جدل حول محاكمة خالد شيخ محمد

جدل حول محاكمة خالد شيخ محمد

[escenic_image id="5511450"]

أين كنتم عندما أطلق النار على كينيدي؟ منذ عدة أجيال مضت كان هذا السؤال بمثابة خلفية للحدث الذي رسم في ذلك الوقت معالم الوجدان الأمريكي. والآن فقد أصبح السؤال هو: أين كنت يوم الحادي عشر من سبتمبر/آيلول ؟

إن الهجمات الإرهابية التي وقعت في نيويورك وواشنطن قد تم تحليلها فيما يتعلق بتأثير هذه الأحداث على رؤية الولايات المتحدة لذاتها وقدراتها ومسئولياتها على الصعيدين  الدولي والمحلي. وكانت نتيجة هذه الأحداث  إعطاء الضوء الأخضر المشئوم لعدد من السياسات التي طبقتها إدارة بوش وأدت إلى تشويه صورة الديمقراطية بالداخل والخارج .. وبينما عمدت الإدارة الجديدة إلى إزالة الآثار التي خلفتها الأحداث المفجعة، فإنه يتعين على إدارة أوباما ألا تتعامل مع توابع الهجمات على أنها مجرد كارثة عابرة إذ لا تزال آثار تلك الأحداث شاخصة إلى الآن.

وفي الأسابيع الأخيرة، ثارت ضجة كبرى في الولايات المتحدة حول قرار الإدارة الأمريكية بمحاكمة خالد شيخ محمد، الذي سبق أن أعلن مسئوليته عن تدبير الهجمات الإرهابية، في محكمة مدنية بمدينة نيويورك مع أربعة معتقلين آخرين. والسؤال الذي أثار الجدل يتعلق بإمكانية  محاكمة المدعى عليهم في نيويورك باعتبارهم مدنيين.

وتتعدد الآراء في هذا الشأن .. هناك من يؤكد أن إجراء المحاكمة بجوار "جراوند زيرو" سيحمل مغزى رمزيًا لأسر الضحايا  يدل على تحقق العدالة. بينما يشير آخرون إلى أهمية إجراء محاكمة عادلة بعد فضائح انتهاكات حقوق الإنسان العديدة خلال عملية البحث عن المشتبهين-على سبيل المثال وليس الحصر فضائح جوانتانامو والتعذيب بالمياه وسجن أبوغريب. وثمة فريق ثالث يرفض قرار محاكمة المتهمين في نيويورك لما يمكن أن يتمخض عنه من آثار بالنسبة للمدينة الكبرى، بينما يرفضه آخرون لأنه يمنح الجماعات الإرهابية فرصة للحصول على معلومات استخباراتية من هذه المحاكمات.

ومن خلال تفحص هذه الآراء مجتمعة يبدو أن كل رأي تحركه معايير مختلفة تمامًا عن غيره من الآراء  في تحديد الوضع النهائي الصحيح. ومن بين هذه المعايير المحددة المعيار الأخلاقي والقانوني والأمني والدبلوماسي.

إلا أن السبب وراء الجدل الدائر مازال غير واضح. ففي كل الأحوال- سواء أكانت المحاكمة مدنية أم عسكرية- ستتم إدانة المعتقلين وسيتم القصاص لأسر الضحايا والمجتمع الأمريكي برمته. وثانيا لم يدع أحد من الساسة أن كل معتقلي جوانتانامو سوف تتم محاكمتهم كمدنيين أو أن ذلك أمر واجب. وفي حقيقة الأمر فإن غالبيتهم ستتم محاكمتهم أمام محاكم عسكرية. وفي خلال لقاء أجراه أخيرًا مجلس العلاقات الخارجية مع ستيفين سيمون وجون بيللينجر وهما خبيران في الشرق الأوسط والقانون الدولي على التوالي، اتفق الرجلان على أن تلك القضية ليست واضحة المعالم. وقد جرت محاكمات مماثلة في الولايات مثل المحاكمة الفيدرالية للشيخ عمر عبد الرحمن المسئول عن تفجيرات مركز التجارة العالمي عام 1993. فلماذا أصبح الأمريكان هذه المرة منقسمين إلى هذا الحد حول مكان وكيفية تلك المحاكمة على وجه الخصوص؟

وبالرجوع إلى واحد من المقالات العديدة التي نشرت أخيرًا حول هذا الموضوع، نجد أن آلان جيرسون ، مستشار الشئون الدولية الأسبق في إدارة ريجان، يربط بين محاكمة خالد شيخ محمد ومحاكمات نورمبرج في مقال نشر أخيرًا بالصفحة الأخيرة من نيويورك تايمز.

ويلاحظ جيرسون أن " التنازل عن الخط التقليدي المتمثل في المحاكمات العسكرية ينطوي على تكلفة باهظة. ولا تستحق أسر ضحايا الحادي عشر من سبتمبر/آيلول أن تعاقب مرتين: مرة من خلال الفظائع التي ارتكبت بحقها ومرة أخرى من خلال تزييف التاريخ بهدف خلق انطباع غير حقيقي عن قاتل منحرف انتهك القانون". وعلى وجه التحديد، فإن الدور التاريخي الفاصل الذي يمكن أن تلعبه محاكمة ما تتعلق بهجمات 9/11 هو ما يجعل مثل هذا القرار مثارًا للخلاف.

ولم تنبع أهمية محاكمات نوركبرج فقط من قدرتها على إدانة جرائم الحرب العالمية الثانية. فوراء هذا الهدف الإنساني والأخلاقي، كان ثمة أجندة سياسية واضحة لهذه المحاكمات كما هو الشأن في محاكمات عديدة ذات مغزى بالنسبة للهوية الوطنية. ومثل محاكمات نورمبرج، تعد محاكمة خالد شيخ محمد ذات مغزى سياسي رمزي، كما أن الثقل  السياسي للمحاكمة هو ما يجعل مكان وكيفية عقدها معركة جديرة بالخوض فيها بالنسبة للكثيرين.

وتشير المقالات المنشورة بنيويورك تايمز وول ستريت جورنال إلى أن ثمة بعدًا حزبيًا يكمن وراء الخلاف حول قرار عقد المحاكمات في نيويورك، في ظل معارضة غالبية الجمهوريين له وموافقة الكثير من الديمقراطيين عليه. وبينما الانقسام بين الديمقراطيين والجمهوريين هو أمر وارد في أي قرار مهم تتخذه الولايات المتحدة، فإن الجدل الدائر حاليًا يتسم بدرجة من الخصوصية نظرًا للكيفية التي أثرت بها أحداث 9/11 على الهوية السياسية للولايات المتحدة على الصعيدين المحلي والدولي.

ووفقًا للـ" بي بي سي"، فقد وصف عضو مجلس الشيوخ الجمهوري ميتش كونيل القرار بأنه "ردة إلى الوراء لبلدنا" من شأنها أن تعرض جميع الأمريكيين للخطر بلا داع

 ووصف المرشح الرئاسي الجمهوري الأسبق السيناتور جون ماكين المتهمين بقوله : " إنهم مجرمو حرب ارتكبوا أعمالا عدوانية ضد مواطنينا وعشرات من مواطني الدول الأخرى. وعلى الجانب الآخر، نجد أناسا مثل توم مالينويسكي الناشط بهيومان رايتس ووتش الذي يرى أن :" مثول هؤلاء الأشخاص أمام العدالة في ظل نظام شرعي سيتيح للعالم الفرصة للتركيز في نهاية الأمر على الفظائع التي ارتكبوها ضدنا وليس على الطريقة التي تعاملنا بها معهم".

وتخفي هذه الآراء وراءها أكثر من مجرد خلاف حول المكان الذي ينبغي أن تعقد المحاكمة فيه. فمن الواضح أنها اتهامات واضحة متبادلة بين الأحزاب كما تعد دليلا على  مدى الانقسام الذي أصاب السياسة الأمريكية. ويشكك النواب الجمهوريون في قدرة الحكومة الحالية على إجراء المحاكمة، وهي الحكومة التي تصادف أن القائمين الرئيسيين على إدارتها أعضاء في الحزب الديمقراطي. ومن ناحية أخرى تدافع المعارضة عن قرارها باعتباره إجراء ضروريا لإزالة أثار ما أفسدته الحكومة السابقة (حكومة الجمهوريين).

ومن يملك أمر محاكمة شيخ خالد محمد ستكون  له سلطة إطلاق التصريحات حول أخطاء الماضي التي ارتكبتها الولايات المتحدة على الصعيدين المحلي والعالمي. وبينما يعتبر الجزء الأكثر بروزا لمحاكمة خالد شيخ محمد هو قدرة العدالة على أن تأخذ مجراها من خلال مثل هذه المحاكمة، فإن طبيعة الجدل الدائر في الولايات المتحدة حول المحاكمة يعكس وجها قبيحا للسياسة الأمريكية. فرغم ما أحدثته هجمات الحادي عشر من سبتمبر/آيلول من تغييرات في الولايات المتحدة والعالم كله، مازالت السياسة الحزبية تؤثر على كثير من هذا الجدل الوطني داخل الولايات المتحدة. وهذه الحالة الأخيرة من التراشق الخفي  أعمت الكثيرين من ذوي السلطة عن رؤية الأبعاد الجوهرية للمحاكمات القادمة.

font change