لندن: يستدعي خبر الموت ردود فعل غير معتادة. يمكنه أن يفاجئنا أو يشل تفكيرنا أو يفرقنا أو يوحد صفوفنا. وبالتأكيد استدعت وفاة الملكة إليزابيث الثانية، التي جلست على عرش البلاد فترة طويلة كحاكمة لـ32 دولة، ردود فعل على المستوى الفردي والمجتمعي والوطني والدولي. كان وقع الخبر مزلزلاً. تشير التقديرات إلى أن أربع مليارات شخص تابعوا مراسم الجنازة التي تمت الأسبوع الحالي- أي أكثر من نصف سكان العالم- مما يكشف حجم تأثير هذه السيدة التي يطلق عليها لقب «ليلبيت» في حياتها وبعد وفاتها.
بعد دفن جثمان الملكة إليزابيث الثانية، تدخل العائلة الملكية في فترة حداد خاص. يمكن القول إن المناسب للشخصيات العامة أن تحظى بوقت خاص يتخذ فيه هذا الحدث العالمي حجمه الأساسي والشخصي، حيث فقدت عائلة فرداً غالياً منها.
على انفراد، سيكون حزن أفراد العائلة الملكية مثل أي شخص آخر، ولكن أمام العامة، سيظلون بكل هيبتهم محط أنظار آلاف المعزين الذي اصطفوا على مدار عدة أيام في صفوف ممتدة طوال الليل للتعبير عن حبهم لسيدة قد يكونون لم يقابلوها في الواقع من قبل.
أطول الملوك حكما
قبل أسبوعين خرج النبأ الحزين في السادسة والنصف مساء يوم الثامن من سبتمبر (أيلول) 2022 معلناً وفاة الملكة عن عمر 96 عاماً.
حققت الملكة خلال حياتها الحافلة أرقاماً قياسية، حيث تصدرت بفترة حكمها الممتد قوائم الملوك الأطول حكما طيلة ألف عام من التاريخ البريطاني. كما أنها أطول الملكات حكماً وثاني أطول الملوك حكماً حول العالم. كان شخصية محبوبة أيضاً. تسأم أغلب الشعوب من حكامها، ولكن شعبيتها وصلت إلى 90 في المائة في آخر استطلاع. بدا وكأنها ستظل إلى الأبد، وكانت شعبيته مذهلة لهذا السبب.
تربعت الملكة على عرش الكومنولث الذي يضم دولاً تتجاوز حدود المملكة المتحدة، ولكنها بالنسبة لمن هم خارج بريطانيا كانت تعرف باسم «ملكة إنجلترا»، مما يشير إلى مفارقة وفاتها في اسكتلندا، في قلعة بالمورال بأبردينشاير، والتي تعد منزلاً خاصاً لملوك بريطانيا منذ أن اشتراه الأمير ألبرت للملكة فيكتوريا في عام 1852. أحبت الملكة إليزابيث اسكتلندا وأحبتها اسكتلندا. ولم يكن سراً أن الملكة التي لا تؤدي أي دور سياسي، ظلت تأمل أن تظل اسكتلندا جزءاً من بريطانيا.
لم يعلن سبب الوفاة، ولكنه غير مهم، ففي النهاية أغلقت الملكة عينيها إلى الأبد في سلام ومن دون معاناة كما يتمنى أي شخص لأحبائه الراحلين. والموت كما نعلم لا يمثل معاناة للراحلين ولكن للأحياء، عندما وقع النبأ وجد كثيرون بعض العزاء في فكرة أن الملكة اجتمعت أخيراً مع زوجها الأمير فيليب الذي رحل قبلها بعام وكان زواجهما قد امتد طيلة 73 عاماً.
قد تبدو مبالغة القول إن الأسبوعين الماضيين غيرا تاريخ بريطانيا، ولكن هذا صحيح، خاصة إذا اعتبرنا أن الملكة كانت تمثل تاريخا في حد ذاتها. كانت تجسيداً للتاريخ، وممثلة له، استلهمت دروسا منه وأثرت فيه بهدوء. كان زعماء العالم، وليس فقط رؤساء حكومتها الذين يقدر عددهم بـ15 رئيسا للوزراء، يقدرون كلمتها وينصتون إليها، بمن فيهم رؤساء الولايات المتحدة الأميركية العديدون الذين تولوا مناصبهم بالتزامن مع عهدها، إذ تمثلت لديهم «لآلئ» الملكة في حكمتها وليس مجوهراتها.
تغييرات وطنية فورية
بعد وفاتها أعلنت تغييرات وطنية فورية. أولها أنه تم تغيير النشيد الوطني إلى «ليحفظ الرب الملك» بعد 70 عاما من إنشاد عبارة «ليحفظ الرب الملكة». سيستغرق كثيرون بعض الوقت للاعتياد على التغيير. تقل أعمار أغلب البريطانيين عن 70 عاماً وهو ما يعني أن أغلب سكان الدولة لم يعرفوا ملكاً غيرها. وبدا في بعض الأوقات أنها ملكة أبدية، ولكن قوانين الحياة تسري على الجميع، لا أحد يخلد في الأرض.
أما الأعداد الغفيرة من الناس في بريطانيا وخارجها، فلم يتمكن كثيرون من مغالبة مشاعرهم بالحزن. وتوافد الآلاف إلى باكنغهام بعد دقائق وساعات معدودة من نبأ وفاة الملكة. وقفت سيارات الأجرة في صف ممتد تكريماً لها، بينما وصل البعض محملين بعتاد التخييم للمبيت. ومكث البعض على مدار عشرة أيام رغم ظروف الطقس حتى موعد الجنازة. لم يكن رد فعل عاديا من الشعب البريطاني، بل مشاعر منهمرة.
تدفق مئات الآلاف من المعزين محملين بباقات الزهور تكريماً للملكة الراحلة، لتظهر كمية هائلة من الباقات الزهرية بطول الحديقة المواجهة لقصر الملكة في لندن. وتكرر هذا المشهد في جميع قصور الملكة، وليس فقط في بالمورال وساندرينغهام في نورفولك، وبالطبع في وندسور حيث وصل جثمانها إلى هناك بسلام. ووسط تلال البطاقات والباقات، ترك البعض دببة بادينغتون وشطائر المربى في إشارة إلى المرة التي ظهرت فيها الملكة على شاشة التلفاز مع شخصية الدب البيروفي الخيالية المأخوذة من أدب الأطفال، والتي أذيعت بمناسبة اليوبيل الماسي في مطلع العام الجاري.
أصدرت العائلة بيانات: من ابنها الملك تشارلز الثالث، وزوجته كاميلا الملكة القرينة، ومن حفيدها الأمير ويليام والأميرة كيت أميرا ويلز، ومن حفيدها هاري وزوجته ميغان دوقا ساسكس، ومن ابنتها الأميرة آن، وابناها إدوارد إيرل ويسكس وأندرو دوق يورك.
لمس تصريح ويليام المشاعر، حيث قال إن الملكة «كانت إلى جانبي في أسعد أوقات حياتي وإلى جانبي في أكثر لحظات حياتي حزناً». وأضاف: «كنت أعرف أن هذا اليوم سيأتي، ولكن سيمر قبل أن نشعر بواقع الحياة من دونها».
بعد أن أصدر الجميع بياناتهم منفردة كأفراد عائلة ملكية، اجتمعوا معاً وتشاركوا كعائلة واحدة، أقاموا قداساً في وستمنستر، ثم اتجهوا معاً عبر لندن ثم إلى وندسور في موكب مهيب أذيع عبر الشاشات خلف جثمان الملكة في جنازة ملكية.
تشارلز.. ملكا للجميع
قبل كل ذلك، في الأيام التالية على وفاة الملكة، خرج تشارلز في ضوء دوره الجديد في زيارة سريعة عبر بريطانيا. كان في اسكتلندا عندما توفيت الملكة، ومن هناك سافر إلى لندن لعقد أول اجتماع مع رئيسة الوزراء ليز تراس التي تولت منصبها مؤخرا فقط. ثم ألقى أول كلمة له إلى الأمة كملك، أشار فيها إلى وعد والدته «بخدمة البلاد طيلة العمر» والتي قطعته على نفسها منذ 70 عاما، وأعلن تجديده لهذا العهد.
في خطابه، أعلن تشارلز أنه سيكون ملكاً للجميع: «خلال السبعين عاماً الماضية رأينا مجتمعنا يصير متعدد الثقافات والديانات، وتغيرت مؤسسات الدولة نتيجة لذلك». وأضاف: «مهما كانت خلفيتك أو معتقداتك، سأسعى إلى أن أخدمك بولاء و احترام وحب».
وفي يوم السبت التالي، حضر المراسم الرسمية لإعلانه ملكاً، والتي تجتمع فيها هيئة الجلوس على العرش، ثم عاد يوم الاثنين إلى إدنبره لمقابلة سياسيين اسكتلنديين واستقبل التعازي، في حين رقد جثمان الملكة في كاتدرائية سانت غيلز في العاصمة الاسكتلندية حتى يتسنى لسكان المدينة توديعها.
وفي يوم الثلاثاء، خرج نعش الملكة في رحلته الأخيرة الطويلة من اسكتلندا إلى لندن بواسطة سلاح الجو الملكي، وبصحبتها الأميرة آن ليصلوا إلى قصر باكينغهام مساء في طقس ممطر. وضع النعش في غرفة القوس في الفصر، ثم سافر الملك وقرينته الملكة إلى أيرلندا الشمالية لحضور معرض عن الملكة الراحلة ومقابلة سياسيي الإقليم قبل أن يعودوا إلى قصر كلارنس مقر إقامتهما في لندن.
وفي يوم الأربعاء غادرت الملكة قصر باكنغهام للمرة الأخيرة، حيث وضع نعشها فوق عربة مدفعية إلى قاعة وستمنستر، حيث استقر الجثمان لمدة أربعة أيام. سار خلف النعش كل من تشارلز وآن وإدوارد وأندرو ووليام وهاري. وصرح ويليام بعدها بأن الموقع «استدعى ذكريات» سيره خلف نعش والدته عبر لندن في عام 1997.
على مدار أربعة أيام، منذ أن وضع نعش الملكة على المنصة الخشبية وأصبح متاحاً لزيارة الجمهور في لندن، اصطفت أعداد مذهلة وصلت إلى 250 ألف شخص لمدة وصلت إلى 26 ساعة لكي يلقوا نظرة وداع أخيرة على الملكة في ثوانٍ معدودة. شعر كثيرون بأنهم مدينون لها. حاول مسؤولون منع الناس من الوقوف في «الطابور» مؤقتاً، ولكن الناس مكثوا في صفهم الطويل من أجل الملكة، ليصبح مكاناً لتكوين صداقات بين أشخاص مكثوا طوال الليل في أجواء خريفية باردة، ووجدوا المحبة تجمع بينهم.
وفي يوم الخميس، واصل الملك جولاته، حيث زار ويلز مجتمعاً بساستها، قبل أن يطير عائداً إلى لندن للوقوف في زيه العسكري أمام نعش والدته الراحلة إلى جوار أشقائه. وفي يوم الجمعة، استقبل ممثلي دول الكومنولث، الذي أصبح حاكماً لها. وفي يوم السبت، بدأ مباشرة مهامه السياسية، وفي اليوم التالي استضاف مراسم استقبال حوالي 200 ملك ورئيس دولة في قصر باكنغهام.
وتعبيرا عن تقديرهم للملكة، امتنع قادة الدول عن استخدام طائراتهم المروحية أو سياراتهم الخاصة، وحضروا إلى الاستقبال الملكي في حافلة من مستشفى لندن (فيما عدا الرئيس بايدن الذي حضر في سيارة مدرعة استخدمها جميع قادة البيت الأبيض في الفترة الأخيرة).
أصدر تشارلز بياناً آخر، بعد ذلك أعلن تأثره العميق هو وقرينته كاميلا «لكل من تكلف عناء الحضور ليعلن تقديره لفترة خدمة والدته العزيزة».
يوم الجنازة
وأخيرا جاء يوم الجنازة، الذي اعتبر عطلة وطنية في بريطانيا. وفي الصباح فرغت الشوارع من الناس الذين مكثوا في بيوتهم لمشاهدة فعالياتها عبر التلفاز. وضع النعش على عربة المدفعية التي يبلغ عمرها 100 عام يدفعها يدويا حوالي 140 فرد من قوات البحرية الملكية، عبر شوارع وسط لندن باتجاه موقع الجنازة في دير وستمنسر، الذي عرفته إليزابيث جيداً، حيث هناك توجت ملكة، وهناك تزوجت من الأمير فيليب.
انتهت مراسم الجنازة قبل انتصاف اليوم، تبعتها دقيقتا صمت عام شمل الدولة، في لحظة راقبها الملايين. ثم انتقل النعش فوق العربة الملكية إلى قوس ويلنغتون في هايد بارك، ومن خلفه كبار العائلة الملكية وسط مجموعة من كبار العسكريين في المملكة.
اصطف مئات الآلاف من المعزين على جانبي الطريق، لمشاهدة الموكب وسيارة النعش أثناء خروجها من لندن صوب وندسور. وفي أثناء مرور السيارة، أخذت الجماهير تصفق وتهتف تحية لها، حيث ألقى الناس بالورود والتقطوا الصور ولوحوا بعلم المملكة. انتحب البعض، وتذكر الجميع الملكة التي يكنون لها مشاعر صادقة.
وفي حوالي الساعة الثالثة، وصل نعش الملكة إلى وندسور، حيث واصل الموكب المسير صوب قلعة وندسور قبل دخول كنيسة القديس جورج لإقامة قداس آخر أمام 800 ضيف، في مراسم أقل رسمية تضم أصدقاء العائلة وموظفين قدامى. في ذلك المساء، أقيم قداس عائلي خاص. ثم دفن جثمان الملكة إلى جوار الأمير فيليب ووالدتها ووالدها الملك جورج السادس، وشقيقتها مارغريت.
استيقظت البلاد في صباح اليوم التالي مطالبة بمواصلة الحياة. وفي الوقت ذاته، تختفي العائلة الملكية عن الأنظار لمدة أسبوع، على الأقل للتعافي مما يعترف حتى أشد النقاد بأنه جدول مرهق بشدة.
رحلت الملكة. وتوقفت الدولة، وربما العالم، لخلع القبعة والانحناء وتذكر امرأة مميزة وضعت التاج على رأسها منذ عمر الخامسة والعشرين وحتى وفاتها. تغير العالم وتغيرات بريطانيا والملكية كثيرا عما كانت عليه في عام تتويج إليزابيث، ولكن إخلاصها للواجب وخدمة بلادها طيلة سبعة عقود لم يتغيرا.
الأحياء هم من يواجهون حقيقة الموت، ومثل أي عائلة أخرى، ستحتاج العائلة الملكية بقيادة الملك تشارلز إلى العثور على طريقة لملء الفراع الذي تركته شخصية منها كانت تحظى بمكانة كبيرة ومحبة غامرة.
ربما يثير الموت رد فعل غير معتاد، ولكن وفاة الملكة، حفزت على الوحدة، ليس فقط بين أفراد العائلة الملكية التي أحيانا ما تضربها الانقسامات، ولكن داخل المملكة ودول الكومنولث التي لم يعرف عنهم الاتفاق دائماً. عند مشاهدة جنازة الملكة يوم الاثنين، شعر المرء لوهلة، أن بريطانيا والعالم يمران بلحظة سلام، يجمعهما هدف واحد: توديع ملكة استثنائية كانت نموذجاً ومصدر إعجاب لكثيرين.