعارات التي يرفعها اليمين البرازيلي: «دون تدخل عسكري لن يتغير شيء في هذا البلد!».
وقد يكون مما يسهم في وضع الصعود السياسي لليمين الإيطالي في سياقه الصحيح عالميًا، قراءته في سياق ما تعكسه «ظاهرة دونالد ترامب»، فقد قام جمهوريون من ولاية تكساس، بينهم السيناتور الأميركي تيد كروز بالتغريد بالثناء على جورجيا ميلوني، وأصدرت عضوة سابقة في مجلس الشيوخ بيانًا اعتبرت فيه ميلوني تخوض حربًا ثقافية وقارنتها بالمستبد المجري فيكتور أوربان المفضل بين المحافظين الأميركيين. ويشيع في خطاب الاحتفاء بتقدم اليمين تحذير من «نخبة عالمية» مسيطرة يخيفها صعود اليمين.
من الزعماء إلى خطباء الشرفات
أحد التغيرات الرئيسية في صعود اليمين المتطرف في أوروبا وخارجها نهاية حقبة المنظرين الكبار وصعود «خطباء الشرفات» وتغير أدوات التأثير التي كانت- منذ نهاية الحرب العالمية الثانية- تتمحور حول شبكات التلفزيون والمؤسسات الإعلامية التقليدية، ويمكن النظر إلى وسائل الإعلام الاجتماعي كرمز، ليس فقط للأدوات الجديدة لنشر الخطاب السياسي، بل لإنتاجه، فالتصورات النظرية الشاملة التي اعتاد الغرب أن تكون برامج سياسية ذات ملامح محددة، أخلت مكانها للخطاب الشعبوي الذي يخاطب الجماهير الواسعة، وبعد ما يزيد على قرن من غلبة المزاج النخبوي الذي خرج من رحمه رجال مثل: ونستون تشرشل أو فرانكلين روزفلت أو شارل ديغول أو غيرهم من الشخصيات القادرة على إنتاج أفكار ملهمة تستهلكها النخبة في المقام الأول، يتصدر المشهد خطباء قادرون على التواصل المباشر مع جماهير غفيرة، وبضاعتهم إشاعة المخاوف لا الآمال.
وفي عالم كان مليئًا بالدعوات ذات الأفق الكوني أصبحت الدعوة إلى عالم أقل انفتاحًا وأقل تعددية، يبدو أن أحلامًا مثل: «المواطن العالمي»، و«القرية الكونية الصغيرة» قد فقدت تأثيرها، وأما الديمقراطية فلم تعد تعني بالضرورة مزيدًا من الليبرالية أو التعددية، بل تتحول بوتيرة متسارعة إلى شكل إجرائي يستخدم لبناء الأسوار- السياسية والاقتصادية والأمنية- منفصلة عن القيم التي فشلت في استدامة المسار الصاعد للتقدم والرفاهية، وحتى لو لم تكن المشكلة في هذه القيم نفسها، فإنها قد أصبحت عند جماهير واسعة في الغرب بابًا دخلت منه مخاطر هددت الهوية الثقافية وعلاقات اقتصادية معولمة أفقدت اقتصادات وطنية عديدة بعض أسباب ازدهارها، بينما استفادت منها نخب سياسية واقتصادية في مختلف أنحاء العالم، ومن همشتهم الديمقراطية الليبرالية وغيرت عالمهم تغييرًا واسعًا يبحثون- عبر التصويت لليمين المتشدد- عن ديمقراطية أقل ليبرالية، واقتصاد أقل انفتاحًا على العالم وسياسات اجتماعية محافظة وهوية أقل تعددية.