فلادلفيا - مايا أوتاراشفيلي*
* لا يستطيع الاتحاد الأوروبي اختلاق أخبار كاذبة ونشرها داخل روسيا لأن فعل ذلك سيخالف صميم قيمه الديمقراطية.
هل يستطيع الاتحاد الأوروبي تكوين إجماع بين أعضائه بسرعة كافية للاستعداد لفترة بوتين الرئاسية الرابعة؟
خرجت روسيا بدروس مستفادة على مدار أربعة أعوام على الأقل مارست فيها تدابيرها النشطة في أوروبا والولايات المتحدة. وأصبحت موسكو ذات سجل مشهود بعمليات التأثير الناجحة في الغرب، بدءًا من التدخل في الانتخابات إلى عمليات التصيد الآلية عبر الإنترنت. لا شك في أن هذه الدروس سوف تغذي استراتيجية فلاديمير بوتين في السياسة الخارجية بينما يبدأ فترته الرئاسية الرابعة. بيد أن الغرب لا يزال متأخرًا عن الركب؛ إذ تنسحب أميركا سريعًا من موقعها القيادي العالمي، ولا يزال الناتو في حاجة ملحة إلى التحديث، ويفتقد الاتحاد الأوروبي إلى الثقة والقدرة على التحرك على نحو سريع وجماعي.
في الأعوام الأخيرة، اكتشفت الديمقراطيات الغربية أنه من الصعب الدفاع عن نفسها ضد روسيا التي استعادت نشاطها في ظل الفترة الثالثة من رئاسة فلاديمير بوتين. يرجع ذلك في الغالب إلى حقيقة أن روسيا فيما يتعلق بتقنيات الحرب الهجين متقدمة كثيرًا عن أوروبا والولايات المتحدة. أصبحت روسيا رائدة في تكتيكات الحرب الهجين بتحقيق استفادة كاملة من تطورات التكنولوجيا الحديثة، ونشرت ببراعة إمكانياتها في مختلف المجالات ذات الأهمية الاستراتيجية. في أثناء خوض روسيا لحروب تقليدية في ساحة أوروبا الخلفية في أوكرانيا (منذ عام 2018) وقبلها في جورجيا (في أغسطس/ آب 2008)، استخدمت موسكو أوروبا كحقل تجارب لإمكانياتها في الحرب الحديثة، حيث نشرت تكتيكاتها التي لا تزال تثبت أنه من المستحيل تقريبًا على الغرب أن يمنعها. تضمن ذلك شن حرب إلكترونية على إستونيا في 2007 بالإضافة إلى عمليات تأثير (من نشر أخبار ودعاية إعلامية كاذبة) في بريطانيا وهولندا وفرنسا وألمانيا وغيرها من المناطق في الغرب في فترات حرجة تشهد إجراء استفتاءات مثل البريكست أو انتخابات مثل الانتخابات الرئاسية الفرنسية. تستمر تبعات التدخل الروسي الناجح في انتخابات الرئاسة الأميركية لعام 2016 في الظهور حيث استطاعت موسكو فعل ما ظنه كثيرون مستحيلاً في السابق – وهو تقويض الديمقراطية في أميركا. وكانت النتيجة الأساسية لتلك الجهود هي انسحاب أميركا التي أصابتها اضطرابات داخلية.
وفي حين يتجهز بوتين لفترة رابعة في رئاسة روسيا، يستعد الغرب لجولة أخرى من عمليات التأثير الروسية التي تهدف إلى تأجيج مزيد من الفوضى السياسية والاجتماعية. ولكن يبدو أن الغرب لا يستطيع اللحاق بالركب، على الرغم من الدروس المستفادة على مدار الأعوام من نماذج السلوك الروسي العدائي الكثيرة. وفي الوقت الذي تنسحب فيه الولايات المتحدة من قيادة العالم في ظل أجندة الرئيس ترمب التي تنادي بـ«أميركا أولا»، تبقى أوروبا لتدافع عن ذاتها في مواجهة التهديدات الروسية الهجين. بعد قمة مجموعة الدول الصناعية السبع المخيبة للآمال في مايو (أيار) 2017. أعلنت المستشارة الألمانية أنجيلا ميركيل بجرأة أن أوروبا يجب أن «تجعل مصيرها في يدها» فيما يخص البريكست وترمب وروسيا العدائية. ولكن في مؤسسة لا يُعرف عنها سرعة الحركة والكفاءة، يُعد الحديث عن فكرة التحرك السريع للتقدم على موسكو أسهل من الفعل.
هل يستطيع الناتو وبيسكو إنقاذ الموقف؟
يسرى شعور مشترك على نطاق واسع بأن هجوم روسيا على أوكرانيا كان نداء لإيقاظ أووربا. ولكن مرت أربعة أعوام منذ أن وقع الهجوم، ولا تزال الحرب في دونباس دائرة؛ ولم تُتخذ وسيلة فعّالة في الاتحاد الأوروبي لردع روسيا عن تنفيذ إجراءات أخرى. كانت قمة الناتو في وارسو عام 2016 نقطة تحول، إذ أعلن الناتو بصفة رسمية أن روسيا تمثل تهديدًا كبيرًا، وعزم على تبني مبادرات جديدة تهدف إلى زيادة قدراته الرادعة من أجل الحفاظ على الأمن الأوروبي. ولكن منذ شهرين فقط، قبل اجتماع اللجنة العسكرية في الناتو، صرح قائد قوات المشاة البحرية الأميركية ورئيس هيئة الأركان المشتركة الجنرال جو دانفورد قائلاً: «لا يشعر أحد منا بالارتياح لما وصلنا إليه. إذا كنت راضيًا عن هذا الوضع، فقد عفى عليك الزمن». واستطرد موضحًا قائمة بالمجالات التي تحتاج إلى التحديث بصفة عاجلة: «أود التأكيد على المجال البحري، وعمليات المناطق الخلفية وتنظيم القوات البرية في إطار حالات الطوارئ الخاصة بالناتو. وفيما يتعلق بالإمكانيات: الإنترنت وحرب المعلومات والدفاع الصاروخي».
في نهاية عام 2017، دشن 25 من 28 عضوًا في الاتحاد الأوروبي جهدًا لتعزيز الدفاع المشترك. أطلقت اتفاقية التعاون المنظم الدائم (بيسكو) عملية تعاون وثيق في الأمن والدفاع داخل أوروبا: «وافقت الدول الأعضاء على تعزيز عمل الاتحاد الأوروبي في هذا المجال واعترفت بأن رفع مستوى التنسيق وزيادة الاستثمار في الدفاع والتعاون في تطوير الإمكانيات العسكرية تعد متطلبات أساسية». ووفقًا لما ورد في صحيفة «وقائع بيسكو»: «إن بيسكو إطار عمل وعملية يستندان إلى معاهدة بهدف تعزيز التعاون الدفاعي بين الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي ممن يملكون إمكانية ورغبة في تنفيذ ذلك. والهدف هو تطوير مشترك لقدرات الدفاع وإتاحتها لعمليات الاتحاد الأوروبي العسكرية». وتضم المبادرة في الوقت الحالي قائمة بأفكار لإقامة 47 مشروعًا.
أصبحت هذه المبادرة التي تقودها ألمانيا ممكنة بفضل البريكست؛ ففي حين كانت الفكرة مطروحة منذ الخمسينات من القرن الماضي، عارضتها بريطانيا طويلاً. بيد أن البيسكو لا تزال في مرحلة تحديد المفاهيم - وبالتالي من السابق لأوانه مناقشة فعاليتها الممكنة، كما أنها ليست إجراءً مضادًا موثوقا به ضد روسيا على الأقل على المدى القريب.
أوروبا تحتاج إلى اللحاق بروسيا
[caption id="attachment_55264438" align="aligncenter" width="956"] لافتة روسية خلال مؤتمر صحافي عقده الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في مركز التجارة العالمي في موسكو نهاية العام الماضي . (غيتي)[/caption]
من المؤسف أن المساعي القائمة – والبطيئة - لردع روسيا توجه صوب واحد أو اثنين فقط من عدة نقاط ضعف كشفت عنها الهجمات الروسية السابقة. إن التعزيز العسكري وحتى بعض أنواع القدرات الإلكترونية من أيسر النقاط، ولكن نقاط الضعف الأكثر عمقًا وصعوبًة لم تُعالج حتى الآن. من المؤكد أن قدرًا كبيرًا من التهديد الروسي يضم أساليب الحرب التقليدية ويتطلب من الاتحاد الأوروبي رفع إمكانياته الدفاعية. يتضمن ذلك تعزيز قوات الناتو في إستونيا ولاتفيا وليتوانيا وبولندا في جزء من مساعي الناتو للصمود. كذلك تعهد الناتو أيضًا بضمان التزام جميع دوله الأعضاء بشروط المساهمة باثنين في المائة من الناتج المحلي الإجمالي الخاص بكل منهم إلى الناتو بحلول عام 2024. كانت هناك لحظة ظن فيها الكثير من الخبراء بالفعل أن روسيا ربما تشعل صراعًا ماديا في مكان ما في دول البلطيق. ولكن اتضح أن روسيا ليست في حاجة إلى اعتداء مادي على الدول الأعضاء في الناتو، في ضوء نجاحها الملحوظ في عمليات التأثير. وجدت روسيا أن الحرب الهجين مفيدة نظرًا لأنها تسمح لموسكو بالقيام بمناورات سريعة وخفية تقع في منطقة رمادية ما بين الهجوم العسكري غير الشرعي وممارسة القوى الناعمة في الخارج. والأنظمة الديمقراطية بطبيعتها ليست مجهزة للرد بفعالية في حالة وقوع هذا النوع من عمليات المنطقة الرمادية. على سبيل المثال، لا يستطيع الاتحاد الأوروبي اختلاق أخبار كاذبة ونشرها داخل روسيا لأن فعل ذلك سيخالف صميم قيمه الديمقراطية. ولكن ينبغي عليه البحث عن وسيلة يجعل بها مواطنيه أقل عُرضة لعمليات التأثير الروسية ولا سيما في نطاق الإنترنت.
في المجمل، لا يزال الناتو قيد عملية تحديث لتلبية احتياجاته الدفاعية المتغيرة باستمرار، ولا تزال بيسكو في مرحلة تكوين مبكرة، بينما روسيا جاهزة الآن. فهل يستطيع الاتحاد الأوروبي تكوين إجماع بين أعضائه بسرعة كافية للاستعداد لفترة بوتين الرئاسية الرابعة؟ للأسف تبدو التحولات الإيجابية في هذا الصدد ضئيلة للغاية مقارنة بالمثابرة والتصميم الروسيين.