هكذا طوى اللبنانيون 15 سنة من عمر الحرب الأهلية: اتفاق النواب على تعديل دستوري في مدينة الطائف السعودية، انتخاب إلياس الهراوي رئيسا للجمهورية اللبنانية بعد فراغ في سدة الرئاسة دام لأكثر من سنتين ملأه قائد الجيش حينها ميشال عون بحكومة انتقالية خاضت حربين عبثيتين، تلاه دخول الجيش السوري إلى المناطق المسيحية التي قيل إنها كانت تخضع قبلا لنوع من حماية أميركية أوروبية تمنع إسقاطها عسكريا وذلك من أجل تطبيق الاتفاق، وبدء مرحلة الإعمار مع الرئيس رفيق الحريري.
فجأة سقطت الحواجز المادية القائمة في البلد، وتوحدت بيروت بعد أن قسمتها الميليشيات بين شرقية مسيحية وغربية مسلمة ونزع أمراء الحرب بذاتهم العسكرية واستبدلوها بزي رسمي وربطة عنق وأسقطوا البندقية من يدهم وحملوا غصن الزيتون و تبوأ المراكز الأساسية لإدارة الدولة.
لم يظن أحد أنه من الضروري القيام بمراجعة ما لهذه السنين السوداء. لم يظن أحد أن محاكمة ما من أي نوع لتلك الحقبة كانت ضرورية من أجل تمكين السلم وجعله أقل اصطناعية. لم يكن المطلوب تعليق المشانق ولكن كان المطلوب إجراء نوع من محاكمة على غرار تلك التي جرت في جنوب أفريقيا مثلا مع سقوط نظام الأبرتهايد الذي نكل بأسود بشكل فظيع. فمن قتل ونكل وعذب اعترف، ومن خسر أهله وأولاده وأصدقاءه على يد هذا القاتل استطاع أن يدفن موتاه أخيرا.
اللبنانيون قرروا أن ينسوا وأن يتجاهلوا الفعل والفاعل وأن يلوموا الآخرين الغرباء ظنا منهم أنهم بفعلهم هذا يتصالحون مع ماضيهم ويزيلون هذه المآسي من ذاكرتهم. نحن نتكلم هنا عن خمس عشرة سنة من حرب أهلية واقتتال و120 ألف ضحية ومليون نازح غير الذين اختفوا من دون أن يعرف لهم مصير. هذا ليس بقليل. وهذه جروح لا تندمل بمجرد مرور الزمن عليها.
ولأنه لم تكن هناك مراجعة ومحاكمة للحرب الأهلية اللبنانية ورموزها لم يستطع اللبناني دفن ضحاياه وأحقاده، فظل العنف يسكنه وباتت ذاكرته انتقائية وأصبحت المجموعات تعيش انفصاما في تقييم دورها في الحرب بين بطولة ومظلومية، لتتخلى عن مسؤوليتها فيها، فيبقى الجرح مفتوحا على كل الاحتمالات.
وظل الجميع في المربع الأول الذي ابتدأت عنده الحرب وحافظوا في مخيلتهم الجماعية على هالة قادتهم أمراء الحرب وأنكروا عنهم مسؤوليتهم عن القتل والدمار والإجرام التي لازمت مسيرتهم وعزوه للدفاع عن شيء أسبغوا عليه صفة «المقدس»، وبعيد انتهاء الحرب الأهلية ظنوا أن النسيان يداوي الجراح ليتضح أنه عند أي أزمة سياسية، وما أكثرها، خاصة بعد انسحاب الوصاية السورية عن لبنان واغتيال الرئيس رفيق الحريري، تعود تلك الجراح لتطفو على الواجهة وتثبت أنها ما زالت حية.
من هنا لن يكون مستغربا إذا ما وجدت قيادات لبنانية تستسهل اشتعال الحرب الأهلية مجددا- وهي في أغلبها قضت حياتها في طياتها- وتعمل بوحيها وتحضر جمهورها لاحتمالات نشوبها ودائما على أساس «القضية»،و«حماية الهوية»و الدفاع عن «المقدسات».
هذا الكلام يأتي على خلفية السجال الدائر في البلد حول مجزرة صبرا وشاتيلا، والاحتفالية الأربعين لاستشهاد الرئيس المنتخب بشير الجميل وما بينهما من سهام تطلق في إطار العداء السياسي بين المكونات اللبنانية المختلفة تعيد أصحابها إلى حقبة الحرب الأهلية وفظاعتها.
على كل الأحوال هذا كله يجري الآن لأن اللبنانيين لم يتصالحوا مع تاريخهم. لم يحاكموا جلاديهم، لم يفهموا كيف انتهت الحرب وإلى ماذا انتهت عليه. لم يدركوا حتى الساعة من خسر الحرب ومن ربحها وكيف تغيرت موازين القوى السياسية من جرائها كما جاء في اتفاق الطائف. لم يستطيعوا دفن أحقادهم.
البطل ظل في مخيلة محبيه بطلا- دافع عن مقدساتهم وأرزاقهم وديانتهم- ولكنه في الوقت عينه كان مجرما في مخيلة كارهيه. مجرما لم ينل عقابه، مجرما قتل أبناءهم، هدم أرزاقهم وهجرهم. وهذا تناقض لا يمكن رأبه أو معالجة تداعياته الخطيرة على السلم الأهلي إن لم تتم مراجعة ومحاكمة تاريخ الحرب الأهلية واخيرا الاعتراف بمكان ما أن هذا «البطل»إلى أي طائفة انتمى يتحمل مسؤولية عن المأساة التي حلت بلبنان واللبنانيين.
لا يبدو أن اللبناني ذاهب أو راغب في الذهاب بهذا الاتجاه وإلا لما كان انتخب نفس المجموعات- أي رموز الحرب الأهلية- نوابا في المجلس التشريعي النيابي.
وحتى يحين موعد الحكمة ويجتمع اللبنانيون على نقد تجربتهم ومحاكمة حروبهم الأهلية ورموزها، سيظل اللبناني يدور في حلقة من العنف اللفظي والشتيمة والتحريض والحقد، إن كان في الخطاب السياسي أو في التخاطب بين عامة الناس الذي ينتشر بشكل سريع على مواقع التواصل الاجتماعي.
فهل تبقى الحرب في العالم الافتراضي أم ينزلق لبنان إلى دورة عنف أخرى لا تحمد عقباها؟