القاهرة: فتح قرار الإدارة الأميركية بحجب 130 مليون دولار من المساعدات العسكرية المخصصة لمصر، بحجة عدم امتثالها لشروط حقوق الإنسان التي وضعتها الخارجية الأميركية، المجال أمام التساؤلات حول مغزى القرار الذي اتخذته إدارة الرئيس جو بايدن، بضغط من الكونغرس، في خطوة نادرة تمارس للمرة الثانية ضد حليف مقرب ومهم للإدارة الأميركية، وذلك قبيل أيام قليلة من الموعد النهائي لإعلان وزارة الخارجية الأميركية عن خطط الأموال، وهي الجزء المتبقي من شريحة بقيمة 300 مليون دولار من المساعدات، فيما سيتم الإفراج عن مبلغ 170 مليون دولار، حيث يمثل ما تم حجبه نسبة عشرة في المائة من حجم المساعدات المقدمة لمصر والتي تصل قيمتها إلى 1.3 مليار دولار سنويا.
وما يثير التساؤلات هو حجم ما تم حجبه من قيمة المعونة المقدمة لمصر، والتي تحصل عليها منذ توقيع اتفاقية السلام مع إسرائيل، والتي لم تتجاوز مصر أيا من شروطها، وهو ما دفع لإطلاق العديد من التساؤلات: هل هناك مخاوف أميركية حقيقية تتعلق بملف حقوق الإنسان، وتسعى من وراء استغلال ورقة الضغط هذه (حجب جزء من المعونة العسكرية) لسد الثغرات في هذا الملف الذي وعد الرئيس الأميركي جو بايدن بتحسينه من خلال حملته الإنتخابية؟ أم إن حجب جزء من المعونة يأتي في إطار الابتزاز الأميركي الذي تمارسه إدارة بايدن على القاهرة من أجل تغيير بعض مواقفها في السياسة الخارجية، وبعيدا عن حقوق الإنسان خاصة، في ظل ما يمر به العالم من توترات سياسية خلقتها الحرب الروسية الأوكرانية؟ وتسعى إدارة بايدن لجذب القاهرة بعيداً عن أي توافقات مع المحور الروسي الصيني، بإبراز عدد من أوراق الضغط، التي تأتي ورقة المعونات العسكرية ضمنها؟ خاصة وأن مصر تمارس سياسة الحياد الإيجابي في هذه المسألة حيث قامت بإعلان معارضتها الغزو الروسي لأوكرانيا، وفي ذات الوقت تتمتع بعلاقات جيدة مع موسكو.
المعونة مرتبطة باتفاقية السلام ولا يجوز حجبها
«يقع قرار حجب 130 مليون دولار من قيمة المساعدات العسكرية المقدمة لمصر في إطار الابتزاز السياسي الأميركي وإدارة الرئيس بايدن، لأنه من المفترض أن المعونة العسكرية الممنوحة لمصر يمكن منعها، أو حجب جزء منها إذا قامت مصر بالإخلال بالتزاماتها التي تسببت في وجود المعونة أصلاً، وهي اتفاقية السلام الموقعة بين مص وإسرائيل برعاية أميركية، ومصر لم تخرج عن إتفاقية السلام مطلقا، وبالتالي لا يجوز للولايات المتحدة ان تقوم بقطع (مليم واحد) من المعونة»، حسب مساعد وزير الخارجية الأسبق، الدكتور عبد الله الأشعل، في تصريحات خاصة لـ«المجلة» قال فيها: «من المؤكد أنه لو قمنا برفع دعوى قضائية على الإدارة الأميركية أمام المحاكم الأميركية سوف نسترد المبالغ المحجوبة من قيمة المعونة، لأنه ليس من حق الولايات المتحدة قانونا أن تمس المعونة المقدمة لمصر التي أوفت بجميع التزاماتها وفقا لمعاهدة السلام ووفقا للمعاهدة المبرمة بين البلدين، الخاصة بالمعونة والتي تم توقيعها في 26 مارس (آذار) 1979 قبل توقيع معاهدة السلام، وبالتالي مصر لها الحق الكامل في أن تقاضي الولايات المتحدة، وفي نفس الوقت لا أحبذ، ولا أنصح الحكومة المصرية بمعاداة الحكومة الأميركية، ولكن على الحكومة المصرية الدفع ببعض الشخصيات التي لا تتمتع بصفة رسمية في الحكومة برفع مثل هذه الدعوى على الحكومة الأميركية، وذلك في إطار تنسيق الأدوار، كما يجب على الحكومة المصرية استدعاء السفير الأميركي وإفهامه أن المعونة هي مقابل التزام مصر بمعاهدة السلام».
الخبير العسكري والمحلل الاستراتيجي اللواء أركان حرب مدحت عواد مصطفى الشريف يعطي رأياً مخالفاً في تصريحات خاصة لـ«المجلة»، ويقول: «المعونة الأميركية ليست جزءاً من اتفاقية السلام الموقعة بين مصر وإسرائيل برعاية أميركية، لأن هناك خلطا في هذا الأمر، إذ إنّ المعونة ليست بندا من بنود الاتفاقية، بل أتت عن طريق خطاب تم توجيهه من وزير الخارجية الأميركية إلى مصر لتعزيز الثقة في اتفاقية السلام، وبدأت تتحدث عن تقديم معونة عسكرية أميركية إلى مصر وتم وضع تفاصيلها، وكان لها رقم كبير في البداية، ثم بدأ يتناقص تدريجياً، وحجب جزءٍ من المعونة ليس مخالفاً لاتفاقية السلام، إذ إنها تعد نوعاً من التحفيز لاستمرار السلام، وليس هناك ما يلزم الإدارة الأميركية بدفع هذا الرقم كل سنة، لكن هي مؤشرات تدل على اتجاه الإدارة لاستخدام بعض أوراق الضغط على مصر قد يكون لها مآرب أخرى نحن لا نراها، ويعتبر ملف حقوق الإنسان واجهة تخفي وراءها هذه المآرب».
أوراق ضغط تعبر عن اتجاهات الإدارة الأميركية
ويضيف اللواء مدحت عواد: «الإدارة الأميركية قامت العام الماضي بقطع جزء من المعونة المقدمة لمصر في نفس التوقيت تقريباً، وكانت المرة الأولى في سبتمبر (أيلول) 2021، حيث تم حجب 130 مليون دولار منها، وهذه النسبة تشكل 10 في المائة من حجم المعونة التي تبلغ 1.3 مليار دولار أميركي، وهذا العام تكرر نفس الموضوع، وكانت الإدارة الأميركية قد وضعت العام الماضي أسباباً لقرارها، والتي لم تختلف كثيراً عن الأسباب الحالية، ويأتي على رأسها ملف حقوق الإنسان، وطالبت بالإفراج عن أسماء محددة من المسجونين على ذمة قضايا، وتكلموا عن ضرورة فتح المجالات لحرية حركة منظمات حقوق الإنسان والاختفاء القسري والحبس الاحتياطي المفتوح، وغير ذلك، وتم تكرار نفس الموقف هذا العام، وهذا يوضح اتجاه الإدارة الأميركية».
ويتابع: «الرقم الذي تم حجبه ليس له تأثير كبير من الناحية المادية، ولكن التأثير الكبير في هذا الموضوع أن هناك اتجاها من أميركا للضغط على مصر بملف حقوق الإنسان. ولذلك هناك مجموعة من الإجراءات يجب على مصر اتخاذها خلال المرحلة المقبلة، أولها تعزيز ملف حقوق الإنسان، والرئيس السيسي أطلق مبادرة الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان في 2021، وهذه المبادرة تعمل على تعزيز قيم الديمقراطية والتعامل مع الرأي والرأي الآخر، وفتح مجال أكبر للحريات السياسية للمواطنين بشكل عام وذلك لتخفيف الضغط، لأن هذا الضغط يقصد به القول إنّ هناك حالة عدم رضا، وإنّ هناك أوراق ضغط سوف تستخدمها الإدارة الأميركية ضد مصر، وهذا ما حصل في كثير من الأحداث على مدار العام منذ 2021، وحتى الآن في كثير من الإجراءات التي قامت بها أميركا، وبالتالي هي ورقة ضغط تستخدمها إدارتها لإطلاق الكثير من منظمات المجتمع المدني التي تعمل في مجال حقوق الإنسان، وإفساح المجال مرة أخرى لهم، وإعادة حق التظاهر، والإفراج عن جميع المحبوسين احتياطيا، والمعارضين السياسيين، أو المحبوسين في جرائم الرأي بشكل عام».
ويرى أنّ «ما تطلقه الإدارة الأميركية لم تفرق فيه بين الجماعات الإرهابية التي تقوم بأعمال ضد مصر، أو معارضين للرأي بشكل أو بآخر سواء كانوا كتابا، أو مدونين، أو أحزابا سياسية، أو منظمات حقوق إنسان في مصر، وبالتالي هي ورقة ضغط على مصر لتعزيز قيم الديمقراطية طبقا لما أشارت إليه. لذا لا بد أن نقوم بتفعيل الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان التي أطلقها الرئيس السيسي، وفتح وسائل الإعلام للرأي والرأي الآخر، وتعزيز قيم المواطنة، وتعزيز قيمة مصر، ولدينا نقطة مهمة، وهي العدالة الناجزة لأنه يوجد الكثير من المحبوسين احتياطيا، وهذا أمر مهم في هذه المرحلة. وفي نفس الوقت فإن تعزيز قيم الديمقراطية بمعنى أن يكون هناك تعامل متساو مع كافة القوى السياسية في مصر سواء كانوا أحزابا أو مستقلين. ومن المهم تفعيل الاستراتيجية الوطنية لمكافحة الفساد التي تضع قواعد واضحة لإرساء القانون، لأن البعض يتخيل أن القانون يطبق بشكلٍ انتقائي، وهذا أمر يفقدنا أكبر قيمة من قيم الديمقراطية والحريات السياسية في مصر».
إجراء تعسفي لا يمثل ضررا كبيرا لمصر
«الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قال (مش عايزين معونة)، إلا أن هذه المعونات التي نحن بصددها قد تمت وفق اتفاقية، وليست منة من الولايات المتحدة ، بل جاءت ربطا باتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل»، وذلك حسب الخبير العسكري والاستراتيجي في أكاديمية ناصر العسكرية العليا، اللواء أركان حرب، عادل العمدة، الذي يقول في تصريحات خاصة لـ«المجلة» إنّ «هناك نصوصا لهذه الاتفاقية، والسؤال هنا هل هناك تجاوز لبنود اتفاقية السلام؟ ليس هناك تجاوز للاتفاقية من قبل الجانب المصري يستوجب قطع المعونة، والإجراء الأميركي بحجب جزء من المساعدات العسكرية هو إجراء تعسفي، على الرغم من أن مصر ليست متضررة من قطع هذا المبلغ إلا أنّ الجانب الأميركي يستخدم هذه الآلية لفرض عقوبات، لأن واشنطن تريد أن تأخذ مصر موقفا ضد روسيا في حربها مع أوكرانيا، إلا أنّ مصر تفعل الصواب من وجهة نظرها، ولا أحد يملي عليها شروطاً، وقرارها السياسي حر، لذلك هناك محاولات أميركية لابتزاز مصر سياسياً، عن طريق فرض بعض العقوبات عبر حجب جزء من معونة لها ارتباط بمعاهدة السلام، وهذا يعد ابتزازاً بحجة أن مصر لديها تجاوزات فيما يتعلق بملف حقوق الإنسان، التي تحصرها الإدارة الأميركية فقط في حرية التعبير عن الرأي، برغم أن حقوق الإنسان لها معنى أوسع يتعلق بالحق في المسكن، والملبس والعلاج، والحياة الكريمة».
ابتزاز سياسي
ليست المرة الأولى التي تحجب فيها الولايات المتحدة الأميركية لـ130 مليون دولار من المساعدات العسكرية السنوية المقدمة لمصر، حسب رئيس حزب المصري اللواء سيد الجابري، الذي يقول في تصريحات خاصة لـ«المجلة» إن «هناك أسبابا تتعلق بوجهة نظرهم بخروقات في ملف حقوق الإنسان في مصر، ونحن نرى أن الولايات المتحدة تحاول تشكيل نظام عالمي جديد طبقا لأولوياتها الاستراتيجية، ولا ننسى الدعوة التي وجهها الرئيس بايدن لعقد مؤتمر دولي لحقوق الإنسان ولم يدع مصر لهذا المؤتمر، وهذا يشير إلى توجهات الإدارة الأميركية الحالية، وإدارة الرئيس بايدن تنهج هذا المنهج في استراتيجيتها للتعامل مع الدول الديمقراطية- وغير الديمقراطية، وهو ما يؤكد أن قرار إدارة بايدن هو نوع من أنواع الابتزاز السياسي. ويجب على الدولة المصرية، والمجتمع العمل والإنتاج حتى لا نكون في حاجة للمعونة، ولا نخضع لأي ابتزاز سياسي أو اقتصادي، والمواجهة الحقيقية مع واقعنا من خلال استراتيجية ناجحة لتطوير الاقتصاد المصري وعدم الاعتماد على المعونات، وترتيب أولوياتنا. وسد الثغرات والذرائع ليس من أجل الحصول على 130 مليون دولار التي تم حجبها، ولكن من أجل دحض الادعاءات التي يتم توجيهها لمصر.
ضغوط من الكونغرس على إدارة بايدن
حجب جزء من المعونة العسكرية الأميركية المقدمة لمصر هو قرار ينفّذ للمرة الثالثة خلال العشر سنوات الأخيرة، والمبالغ التي تم حجبها في المرتين السابقتين تمت إعادتهما مرة أخرى إلى مصر بعد ستة أشهر فقط من حجبهما، وذلك حسب المفكر الاستراتيجي والخبير العسكري اللواء سمير فرج، الذي يقول في تصريحات خاصة لـ«المجلة» إن «الإدارة الأميركية عليها ضغط من الكونغرس بناء على قرار من لجنة حقوق الإنسان فيه، وعلى الإدارة التنفيذ، ولكن بعد قيام مصر بتبديد المخاوف تمت إعادة المبالغ التي حجبت، ونحن غير قلقين من قرار الإدارة الأميركية، لأن العلاقات المصرية الأميركية تسير بمستوى متميز، كما أن مصر قامت بعدة إجراءت تتعلق بتحسين ملف حقوق الإنسان، إضافة إلى الإفراجات التي تمت على المحبوسين احتياطيا على ذمة التحقيقات، وتشكيل لجنة للإفراج عن المحبوسين على ذمة التحقيقات، عدا الذين ارتكبوا أعمالا إرهابية أو عدائية في مواجهة الدولة المصرية، ونحن لا نرى أي مشكلة، لأن العلاقات بين البلدين تسير بمنحى ممتاز للأعلى، وتقدر واشنطن قيمة مصر التي تعد مفتاح التوازن في المنطقة، وهو ما ظهر جلياً خلال الحرب الإسرائيلية الأخيرة على غزة والتي أظهرت أنه لا يستطيع أحد الوصول إلى تهدئة سوى مصر، لذا هناك تقدير كامل للدور المصري في المنطقة».