دمشق: «يعملون ليأكلوا، ويأكلون ليعملوا»، حال السوريين اليوم، ربما يمكن اختصاره بتلك الكلمات الأربع، فلم يعد حلم أي مواطن سوري بالعمل الذي يليق بمهاراته، وخبراته، وتعليمه، فقد أصبح جل ما يريد، هو تأمين قوت يومه، وإيجار بيته، لا أكثر، وعلى الرغم من ارتفاع معدل نسبة البطالة في سوريا، واستمرارها بالارتفاع، إلا أنهم اليوم ليسوا أمام بطالة واحدة، بل بطالتان: مقنّعة، وهيكليّة، يعمل الموظفون جاهدين على أن يكون تحت تصنيف إحدى البطالتين، ليصلوا في النهاية إلى راتب هزيل، ويواصلوا به حياتهم، وعلى الرغم من تعدد النسب التي ذُكرت فيما يخص معدل البطالة وارتفاعها في سوريا، إلا أنها بقيت مجهولة بعض الشيء بسبب عدم تمحورها عند نسبة معينة، مما جعل البطالة مشكلة شائكة في المجتمع السوري.
البطالة المقنّعة
يعتبر مفهوم «البطالة المقنّعة» هو استيعاب المؤسسات الحكومية لموظفين لا عمل لهم أو فائضين عن حاجة المؤسسة، وذلك من أجل تقليل، وتخفيض نسبة العاطلين عن العمل في البلاد، حيث يكون عدد الموظفين الذي تحتاجه المؤسسة على سبيل المثال لا الحصر هو 100 موظف، لكنها تجلب 200 موظف، فيعمل نصفهم، والنصف الآخر يأتي للعمل، فيثبت وجوده، ليحصّل راتبا في نهاية الشهر يعيش منه، أحدهم كان محمد نجدت، وهو البالغ من العمر 49 عاماً، يعمل في كلية الإعلام لدى جامعة دمشق، يعتبر محمد نجدت أحد العاطلين عن العمل، والمقنعين بتسمية وظيفية، ليخفف من نسبة ارتفاع البطالة في البلاد، يقول لـ«المجلة»: «كل ما أقوم به من الصباح حتى الظهيرة، هو صنع الشاي والقهوة، لأشربها ريثما ينتهي الدوام، بالإضافة إلى التسلل أثناء الدوام لجلب الخبز، وانتظار باص المؤسسة الذي يعيدني للمنزل»، وعن طبيعة عمله يقول نجدت: «ليس لي اسم معين، فقط أستمع لاستفسارات طلاب الدراسات العليا، وأستقبل قبولاتهم لأعلمهم بها حينما يأتون للاستفسار منها عني، وغير ذلك لا يوجد شيء جدير بالذكر، غير أنني لا آتي للعمل في حال لم يأتِ الباص لجلبي من المنزل، فأعود لأغط في نوم عميق»، وعن دراسته يقول نجدت: «لقد درست التاريخ، وتخرجت من الجامعة، لكنني لم أحظَ بوظيفة فيما يخص المجال الذي طالما أحببته ورغبت به، فانتظرت حتى صدرت مسابقة وتقدمت إليها، وتم قبولي، وتعييني هنا في هذه الكلية، وأتقاضى راتبي في كل أول يوم من كل شهر، حتى يأتي يوم التقاعد».
البطالة الهيكليّة
محمود الكوا، مدير مرصد سوق العمل في سوريا، يضع كل من لم تتوافق مهاراته مع المهارات المطلوبة للعمل، بحيث تكون أدنى من مهاراته، تحت اسم البطالة الهيكلية، وهذا ما يندرج تحته معظم العاملين اليوم في سوريا، حيث يمتلكون مهارات وكفاءات علمية، فنجدهم يعملون في مجالات تختلف كلياً عن مجالاتهم، أحدهم رنيم صافي، وهي خريجة هندسة ميكانيك، تبلغ من العمر 29 عاماً، تعمل اليوم لدى متجر إلكتروني، في توصيف المنتجات، وخدمة الزبائن، تقول لـ«المجلة»: «دخلت إلى الجامعة برغبة كاملة مني في هذا النوع من الهندسات، وكنت الفتاة الوحيدة في دفعتي، لأن هذا النوع دائماً ما يجذب الذكور أكثر من الإناث، وعندما تخرجت لم أتمكن من العمل بشهادتي، فلم أجد حتى فرصة عمل واحدة لي، مما دفعني للتوجه إلى فرصة عمل لا تحتاج لاختصاص معين، فيكفي الأسلوب اللبق في التحدث، والقدرة على تحمل ضغط العمل، ووجدت نفسي في مجال التوصيف وخدمة الزبائن منذ أكثر من سنتين، وأود أن أستمر في هذا العمل، حتى نسيت أنني درست الميكانيك في يوم من الأيام».
البطالة المقنّعة غير المرئية
الخبيرة الاقتصادية لمياء عاصي، توضح الارتباط بين الحالة الاقتصادية في أي بلد وبين سوق العمل، فتقول لـ«المجلة»: «تعتبر نسبة البطالة من المؤشرات الأساسية، والهامة في قياس الوضع الاقتصادي, ومن الطبيعي أن ترتفع نسبة البطالة في حالات الركود الاقتصادي وفي الأزمات الاقتصادية أيضاً. أما البطالة المقنعة فتحدث عندما يعمل في مؤسسة، أو وزارة، أو شركة أكبر من العدد اللازم لإنجاز المهام المطلوبة، وبالتالي تكون كفاءة أداء الموظفين منخفضة. أما بالنسبة للشباب الذين يعملون في مهن بسيطة، لا تناسب درجة تعليمهم وشهاداتهم، فهذا يحصل نتيجة للظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها غالبية الناس، وتسمى البطالة المقنعة غير المرئية. وتضيف: «سوق العمل يحكمها العرض والطلب، مثل الأسواق الأخرى، وبسبب أن أصحاب المهن مطلوبون اليوم، وأصبحوا أقل كعدد معروض، وعليهم طلب من الناس، فنجدهم يطلبون الأجر الذي يريدون، ولكن الشهادات الجامعية، لا يمكن تصنيفها بفئة واحدة، فما زال هناك فرص لخريجي كلية الطب واختصاصات الهندسة بكافة أنواعها، لكن لا يمكن حل المشكلة بمعزل عن وضع حلول واستراتيجيات لتحسين الوضع الاقتصادي، إضافة لتطوير نظام التعليم الجامعي بهدف جعل المناهج التعليمية أكثر قرباً، وعلاقةً بالتطور العالمي، وتحسين جودة، ومخرجات التعليم، من أجل تلبية احتياجات، ومتطلبات سوق العمل.
حبر على ورق
محمد عرتيلة، وهو شاب خريج كلية الحقوق في جامعة دمشق، وطالب ماجستير، يبلغ من العمر 26 عاماً، يقول لـ«المجلة»: «لا يمكنني التدرب كمحامٍ من أجل العمل في مهنتي، فالظروف صعبة جداً، والحلم أصبح مستحيلا، فتوجهت إلى العمل بمجالات أخرى، لكن ومن خلال تجربتي في العمل مع عدة شركات خاصة في الكتابة القانونية، كانت العقود جائرة جداً، والرواتب هزيلة، حيث لا يوجد أي تأمينات اجتماعية، وذلك ما دفعني للعمل مع شركة تنظيف خاصة، فهنا على الأقل الرواتب مرتفعة، فما إن يأتي آخر الشهر حتى أحملق في كومة النقود التي تصبح في جيبي نتيجة عملي، فأنسى ما درست وما أحلم، وأوجه حلمي نحو شعوري بالسعادة لما جنيت»،
بهذا الصدد يعلق المحامي عاطف جاويش حول طبيعة العقود التي تبرمها الشركات الخاصة مع موظفيها فيقول لـ«المجلة»: «من المتفق عليه، لدى أرباب العمل، أن نظام التأمين غير مشجع بالنسبة لهم، إذ إنهم يعتبرون الاشتراكات عن كل عامل كبيرة، ومرهقة وهي 14 في المائة ونسبة إصابة 3 في المائة فتصبح 17 في المائة، علماً أن النسبة معقولة مقارنة بالدول الأخرى، وعندما تُرسل مؤسسات التأمين مفتشيها إلى مواقع العمل، فيقوم صاحب العمل بتهريب عمّاله، أو بتخفيض الأجور التي يتقاضونها، وتغيير تاريخ الالتحاق بالعمل، وتزوير عدد العمال، والمشهد الأكثر بشاعة، هو عندما يتناغم العمال مع ربّ عملهم بإفاداتهم فيقولون عكس ما يريدون كي لا يخسروا عملهم، وحتى إذا تم إبرام أي عقد بين رب العمل، والموظف، يكون عبارة عن حبر على ورق، لا يجدي نفعاً، حتى إن هناك العديد من الشركات توقع الموظف على استقالته مسبقاً، في حال أرادت الاستغناء عنه، فيكون الأمر جاهزاً، دون وجود أي رادع لرب العمل».
دراسات وأبحاث
كثيرة هي البيانات التي صدرت عن مراكز أبحاث ومنظمات غير حكومية، تشير فيها إلى نسبة البطالة في سوريا التي ازدادت بشكل ملحوظ بعد عام 2011، وتستمر في الارتفاع حتى اليوم، حيث بلغت نسبة البطالة في سوريا عام 2020، نحو 75 في المائة، حسبما أفادت به منظمة العمل الدولية، حيث سجلت البطالة خلال ذلك العام معدل ارتفاع قارب الضعف عما كانت عليه عام 2016، وفي ضوء البيانات الإحصائية للمكتب المركزي للإحصاء عام 2019، بلغت 30.3 في المائة من قوة العمل، وفي دراسة تحت عنوان «اختلالات سوق العمل في الاقتصاد السوري، وسياسات تصحيحها 2001-2017»، أجراها مركز مداد السوري للدراسات، تبين فيها أن سوق العمل السوري يعاني من مشاكل تراكمية متعددة، منها ضعف التنسيق بين المؤسسات وبرامج سوق العمل، وعدم وجود استراتيجية، أو سياسة تنظم سوق العمل، وحسب الدراسة، فإن معدلات البطالة قفزت بشكل كبير جداً إلى مستويات لم يلحظها الاقتصاد السوري من قبل، فطوال الفترة الواقعة بين (2013/2017) وصلت معدلات البطالة وبشكل وسطي إلى نحو 37 في المائة، وذلك نتيجة لتدمير القوى التحتية، وضعف البنية الاقتصادية، كما انهيار العملة في سوريا، والتي تستمر حتى اليوم في الانهيار.
الحل ليس في مادة صحافية
أجمع الخبراء الاجتماعيون على أن موضوع البطالة لم يعد يحتاج فقط لمادة صحافية، تُسلط الضوء عليها، وتقوم بتقسيمها وشرحها، بل أصبح يحتاج إلى بحث علمي جاد، قابل للقياس، والتحليل، للوصول إلى نتائج يمكن تقديمها إلى أصحاب الشأن، علها تقدم لهم الفائدة في تخفيض نسبة البطالة، وإعادة هيكلة الموظفين، ووضع كل شخص في المكان الذي يناسبه، إلا أنهم أجمعوا أيضاً على عدم وجود إحصائيات دقيقة يمكن الاستناد إليها في أي بحث علمي، مما يجعل مشكلة البطالة في سوريا، مشكلة شائكة يصعب حلها، من بين مجموعة مشاكل أخرى تعاني منها البلاد اليوم.