تستعد الجزائر لاستقبال القمة العربية المقبلة في مطلع نوفمبر (تشرين الثاني) القادم، بعد تذليل معظم العقبات التي كانت تقف وراء إرجاء انعقادها في مارس (آذار) الماضي، وأهمها ظاهريا والتي استهلكت إعلاميا أكثر، هي تلك العقبة المتمثلة في الرغبة الجامحة التي كانت لدى الجزائر بالعمل على تأمين عودة سوريا إلى مقعدها في جامعة الدول العربية في عهد الرئاسة الجزائرية للقمة.
ورغم إيجاد مخرج مشرف من ورطة الإخفاق في تحقيق هذا المبتغى، والذي تجسد في طلب سوريا نفسها من الجزائر عدم طرح موضوع عودتها للنقاش إبان القمة، حرصا على توفير الحد الأدنى من النجاح لها، إلا أن الحقيقة كما تم تداولها في الكواليس الدبلوماسية على الصعيد الثنائي أو خلال اجتماع مجلس الجامعة العربية الأخير في القاهرة كانت أبعد من ذلك.
وفي المعلومات المستقاة من أكثر من مصدر مطلع، فإن إعطاء دول عربية وازنة الضوء الأخضر لانعقاد القمة جاء بعد تعهدات من الجزائر بعدم إثارة أي مواضيع ذات طبيعة خلافية على الساحة العربية أو تمس القرارات السيادية للدول الأعضاء مثل موضوع إقدام مجموعـة من الدول العربية على إقامة علاقات دبلوماسية كاملة أو تكاد مع إسرائيل، أو دعوة تنظيمات سياسية قد تكون مصنفة إرهابية في هذه العاصمة العربية أو تلك، والتي من شأن حضورها ولو في الكواليس وأروقة مكان انعقاد القمة أو إقامة الوفود أن يحرج دولة ما، إضافة إلى التقيد بجدول الأعمال كما أعدته الأمانة العامة للجامعة العربية، والامتناع عن محاولة إقحام قضايا لم يسبق طرحها في جداول أعمال المؤسسات العربية المشتركة.
وفي غياب تأكيد رسمي لهذه المعلومات جاءت تصريحات الرئيس المصري على هامش زيارته الرسمية لقطر مؤخرا لتضفي مصداقية كبرى عليها، إذ شدد الرئيس عبد الفتاح السيسي على ضرورة تجاوز الخلافات العربية البينية، والعودة إلى الاهتداء في العلاقات العربية بعدد من المبادئ والمفاهيم التي يحاول البعض تجاهلها كمبدأ التمسك بمفهوم الدولة الوطنية والحفاظ على وحدة أراضي الدول وسيادتها، ونبذ التعامل تحت أي شكل من الأشكال مع التنظيمات الإرهابية والميليشيات المسلحة.
وفيما يبدو كملامح لمبادرة مصرية تستهدف توجيه بوصلة أشغال القمة العربية المرتقبة، لم يفوت الرئيس المصري الفرصة ليشدد على أهمية تقوية سلطة المؤسسات المركزية بغية عدم ترك الفراغ لأي قوة خارجية كي لا يتم العبث بمقدرات الدول العربية وشعوبها، وإغلاق الباب أمام التدخلات الخارجية، مجددا الدعوة إلى تعزيز التضامن العربي، وتركيز الجهود على التنسيق والشراكة من أجل التكامل السياسي والاقتصادي، ودعم الأمن والمصالح العربية المشتركة.
ويسود الاعتقاد بأن في امتناع الجزائر عن التعقيب على هذه التصريحات، وكذا في إبداء حرصها على التقيد بالأعراف المتبعة عربيا لتوجيه الدعوات إلى قادة الدول الأعضاء في جامعة الدول العربية خير دليل على وجود تجاوب إيجابي من القيادة الجزائرية مع الآمال المرجوة من هذه القمة لكي تشكل منطلقا صحيحا وسليما لتوحيد منظار رؤية العرب لما يدور داخل منطقتهم وحولها من تطورات دولية وإقليمية سريعة المتغيرات، وفجائية المستجدات، كخطوة أولى نحو بلورة الحد الأدنى من التنسيق للقدرات والإمكانيات العربية المتعددة لمواجهة التحديات إذا لم يكن بالإمكان التأثير في تلك التطورات.
ولا شك في أن انعقاد القمة العربية في ذروة الصراع القائم بين إرادات دولية متضاربة تستميت إحداها في استمرار هيمنة الأحادية القطبية الغربية والأميركية بشكل خاص على الساحة الدولية، فيما تصر الأخرى متمثلة في تطلعات التنين الصيني واستيقاظ الدب الروسي على ترسيخ تعددية قطبية لتدبير شؤون العالم يفرض على العرب التعالي عن الخلافات التي تنخر علاقاتهم، والسعي إلى رص الصفوف وتوحيد المواقف من أجل تجنيب بلدانهم أي انعكاسات سلبية لهذا الصراع، خاصة وأنه ما يزال يدور بطريقة غير مباشرة وعبر وكلاء محليين أو إقليميين دون أي احتكاك مباشر بين أطرافه الرئيسيين، وأن بعض أطواره تجري في عدد من بلدانهم، ومن الواجب وقف ذلك.
إن على القادة العرب حين يجتمعون في الجزائر أن يضعوا نصب أعينهم أن كل العواصم العالمية الكبرى تخطط للمستقبل من منطلق أن النظام الدولي الذي يوجد حاليا في طور المخاض لن يعترف إلا بالدول التي تستطيع تأمين اكتفائها الذاتي أو جزء كبير منه على كافة الأصعدة. وتبعا لذلك فإن كيانات عديدة مرشحة للاختفاء إما بابتلاعها من كيانات أكبر أو بالتكتل في تجمعات إقليمية سياسية واقتصادية تتنازل لها طواعية عن بعض من سيادتها.
وأمام هذا المعطى، فإن المطلوب أن لا تكون القمة العربية وما يسبقها من اجتماعات للخبراء وللوزراء مسرحا للتنابز حول قضايا مصطنعة بغية تسجيل نقطة من هذا الطرف ضد ذاك أو إحداث فقاعة إعلامية، كما لا يجب أن تستهلك معظم وقتها في مزايدات كلامية فارغة من الممكن أن تدغدغ مشاعر الرأي العام العربي، ولكنها لن تغير من واقع الحال شيئا.
لقد كانت الجزائر سباقة في السبعينات إلى التعبير عن تطلعات دول العالم الثالث إلى نظام اقتصادي عالمي جديد، والفرصة مواتية أمامها لكي تسعى هذه المرة على الصعيد العربي كرئيسة للقمة لمدة سنة كاملة إلى بلورة رؤية عربية مشتركة من شأنها أن تنقل العالم العربي من ساحة لصراعات الآخرين إلى فاعل جدي على المسرح الدولي، له رأيه فيما يجب أن يكون عليه النظام العالمي القادم.
فهل تنتهز الجزائر هذه الفرصة أم ستظل أسيرة حسابات ضيقة لن تزيد النظام العربي إلا تشظيا؟
إن غدا لناظره قريب.