سعى حزب العدالة والتنمية التركي بعد وصوله إلى السلطة في أنقرة إلى القيام بنقلة نوعية في السياسة الخارجية التركية التي ارتبطت بوصلتها منذ إلغاء الخلافة الإسلامية وتبني النظام الجمهوري بالدول الغربية. وقد تجسدت رغبة إحداث هذه النقلة النوعية في كل من شعار «تصفير المشاكل»مع كافة دول الجوار المباشر، ثم في بث الروح في مختلف قنوات الاتصال مع العالم العربي وبدء توثيق وتعميق العلاقات مع دوله انطلاقا من أن أجزاء واسعة من هذا العالم كانت خاضعة للسلطة العثمانية المباشرة، وأن باقي الأمصار شكلت في الماضي مجالا حيويا لتلك السلطة.
وإذا كانت عملية البحث عن تجسيد شعار «تصفير المشاكل»لم تصل إلى كامل مبتغاها نظرا لعمق العداء التاريخي القائم بين أنقرة وعدد من جيرانها خاصة اليونان، وللالتباس الذي يعتري تعاملها مع الأكراد شمال العراق، وللحساسيات المذهبية التي تشوب علاقاتها مع إيران رغم أن هذه العلاقات كانت وما تزال قوية اقتصاديا، فإن سياسة الانفتاح على الدول العربية والسعي إلى توثيق وتكثيف العلاقات معها قد نجحت إلى حد كبير بفضل مواقف سياسية اعتبرت ثورية في سياقها مطلع هذه الألفية، لأنها مواقف عرفت كيف تدغدغ مشاعر الرأي العام العربي من قبيل الوقوف ضد الغزو الأميركي للعراق سنة 2003، ومنع استخدام قواعدها الجوية لضرب قوات نظام صدام حسين، واتخاذ مواقف متشددة أغلبها لفظية ضد الممارسات الإسرائيلية في الأراضي العربية المحتلة.
وقد تمثل هذا النجاح على الصعيد الاقتصادي في إبرام اتفاقيات تجارة حرة مع عدد من الدول العربية كان لها بالغ الأثر في رفع نسبة المبادلات التجارية معها مع ميل واضح في الميزان التجاري لفائدة تركيا، كما تمثل في تسلل ناعم ومخملي للإنتاج الفني والثقافي التركي للشاشات العربية ؛ فيما بلغ أوجه سياسيا في خطوة أثارت انتباه الكثيرين، وحفيظة عدد من الدول الكبرى ألا وهي بدء حوار استراتيجي مكثف وشامل مع كافة دول مجلس التعاون الخليجي.
إن شهية الاستفادة أكثر من العالم العربي، بل وبدء التفكير في وضع معظم كياناته تحت العباءة التركية زادت مع اندلاع ثورات الربيع العربي واحتجاجاته، التي اعتقدت تركيا أنها تمثل فرصة ذهبية لها لتوسيع وتعميق نفوذها الإقليمي في العالم العربي، وبشكل خاص بعد أن أفرزت النتائج الأولية للتحركات الشعبية صعودا لافتا للتيارات السياسية الإسلامية ذات النكهة الإخوانية، التي تمكن بعضها من الاستحواذ على السلطة بشكل شبه كامل، وبعضها الآخر من المشاركة فيها، وذلك في أكثر من بلد عربي وازن.
واستنادا إلى هذا الاعتقاد بأنه صار بإمكان «السلطان إردوغان»استباحة معظم الساحات العربية دعما للتيارات الدينية القريبة منه إما لترسيخ سلطتها أو تعزيز دورها لم تتوان أنقرة في التدخل علانية وبالقوة العسكرية الخشنة في أكثر من بلد بما في ذلك بلاد لم تشكل لا تاريخيا ولا جغرافيا جزءا من المجال الحيوي التركي، متجاهلة أن من فتح لها معظم بيوت العرب، وجلب لها سياحة عربية كثيفة لم تكن تحلم بها من قبل ليست هي قوتها العسكرية، وإنما أدوات قوتها الناعمة الثقافية والفنية، وحيوية اقتصادها وتجارتها، وجودة منتجاتها الصناعية ورخص أسعارها.
ومن الطبيعي أمام هذا الصلف التركي في التعامل مع القضايا العربية أن يتبلور توجه عربي مضاد قادته كل من السعودية ومصر والإمارات لمواجهة الأطماع التوسعية التركية، مستخدمة من أجل ذلك كافة الوسائل المتاحة. ففي الساحات العربية الملتهبة سارعت إلى دعم الفصائل الرافضة للتمدد التركي، وعلى الصعيد الدبلوماسي الإقليمي بادرت إلى العمل من أجل تطويق هذا التمدد بتحالفات مع قوى معادية تقليديا له كما حصل في شرق البحر الأبيض المتوسط بتنسيق وتعاون مع اليونان وقبرص.
ويبدو أن أكبر سلاح استخدم في هذا السياق ودفع أنقرة إلى إعادة حساباتها، وتليين مواقفها المتصلبة، ووقف تماديها في معاداة أكبر القوى العربية، مستعيدة رشدها إلى حد بعيد هو الاقتصاد والتجارة، إذ بادرت بعض الدول العربية إلى سحب معظم استثماراتها في تركيا، وأوقفت التعامل تجاريا مع شركاتها، حارمة إياها من ولوج أسواق استهلاكية كبيرة ومقتدرة.
وقد ساهمت هذه الإجراءات العربية إلى جانب إجراءات أقل حدة وغير معلنة في الغالب اتخذتها أطراف أوروبية والولايات المتحدة الأميركية ضد أنقرة سعيا إلى تهذيب سلوكها السياسي خارجيا في تأزيم الوضع الاقتصادي التركي من خلال انهيار العملة المحلية وارتفاع نسبة التضخم إلى مستويات قياسية، ناهيك عن تفاقم العجز التجاري بشكل مسترسل طيلة السنوات الثلاث الماضية.
وأمام هذا الضغط الذي يخشى الحزب الحاكم في تركيا من أن تكون لديه عواقب وخيمة خلال الاستحقاقات الانتخابية التشريعية والرئاسية المقبلة لم تجد القيادة التركية بدا من القيام بمراجعة تبدو عميقة ونوعية لسياساتها العربية، إذ قلصت كثيرا شهيتها في الساحتين السورية والعراقية، وأعادت الانفتاح بروح إيجابية على العواصم العربية الأكثر حضورا ونشاطا في المنطقة حاليا، واتخذت قرارات صارمة في بعض الملفات التي كانت مصدر توتر لها مع بعض دول المنطقة كتقييد تحركات الإخوان المسلمين على أراضيها.
إن إسراع معظم العواصم العربية المعنية إلى ملاقاة اليد التركية الممدودة للتعاون في منتصف الطريق، والعمل على وصل ما انقطع، وتبادل زيارات رفيعة المستوى معها أثبت جدية العرب ورغبتهم في بناء علاقات طيبة ومفيدة في الاتجاهين مع تركيا. فهل هذا التحول التركي ظرفي فرضه السعي لخروج البلاد من أزمتها أم يعكس توجها صادقا عن عودة أنقرة إلى رشدها؟