بيروت: في صفحات كتاب اللبنانيين المتخم بالمعاناة، فصل جديد سيُضاف مع قدوم موسم الشتاء، ومسيرة نضالهم لن تقتصر على تأمين القوت اليومي، بل ستطال الحصول على «نفحة دفء» في أيام برد ستكون ثقيلة على غالبيتهم، وبشكل أقسى من الموسم الفائت، في ظل ارتفاع «كارثي» لكلفة التدفئة، ليس فقط بحكم التغيرات العالمية، بل جراء استمرار انهيار الليرة اللبنانية مقابل الدولار، و«تجمّد» الحد الأدنى للأجور البالغ 750 ألف ليرة أي ما دون المليون (ما يوازي 20 دولاراً حالياً، فيما كان يساوي قبل الأزمة بحدود 500 دولار)، يُضاف إليها «حفنة ليرات» تحت غطاء «دعم ومساعدة» من دولة حرمت مواطنيها من أبسط مقومات الحياة كالتدفئة والطبابة والتعليم.
شهر واحد يفصل اللبنانيين عن موسم مواجهة شهور الشتاء، فينتقلون من ضفة «صيف حار بلا تكييف» جراء غياب الكهرباء، إلى ضفة البرد القارس «من دون وسائل التدفئة»، في لوحة تختزل ما يرزح تحته اللبنانيون المعرّضون لخطر الموت إما «جوعاً» وإما «برداً»، والفائز منهم هو من يمتلك الفريش دولار، كونه يمتلك طوق النجاة من جهنّم العيش المرير.
تلسع نيران أسعار المحروقات، بعد رفع الدعم نهائياً عنها لتصبح بالدولار حصراً، جيوب اللبنانيين الذين سيفتقرون حرارةً ودفئاً بعيدين عن المنال، فخيار الانتقال من التدفئة على المازوت (الديزل أويل) إلى الحطب، ليس أقل وطأة، فتكلفة شراء المدافئ اللازمة للحطب ومستلزماتها، ارتفعت أسعارها أيضاً وباتت تخضع لبورصة سعر صرف الدولار لارتباط سعر الحديد الذي تصنع منه بتقلباته.
70 مليوناً كلفة التدفئة فقط!
بين صعوبة تأمين الاحتياجات الأساسية وانعدام مقومات العيش الكريم، همّ جديد أضيف إلى قائمة مستلزمات اللبنانيين، وخصوصاً أولئك الذين يقطنون المناطق الجبلية، ففي معظم القرى والبلدات والمدن اللبنانية التي تقع على ارتفاع 300 متر عن سطح البحر، تصبح التدفئة ضرورة لا يمكن الاستغناء عنها خلال فصل الشتاء.
اعتاد اللبنانيون، مع قدوم شهر سبتمبر (أيلول) تخزين محروقاتهم ومستلزمات التدفئة، إلا أن الأزمة منعتهم من تأمين المازوت أو الحطب اللازم خلال فصل الصيف كما جرت العادة، إذ تحول المازوت طيلة الأشهر الماضية إلى سلعة نادرة من حيث الثمن، كما توفرها في الأسواق.
وفق دراسة لشبكة «الدولية للمعلومات»، ومع اقتراب موسم الشتاء، سيحاصر الصقيع جدران المنازل في ظل ارتفاع كلفة التدفئة، خصوصاً إذا كان الموسم قاسياً وشديد البرودة، فوسائل التدفئة المختلفة باتت في مهب غلاء سيحرم الغالبية من استشعار لحظات دفء منشودة.
لحظت الدراسة أن الكهرباء لا يعتمد عليها في ظل الانقطاع الدائم للتيار الكهربائي وارتفاع كلفة المولدات (سعر الكيلوواط/ساعة حالياً نحو 15 ألف ليرة)، أما الغاز وهو أيضاً مرتفع الثمن نحو 350 ألف ليرة لقارورة الغاز وهي عديمة الفعالية في البرد الشديد، فيما المازوت وهو الوسيلة التي يعتمدها أكثرية اللبنانيين كلفتها مرتفعة، فسعر الصفيحة هو 700 ألف ليرة (كان السعر في العام الماضي 100 ألف ليرة) والحاجة هي إلى نحو 100 صفيحة للوحدة السكنية في موسم الشتاء (وهذه الكمية تختلف تبعاً للظروف المناخية)، تكون الكلفة هي 70 مليون ليرة في موسم الشتاء.
ومن ناحية الحطب، فقد تصل الحاجة إلى نحو 6 أطنان من الحطب (وهذه الكمية تختلف تبعاً للظروف المناخية)، وكلفة الطن الواحد إلى 6 ملايين ليرة أي نحو 36 مليون ليرة في الموسم، من دون إغفال أن تدني سعر الحطب مقارنة بسعر المازوت سيدفع بالعديد من الأسر إلى تبديل المدفأة من المازوت إلى الحطب وتحمل كلفة شراء مدفأة جديدة، وسط تحذير من تداعيات بيئية خطيرة إذ ستزيد من قطع الأشجار وافتعال الحرائق لتحويل الأحراج إلى غابات سوداء تسمح بقطع الأشجار.
أزمة مازوت «لا محالة».. والأسعار إلى تفلّت!
يقبع لبنان تحت تداعيات أزمة «مزدوجة»، فإلى جانب دولرة المحروقات بعد رفع الدعم كلياً عنها وتحليق سعر صرف الدولار، تتّجه البلاد نحو وضع مأزوم شتاءً على وقع شح في مادة المازوت، لأنّ المتوفّر بالكاد يكفي لإنتاج الطاقة، فما الحال مع بدء الموسم وازياد الطلب عليه لاستعماله للتدفئة، بالتوازي مع أزمة جديدة قديمة تتمثل في تهريب كميات منها إلى سوريا لجني الأرباح، وسوق سوداء لمادة المازوت المفقودة في غالبية محطات الوقود، والتي وصل سعرها إلى 27 دولارا أميركيا، أي حوالي مليون ليرة، فيما بلغ سعرها حسب آخر جدول رسمي لأسعار المحروقات 790 ألف ليرة أي 22 دولارا.
ووفق ما أكده ممثل موزعي المحروقات فادي أبو شقرا لـ«المجلة» فإن المحروقات في لبنان أصبحت على الدولار الكاش، وتحولت المشكلة من مصرف لبنان إلى محطات المحروقات التي لم تعد قادرة على الاستمرار في ظل الخسائر التي تتكبدها، فكلفة استيراد المحروقات باتت مرتفعة بالدولار في لبنان، ولا استقرار بأسعار النفط عالمياً.
وأوضح أن «لبنان لن يكون بمنأى عن المعاناة في موضوع أزمة المحروقات، وخصوصاً في مادة المازوت التي لا تصل بالكميات اللازمة، فأوروبا كانت تعتمد على الغاز الروسي، وجراء ما يحصل في أوكرانيا بات الطلب مرتفعا عليه»، مشيراً إلى أن «الكميات التي تأتي على لبنان قليلة، والمواطن اللبناني يتحمل غلاءها الذي يفوق قدرته».
وأكد أنه «ما لم يكن هناك سقف لارتفاع سعر الدولار، فإن الأسعار ستبقى متفلتة والمشاكل ستستمر في الشتاء وستنعكس على التدفئة والاستهلاك».
عاصفة غلاء.. و«رعب من الموت برداً»!
يخشى اللبنانيون من قسوة الشتاء، فظروفهم المادية حالياً أسوأ من السابق، والأولويات باتت لتأمين الطعام والطبابة والتعليم، قبل التفكير في التحضير لموسم «الشتوية» الذي يمتد على مدار 5 أو 6 أشهر، بدءاً من شهر نوفمبر (تشرين الثاني)، وحتى أبريل (نيسان)، وهم لا حول لهم ولا قوة أمام ما يتكبدونه من ضيق الحال.
بين الحطب والمازوت والغاز، يتحكم تجار الأزمة في وجع الناس، وهم بدأوا باستغلالهم عبر أسعار خيالية يعزونها إلى ارتفاع سعر الدولار، كما أن الكثيرين لجأوا، جراء عدم توفر مادة المازوت إلى تبديل أسلوب التدفئة نحو الحطب، الذي بات سعره يزاحم سعر برميل المازوت، والتوفير بات من المستحيل.
جزم سامر حسين (تاجر حطب) في حديثه لـ«المجلة» بأن «حتى سعر طن الحطب ارتفع عن العام الماضي وبات يتراوح بين 160 و240 دولارا، كما أن أسعار المدافئ الخاصة بها يتبدّل سعرها حسب حجمها، وهي تبدأ من 150 دولارا وتصل إلى 300 دولار»، لافتاً إلى أن «الاستهلاك تراجع، والبعض بات يستعيض عن شراء الحطب بتجميعه من الأحراج».
وأوضح أن «البعض عمد إلى تحويل المدفأة من المازوت إلى الحطب لعدم القدرة على شراء أخرى جديدة، فيما الغالبية لم تقم بالتحضير خلال الصيف وشراء مواد التدفئة لانعدام القدرة لدى الكثيرين».
في كلام علي صقر، وهو أب لثلاثة أولاد، ترتجف الكلمات خوفاً على صغاره، فهو حسب ما قال لـ«المجلة»: «عاجز على تأمين التدفئة لهم، على غرار العام الفائت، فعاصفة غلاء الأسعار ستحرمهم من نعيم سيفتقرونه على مدار موسم، لن تسعفهم من برودته إلا بطانيات، فبعد أن كان وهج صوبة المازوت (المدفأة) رفيق سهراتهم القارسة البرودة، بات لهيب سعره عنصراً أساسياً في حرمانهم منه».
على أمل أن لا تنعاد الشتوية الماضية بصقيعها، تمنّي هناء طرابلسي نفسها بأن تكون البرودة أقل حدّة وأرحم على اللبنانيين، لكنها لا تغفل في حديثها لـ«المجلة» نقمتها على المسؤولين الذين فتكوا بالمواطنين وحرموهم من أبسط مقومات العيش الكريم، وقالت: «وصلنا إلى درجة لم تكن في الحسبان بفعل سلطة فاشلة نكّلت بنا قهراً وجوعاً وبرداً، ولجأنا إلى إشعال مستلزمات خشبية وملابس قديمة لعدم قدرتنا على الحصول على التدفئة، والوضع الآن أشد صعوبة في ظل الارتفاع الجنوني لسعر الدولار والأرقام الخيالية لمواد التدفئة على اختلاف أنواعها».
«حتى التدفئة على الكهرباء باتت في الأحلام»، بحسب علا جنون التي لفتت عبر «المجلة» إلى أنه «لا خيار أمام عائلتها سوى التجمع في فصل الشتاء في غرفة واحدة، فالتقنين حتمي بحكم الظروف، إذ لم تستطع تخزين المازوت كما جرت العادة، وستستعيض عن ذلك بكميات حسب القدرة المادية وليس الحاجة اليومية».
في الخلاصة، يبدو أن اللبنانيين ذاهبون إلى شتاء لا دفء فيه إلا من استطاع إليه سبيلاً، فالأجساد كما الأرواح، ستتجمّد بانتظار نفحة أمل قد تحول دون قرصة البرد التي ستلتهم البيوت بمن فيها، حيث سيكون لسان الحال «الدفا عفا ولو بعز الصيف» في أحلك حقبة تمر بها البلاد، منذ بدء الانهيار عام 2019.