طهران قوة إقليمية مثل مصر والسعودية لكنها ليست عظمى كما تحاول أن تقدم نفسها

طهران قوة إقليمية مثل مصر والسعودية لكنها ليست عظمى كما تحاول أن تقدم نفسها

[escenic_image id="5511745"]

داخل الدوائر العربية العليا، كانت هناك دائما أسئلة عامة لم توجد لها إجابات كاملة أبدا حول إيران، منها: من يحكم إيران؟ وماذا تريد طهران؟ كما أصبحت هناك أسئلة شديدة التحديد لم تجد إجابة مقنعة لها أيضا، فهل تريد إيران امتلاك أسلحة نووية؟ وهل تمارس بالفعل أعمال تشيُّعٍ في المنطقة العربية؟ ووصل الأمر إلى ظهور تقديرات غير تقليدية بشأنها، فهل إيران تمثل تهديدًا أخطر من إسرائيل حاليًا؟ وما السياسة المطلوبة للتعامل معها؟ وفي العادة فإنه عندما تثار كل تلك التساؤلات بشأن دولة ما فى المنطقة، فإن ملفاتها تنتقل من إدارة إلى إدارة، وتتحول إلى "مسألة" تميل إلى أن تُمثل تهديدًا، حتى لو لم يكن أحد يرغب في ذلك، في ظل قناعة بأنه إذا لم تهتم بها، سوف تهتم هي بك.

المشكلة التى لم يتمكن أحد أبدًا من حلها، هي أن الرأي العام في المنطقة يتصور أنه ليست لدى الدول العربية تقديرات خاصة بشأن إيران، وأن مواقف الدول العربية تجاهها، إما أنها مدفوعة بما تسميه بعض القنوات الفضائية مصالح "النظم السياسية"، أو أنها تسير دون تفكير خلف "التوجهات الأمريكية"، وعندما يبدو للحظة في المناقشات الداخلية العربية أن القصة أعقد بكثير من ذلك، وأن طهران ليست صندوقًا مغلقًا، فهناك معلومات وتقديرات محددة حول ما تقوم به، تسود حالة من الدهشة، ويتم الانتقال فورًا إلى الصمت أو "الدروشة"، وكأنه لا يجب أن تكون الحال كذلك، فلا يزال كثيرون غير راغبين في تصديق أن أساس المشكلة ربما يوجد في طهران وليس "العواصم العربية".

رغم ذلك، لا يفترض أن يأمل أحد فى أن تكون النقاشات العربية الجادة حول إيران، قد وصلت إلى نتائج نهائية، فمنذ فترة طويلة لم يعد أحد يقرر أن من يحكم إيران هو "المرشد الأعلى"، أو السيد أحمدي نجاد بالطبع، وتجاوز النقاش أيضا فكرة أن هناك متشددين ومعتدلين وبرجماتيين، وما يجري هو نقاش حول المعادلات الحاكمة لتفاعلات مراكز القوى المتعددة في الدولة، سواء كانت المؤسسة السياسية أو أجهزة الأمن أو الحرس الثوري أو طبقة البازار أو جمعيات البنياد، أما بالنسبة لتوجهات إيران الإقليمية، فإن ثمة أفكارا يتم التداول حولها طوال الوقت، وقد وصل بعضها إلى النهايات، مثل؛ أن إيران قوة إقليمية مجاورة، لكنها ليست قوة إقليمية عظمى على الإطلاق، فهي مثل مصر والسعودية وتركيا، لكنها ليست " الصين" كما تتصور، وأن لديها عناصر قوة وضعف يمكن تقييمهما، وما بقي هو "هالة إقليمية" أحاطت بها نفسها، وأحاطتها بها وسائل إعلام عربية أو ناطقة بالعربية، فهى لا تقدم أي نموذج سياسي أو اقتصادي أو ثقافي يعتد به، وهنا يوجد اختلاف حول ما إذا كانت طهران ذاتها قد وقعت تحت تأثير ما حذرها منه سعدون حمادي ذات مرة، وهو "أوهام القوة"، فالمؤشرات تدفع في الاتجاهين.

أيضا من الأفكار التي تبلورت ووصلت المناقشات فيها إلى نهاية قصة؛ إن إيران تتدخل فى الشئون الداخلية لعدة دول عربية، وأنها لا تتعامل مع الحكومات، وإنما مع المعارضات أو "الفاعلين السياسيين من غير الدول"، وأنها تمكنت من العراق ولبنان وقطاع غزة وشمال اليمن، وكل هذه مسلمات، لكن غير المسلمات هي أن إيران ربما وصلت إلى أقصى حدود قدرتها على الامتداد، وأنها أنفقت الكثير بدرجة تعرض بعض قياداتها الداخلية لمشاكل، وأن عددا من الدول العربية ربما قرر خوض مواجهات جراحية صريحة معها، لتصفية بعض مناطق النفوذ تلك، تباعا كالمغرب والسعودية، وربما مصر.

السلوك الإيراني في المنطقة العربية أيضًا من القضايا التي انتهت النقاشات فيها إلى فكرة واضحة ملخصها؛ أن تحرك طهران في المنطقة العربية  يستند على أسس جيوستراتيجية لا يريد كثيرون تسميتها بالفارسية، لكنها ليست دينية إسلامية أو شيعية يقينا، فالمسألة ببساطة هي مصالح قومية وأوراق مساومة ونشاطات هدامة، تستخدم فيها الأموال والاستخبارات بكثافة، وهنا لا يجب أن يتساءل أحد كثيرًا عما إذا كان لدولة شيعية أن تدعم جماعة سنية، فالإجابة هي نعم، لأن القضية ليست دينية، أو ما إذا كان امتلاك خيار نووي سيفيد في مواجهة إسرائيل، والإجابة هي لا، فسوف يكون إيرانيًا وليس إسلاميًا.

بعيدا عن ذلك، فإن المسألة لا تسير بنفس تلك الدرجة من الوضوح بالنسبة لكثير من القضايا الأخرى، فالدول العربية تميز حاليا بين النموذج الإيراني والنموذج التركي، ورغم الملامح العثمانية المتنامية للأخير، فإن تركيا تعتبر لدى غالبية الدول العربية دولة صديقة، لأسباب مختلفة، لكن ما لا يركز عليه كثيرون هو؛ أن معيار الصداقة والعداء في المنطقة هو نمط "العلاقات الأمنية"، أو الثقة – أو عدمها - بين مؤسسات الأمن، فإذا لم تتوافر لن يعمل أي شيء تقريبا، ومن سيتجاهلها سيجد نفسه وسط حقل ألغام.

وبالطبع، فإن العلاقات العربية- الإيرانية ليس محكومًا عليها بالتوتر، ففي فترة حكم الرئيس خاتمي كادت أن تشهد تحولات تعاونية غير مسبوقة، لولا تدخلات مراكز القوى المتشددة، ومن يقومون بزيارة إيران يدركون أن علاقات الشعوب لا تزال صحية نسبيًا، وحتى في قمة فترات التوتر، حافظت كل الدول على مستوى من الاتصالات المتبادلة، وبفعل ذلك يسود تقييم يقرر أن إيران ليست دولة صديقة، لكنها لا يجب أن تكون عدوة، وبفعل ذلك أيضا يسود نمط الحرب الباردة بين الطرفين، إلا في حالات خاصة، يدركها الطرفان جيدا.

في إطار كل ذلك، يوجد نقاش مستمر حول كيفية التعامل مع إيران داخل الدول العربية، فهناك من يدفع في اتجاه الحوار، ولديه مبرراته الأخلاقية أو العملياتية، وهناك من يقدم حججا قوية للسير في اتجاه الصدام المحكوم، لكي تدرك إيران أن هناك ثمنًا لما تقوم به، إلا أن الطريقين يواجهان مشكلات، فمعسكر الحمائم لم يتمكن من الإجابة عن سؤال عما إذا كانت طهران ذاتها تريد الحوار أم لا، ومعسكر الصقور يواجه بعض المشكلات الفنية فى الإجابة عن أسئلة مهمة، وقد ظهرت في القواميس العربية أخيرًا مصطلحات تدور حول فكرة " الاشتباك" Engagement، التي تبدو إستراتيجية معقولة، تمت تجارب فاعلة لها، كانت واضحة للعيان.

في النهاية، فإن ذلك يمثل بعض الخطوط العامة، لنقاشات جادة تجري في المنطقة العربية حول المسألة الإيرانية، وتوحي التفاصيل الخاصة بكل منها بأن "المناطق الرمادية" لا تزال تسيطر على التقديرات الحالية، في انتظار شيء ما، فكل ما تقوم به إيران الآن قامت به دول عربية من قبل، وهي ذاتها واجهت بعضها البعض في فترات مختلفة بقسوة، ولدى معظم تلك الدول خبرات عميقة بما تنتهي إليه المسألة في النهاية، فالدول التي تعمل من أجل تغيير الأمر الواقع حولها، مثل إيران، تنتهى إما بكارثة عسكرية، أو عزلة دولية، أو تغيرات داخلية، لكن ربما تقوم هي ذاتها، في ظرف ما، بإعادة تقييم سياستها، تدريجيًا، لتعود إلى قواعدها سالمة، قبل أن تتجاوز، أو يتجاوز معها الآخرون، نقطة اللاعودة.

font change