القاهرة: «البشرية اليوم على بعد سوء تفاهم واحد، خطوة واحدة غير محسوبة من الإبادة النووية».
أنطونيو غوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة.
دون مقدمات أصبح الخطر النووي هاجس العالم، وأفاق العالم خلال أيام قليلة على تطورات رفعت حرارة المشهد السياسي العالمي الذي يعاني منذ عدة أشهر لفح نيران الحرب الروسية الأوكرانية. وفي ظل انشغال العالم بالمفاوضات النووية المتعثرة بين إيران والغرب، بدأت الكوابيس المتلاحقة بإعلان كوريا الشمالية نفسها «دولة نووية». والإعلان هو الأول منذ دخلت بيونغ يانغ النادي النووي من الباب الخلفي، وبعد تفاؤل قصير بقرارها تفكيك مجمع «يونغ بيون» (يونيو/ حزيران 2019) بوصفه بداية نزع سلاح كوريا الشمالية النووي، عاد الملف الكوري لينفتح على مفاجآت عكست المسار تمامًا، وبعد هدوء نسبي أطلقت بيونغ يانغ هذا العام عددًا قياسيًا من الصواريخ الباليستية. أول المفاجآت الكورية كانت في مايو (أيار) من هذا العام، وتمثلت في معلومات استخباراتية عن استئناف البناء في المفاعل المتوقف منذ سنوات، ما «سيزيد بشكل كبير من قدرة كوريا الشمالية على إنتاج البلوتونيوم للأسلحة النووية». ثاني المفاجآت الإعلان الرسمي عن الترسانة النووية، وأما المفاجأة الثالثة فكانت إرساء مبدأ الضربة النووية الاستباقية.
وبعد أيام، وبكلمات قليلة (15 سبتمبر/ أيلول 2022)، «نعى» جوزيف بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، المفاوضات النووية بين الغرب وإيران مؤكدًا وصولها إلى «طريق مسدود»!
القوس النووي الآسيوي
إحدى السمات المميزة للعقود القليلة الماضية من الحراك النووي كان مسرحها آسيا، ما بين مشروعات نووية مجهضة، كمشروع نووي عراقي انتهى بتدمير مفاعل أوزيراك النووي بهجوم جوي إسرائيلي في 1981، ومشروع نووي سوري انتهى بضربة مماثلة لمفاعل الكبر (2007)، وكلا المشروعين لا أدلة مؤكدة على وجودهما.
وفي المقابل دخلت الهند النادي النووي في العام 1974 وردت عليها باكستان بدخول النادي في 1998، ما يعني أن المسافة من الخليج إلى حدود المحيط الهادي توشك- في حال دخول إيران النادي النووي- ستكون ساحة تزاحم بين ترسانات نووية متجاورة في إيران وباكستان والهند والصين، فضلًا عن الجوار القريب في كوريا الشمالية. وقد أطلق التهديد الروسي بالخيار النووي في المواجهة الروسية الأطلسية سيلًا من التساؤلات ذات الدلالات الخطيرة، عما إذا كانت أوكرانيا تدفع ثمن تخليها- طواعية- عن ترسانتها النووية، وما إذا كان وجودها كان سيمنع روسيا، يقينًا، من شن حربها عليها، وهي تساؤلات تستبطن فكرة أن القدرة على الردع النووي ستكون فكرة تلح على كثير من النخب السياسية في كثير من دول العالم، كضمان لا غنى عنه للأمن القومي، وهو متغير نوعي خطير.
وقد شكَّل إعلان الوكالة الدولية للطاقة الذرية أنها لا تستطيع ضمان الطبيعة السلمية للنووي الإيراني، جرس إنذار أممي هو الأول من نوعه، وأظهر تقرير حديث أصدرته أن مخزون إيران من اليورانيوم المخصب بنسبة تصل إلى 60 في المائة، القريبة من تلك اللازمة لصنع أسلحة نووية، زاد إلى المستوى الذي يكفي، في حالة زيادة تخصيبه، لصنع قنبلة نووية. وقد بات هذا المخزون الآن يتجاوز بأكثر من 19 مرة الحدّ المسموح به بموجب الاتفاق، وبحسب الخبراء فإن نحو 50 كيلوغرامًا تكفي لصنع سلاح نووي حال تخصيبها بنسبة 90 في المائة. وصلت الأزمة في المفاوضات النووية بين إيران والغرب نقطة الانفجار بعد اتهامات وجهتها الوكالة الدولية لإيران بإخفاء نشاط يشتبه في أنه عسكري في مواقع غير معلنة، واشترطت إيران لإنجاز الاتفاق إغلاق هذا الملف.
حتمية مواجهة أميركية إيرانية
في تصعيد يهدد بأن تتحول منطقة الشرق الأوسط إلى ساحة مواجهة واسعة تبدأ إسرائيلية إيرانية، وقد تتسع حدودها، أدى الرفض الإيراني للعروض الغربية إلى تزايد احتمال توجيه ضربة عسكرية إسرائيلية إلى المشروع النووي الإيراني، وانتقل النقاش حول مستقبل الصراع إلى أفق جديد برؤية طرحها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق إيهود باراك في مقال نشرته «التايم» (يوليو/ تموز 2022)، بتأكيده أن طهران تقترب من عبور العتبة النووية وأن الضربة العسكرية لم تعد مجدية لوقف برنامجها النووي، حيث «في عام 2018، كان الإيرانيون على بعد نحو 17 شهرًا من هذه العتبة. اليوم هم على الأرجح على بعد 17 يوماً فقط»، وإيران «تحولت من بلد كلفت روسيا بمراقبته إلى بلد يزود روسيا بطائرات عسكرية دون طيار».
ومستعينًا بخبرة إسرائيل الطويلة في استخدام استراتيجية «الغموض النووي». قال باراك: «حتى لو أصبحت إيران دولة نووية، فإن الملالي سيختارون التظاهر بخلاف ذلك». والحقيقة بحسب باراك هي أن هجومًا إسرائيليًا منفردًا أو مشتركًا على منشآت نووية «لا يمكن أن يؤخر الإيرانيين عن التحول إلى دولة نووية»، بل قد «يعجل باندفاعهم نحو تجميع تلك القنبلة، ويوفر لهم قدرًا من الشرعية على أساس الدفاع عن النفس»!
والحل الوحيد كما يراره باراك «إنذار دبلوماسي لوقف البرنامج، مدعوما بتهديد موثوق به بحرب واسعة النطاق». ويلفت باراك النظر إلى حقيقة أن دولًا أخرى عربية وغير عربية يمكن- تحت تأثير الخطر الإيراني- أن تسعى لامتلاك الخيار النووي، ما قد يعني «الانهيار المحتمل لنظام معاهدة عدم الانتشار»، ما قد يفتح الباب أمام «السيناريو الكابوس»، الذي وصفه غراهام أليسون (من جامعة هارفارد) في كتابه: «الإرهاب النووي» الذي يرى أنه كلما زاد عدد الدول النووية، زاد خطر وجود جهاز نووي خام في أيدي جماعة إرهابية.
وفي رسالة مبطنة موجهة إلى إيران نشرت إسرائيل قبل أيام، وبعد 15 عامًا وثيقة سرية لما قالت إنه قصف لمفاعل نووي سوري، والوثيقة الاستخباراتية تعود إلى عام 2002 وتتحدث عن مشروع نووي سري مشتبه به في سوريا. وكانت إسرائيل أعلنت، في 2018، للمرة الأولى، أنها قصفت ما يشتبه أنه مفاعل نووي سوري، عام 2007، معتبرة أن الضربة يجب أن تكون تحذيرًا لإيران من أنه لن يُسمح لها بتطوير أسلحة نووية.
مجموعة الأزمات الدولية في قلب عاصفة التقديرات المتشائمة تساءلت (12 سبتمبر/ أيلول 2022) هل يمكن استعادة الاتفاق؟ وبحسب تقدير المجموعة جوهر المأزق يتمثل في مطالب الحد الأدنى التي طلبتها إيران، وهي مطالب لا تستطيع الأطراف الأخرى تلبيتها أو لا ترغب. فتحوطاً لاحتمال نكث إدارة أميركية مستقبلية لالتزامها بالاتفاق كما فعلت إدارة ترامب، تسعى إيران للحصول على ضمانات بأن المزايا الاقتصادية التي توفرها استعادة خطة العمل الشاملة المشتركة ستستمر. وردت إدارة بايدن بأنها لا تستطيع تلبية هذا المطلب، لأن الإدارة لا تستطيع قانونيًا إلزام الرؤساء القادمين بما تريده إيران. وتريد إيران إيقاف تحقيق الوكالة الدولية للطاقة الذرية في أعمالها السابقة لكن ذلك سيتناقض مع تفويض الوكالة بتحقيق المساءلة بشأن الأنشطة النووية، وتعارض أميركا وحلفاؤها ذلك.
وفي الحقيقة فإن أحد المطلبين يحتاج تغييرًا في النظام السياسي الأميركي، والآخر يتطلب تغييرًا في النظام الدولي!!
موجة تطوير الترسانات النووية
كانت السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي مطلع تسعينات القرن الماضي، سنوات تفاؤل كبير بإمكان التخلص من الترسانتين النوويتين الأكبر في العالم. وكانت كل من: أوكرانيا وكازاخستان وبيلاروسيا تمتلك أسلحة نووية عام 1991، لكنها تخلت عنها عقب انهيار الاتحاد السوفياتي، كما اكتمل تفكيك المشروع النووي في جنوب أفريقيا في 1993. وعقد الجانبان الأميركي والروسي عدة اتفاقات عززت هذا الإحساس الذي تبدده التطورات العالمية الراهنة، وأهم هذه الاتفاقات:
3 يناير (كانون الثاني) 1993: معاهدة «ستارت-2» ونصت على خفض الترسانتين النوويتين الاستراتيجيتين الأميركية والروسية بمعدل الثلثين، ولم تُطبق أبدًا.
24 مايو (أيار) 2002: معاهدة خفض الترسانات النووية «سورت» التي حلت محل «ستارت-2»، ونصت على خفض عدد الرؤوس النووية للصواريخ الطويلة المدى قبل نهاية عام 2012، بمقدار الثلثين.
وفي 2 أغسطس (آب) 2019: أوقفت واشنطن وموسكو التزاماتهما بموجب هذه المعاهدة، وسط اتهامات متبادلة بانتهاكها. وأعلن البلدان عزمهما على تطوير صواريخ جديدة، ثم أجرت أميركا تجربة صاروخ متوسط المدى، لأول مرة منذ الحرب الباردة.
ومع عودة أجواء الحرب الباردة بدأت موجة ارتفاع في الإنفاق على تطوير الترسانات النووية، وفي مارس (آذار) 2021 أعلنت بريطانيا عزمها زيادة رؤوسها النووية بنسبة 40 في المائة. ووفق تقرير حكومي بريطاني (وثيقة من 100 صفحة)، تخطط الحكومة لزيادة العدد الأقصى للرؤوس النووية إلى 260 بسبب «تهديدات تكنولوجية وعقائدية متزايدة». وفي تقرير (16 يونيو/ حزيران 2020)، كشفت الحملة الدولية لإلغاء الأسلحة النووية (آيكان) عن زيادة الإنفاق النووي عالميًا، بنحو 9 في المائة ليتجاوز إجمالي الإنفاق 82 مليار دولار. وقد رصدت أميركا وحدها 44.2 مليار دولار للإنفاق على ترسانتها النووية وخصصت الصين 11.7 مليار دولار بزيادة 10.4 في المائة، فضلًا عن زياد في ميزانيات روسيا (8.6 مليار دولار) وفرنسا (5.9 مليار دولار) وبريطانيا (6.8 مليار دولار) للأسلحة النووية. وقدرت آيكان نفقات كوريا الشمالية على برنامجها النووي عام 2021 بـ642 مليون دولار بالمقارنة مع 700 مليون عام 2020. أليشيا ساندرز زاكري منسقة التقرير اعتبرت الحرب الروسية الأوكرانية دليلًا على أن «الأسلحة النووية غير مجدية إطلاقًا» لأن الترسانات النووية تمنع شن حرب في أوروبا.
ويرصد متخصصون أن جميع الدول المالكة للسلاح النووي تعمل على زيادة أو تحسين ترساناتها، فضلًا عن توجه متزايد إلى تضخيم دور الرادع النووي في العقائد العسكرية للدول النووية. وبحسب اتحاد العلماء الأميركيين، ثمة مؤشرات واضحة على أن خفض الترسانات النووية العالمية الذي بدأ بنهاية الحرب الباردة توقف مؤخرًا. فبعد أن كانت الترسانات النووية في العالم تضمن ما يقرب من 70 ألف رأس نووي انخفضت في عام 2020 إلى 14 ألف رأس، وبينما قلصت روسيا وأميركا وبريطانيا ترسانتها النووية، اتجهت الصين وباكستان والهند وكوريا الشمالية للتوسع، واليوم تتجه المؤشرات إلى سباق نووي جديد يهدد بجحيم نووي.
فهل عاد باب «النادي النووي»، بعد سنوات من إغلاقه، ليصبح «نصف مغلق» و«نصف مفتوح»؟ أم تُرى تفتح التطورات المتشابكة الباب- احتمالًا- أمام جحيم نووي يطلقه خطأ في الحسابات هنا أو هناك، في زاباروجيا أو نطنز أو يونغ بيون أو .....؟ وماذا لو اتخذ قرار مواجهة غير رشيد في موسكو أو بيونغ يانغ أو تل أبيب أو طهران أو موسكو أو واشنطن؟
* باحثة في العلوم السياسية- مصر.