بيروت: خلف قضبان السجون اللبنانية، تتجلّى معاناة تتماهى مع خارجها حيث سجن الوطن الكبيرمكبّل بالأزمات، والجامع المشترك بين من هم داخل الزنازين والمتواجدين في رحاب الحرية، هو النضال من أجل البقاء على قيد الحياة، والتمرّد على الواقع المعاش، فالسجون تحوّلت إلى فتيل بدأ يهدد بالانفجار غير المسبوق.
بات الموت يوازي الحرية لدى شريحة تنتفض بين الحين والآخر نتيجة العذاب خلف جدران غرف تحوّلت إلى مقبرة مع ازدياد عدد الوفيات بداخلها نتيجة تفشّي الأمراض وتراجع الخدمات الطبية، وسط لامبالاة المسؤولين العاجزين عن انتشال اللبنانيين الأحرار كما المحجوزين من براثن فساد أغرقهم في مآسٍ لم تكن بالحسبان.
في ظل غياب أدنى مقومات العيش من عناية صحية وتغذية ونظافة، تحوّلت سجون لبنان إلى بؤرة إختناق، مع انعدام الحلول لمشكلة اكتظاظ السجون والنظارات، وساهم الانهيار المالي والاقتصادي في تفاقم عجز الأهالي إلى جانب الدولة في تأمين حاجات السجناءالأساسية من طبابة وغذاء، ما جعل أرضية السجون ممهدة للعنف والتمرد احتجاجاً على الظروف، ما ينذر بمشكلات إضافية.
نداءات واستغاثات من الأهالي الخائفين على حياة أبنائهم المحرومين من أبسط مقومات الحياة، فهم أسرى إعدام بطيء يتسلل إلى أجساد أنهكها الجوع والمرض في مأساة يعكسها النزلاء من نوافذ السجون الحديدية عبر وجوههم التي ترصد أشعة الحرية، فيما المسؤولين خارج السمع، ما أدى إلى اندلاع تمرد داخل سجن القبة في طرابلس بسبب انقطاع الكهرباء، واحتجاجات داخل مبنى الأحداث في سجن رومية المركزي للمطالبة بخفض سنة السجن من 9 إلى 6 أشهر.
يضم لبنان 3 سجون مركزية، هي رومية وسجنا زحلة وطرابلس، ونحو 22 نظارة (ومراكز توقيف احتياطي، وفيها 8 آلاف سجين يشكون من بطء المحاكمات القضائية التي تمتد لأشهر وربما سنوات، وتفاقم الأمر مع الإضراب المفتوح لنحو ثلثي قضاة لبنان للمطالبة بتحسين رواتبهم وتعزيز استقلالية القضاء.
لم يُبصر مشروع قانون العفو العام النور بحكم اعتبارات سياسية وطائفية وبقيت وعود القوى السياسية مجرد كلام، إلا أن المستجدات التي تشهدها السجون دفعت بوزير الداخلية في حكومة تصريف الأعمال بسام المولوي إلى الدعوة لإقراره كضرورة ملحة، كما اقترح قانون للبرلمان لخفض سنة السجن من 9 إلى 6 أشهر، وأن تشمل كل الجرائم لمرة واحدة فقط، لافتاً إلى أن «السجون تشكو من 3 أزمات: الاكتظاظ والغذاء والطبابة، ونحو 79 في المائة من السجناء غير محكومين، و43 في المائة غير لبنانيين».
اشتدت الأزمات الصحية والغذائية للمساجين وتصاعدت حوادث العنف والاضطرابات بين النزلاء، وخصوصاً في سجن رومية الذي يضم نحو 3700 سجين، في حين أن قدرته الاستيعابية تبلغ 1500، غالبيتهم غير محكومين، وشهد وفاة نزلاء وسط اتهامات بالإهمال، وتم تسريب صور من داخل السجن تظهر عدداً من السجناء في وضع صحي سيئ، لتحصل بعدها أعمال عنف في مبنى الأحداث حيث اتهم السجناء العناصر الأمنية بتعنيفهم، لكن الأخيرة نفت الاتهامات، مشيرة إلى أنه «على خلفية الإضراب الجماعي عن الطعام بسجن الأحداث للمطالبة بتخفيض سنة السجن ادعى عدد من النزلاء المرض، وطالبوا بدخول المستشفى لتلقي العلاج، وتهجم سجينان على العناصر الأمنية بآلات حادة».
شهادة تعكس المعاناة من داخل سجن رومية
«ظروف السجن تجعل من السجين أشد إجراماً»، هكذا اختصر السجين (عمر. ل) واقع زملائه المسجونين في حديثه لـ«المجلة»، حيث يقبع موقوفاً منذ 12 عاماً في الحجز من دون محاكمة مثله مثل العشرات داخل السجون.
روى عمر من داخل السجن عبر هاتف يستخدمه أسوة بزملائه، مرارة ما يعانيه داخل السجن الذي اعتبر أنه «تحول إلى أحد مراكز صناعة الشر في لبنان حيث لم يعد مكاناً للإصلاح، فالسجين يدخل بتعاطي المخدرات، ونتيجة الظروف السيئة داخل السجن يخرج تاجراً أو مروجاً».
جزم عمر بأن «السجين منذ توقيفه تبدأ معاناته منذ التحقيق الأولي ولا تنتهي بظروف السجن السيئة، بل تصل إلى البطء في المحاكمات وتأخرها بشكل غير طبيعي»، مشيراً إلى أنه «ازدادت ظروف السجن صعوبة منذ عام 2019 وبداية الانهيار الاقتصادي، إذ إن الواقع المعيشي داخل السجن يتدهور من سيئ إلى أسوأ، كما الوضع الصحي الذي تفاقم جراء انتشار كورونا داخل السجون».
طالت التداعيات الكارثية وفق عمر الدواء والطبابة والغذاء، فأشار إلى أن السجين وصل إلى مرحلة أصبح عليه أن يؤمن طعامه ودواءه وعلاجه، حتى إن احتاج إلى صورة أشعة أو عملية جراحية، فعليه تأمين تكاليفها، وإن مات في السجن لا يتم نقله إلى المستشفى لأن الإدارة لا يوجد لديها إمكانيات لعلاجه».
وعن التحركات الاحتجاجية رفضاً للواقع الميؤوس، أوضح عمر أن «السجناء وذويهم يقومون بتحركات داخل السجن وخارجه بغية الوصول إلى حلول للسجناء، والمطلب الأساسي هو إقرار العفو العام الشامل لإنهاء حالة الظلم التي يعيشها السجناء»، لافتاً إلى أنه «إذا كان العفو العام متعذراً نتيجة الخلافات السياسية، فبالحد الأدنى تحديد المؤبد بـ20 عاماً والإعدام بـ25 عاماً والسنة السجنية 6 أشهر للجميع لمرة واحدة فقط، بالإضافة إلى شمول جميع السجناء بقانون تخفيض العقوبات وإزالة الصفة الجرمية وإلزامية الدعم».
وختم بنداء إلى المعنيين قائلاً: «فلينظروا بعين الرحمة إلى آلاف السجناء الذين يموتون جوعاً وقهراً ومرضاً وذلاً نتيجة عدم وجود الحد الأدنى من الإنسانية والرعاية داخل السجون اللبنانية.. فليرحموا من في الأرض حتى يرحمهم من في السماء».
صراع لتجنّب الموت في الزنازين
تتوزّع السجون الرسمية على مختلف الأراضي اللبنانية، والجامع المشترك بينها هو الاكتظاظ الذي يفوق قدرتها الاستيعابية، مصحوباً بتعذّر إجراء المحاكمات في مواعيدها.
وفق الأرقام، يتراوح عدد المحكوم عليهم الذين يقضون عقوباتهم في كلّ السجون ما بين 13 و15 في المائة، فيما نحو 85 في المائة هم لموقوفين لم تستكمل محاكمتهم، جراء توقّف المحاكمات والتحقيقات منذ انتشار وباء كورونا، وصولاً إلى إضراب القضاة المفتوح، ما أدى إلى تأجيل العديد من المحاكمات بسبب عدم سوق المشتبه فيهم للمثول أمام القضاء وعدم تأمين سيارات للقوى الأمنية لنقل الموقوفين من السجون إلى المحاكم ودوائر التحقيق، وتأخر إنجاز التبليغات.
تدور مشكلة السجون في حلقة مفرغة بغياب حل شامل، واعتبر الرئيس السابق لمجلس شورى الدولة شكري صادر لـ«المجلة» أن «المشهد في سجون لبنان تدهور بسبب تداعيات الانهيار التي انعكست على المجالات كافة، بما فيها القضاء، فالقضاة يؤدون عملهم في ظروف سيئة، وأجورهم باتت معدومة»، لافتاً إلى أن «القضاة يعانون من تردي أوضاعهم المعيشية، ولم يكترث أحد لمطالبهم، فكيف بالذين يتواجدون في السجون ويفتقرون لأدنى مقومات العيش والحقوق المسلوبة، من دون إغفال وجود أعداد تفوق القدرة الاستيعابية للسجون».
وشدد على أن «المطلوب تأمين محاكمة الموقوفين بعدالة وإنسانية للتخفيف من وطأة التدهور، فالسجون باتت مرآة لواقع لا يختلف كثيراً عن الخارج في بلد لا قيمة فيه للإنسان، كما أن تأخير المحاكمات ساهم في تعميق المعاناة».
وتساءل صادر: «كيف لدولة لم تستطع تأمين طالب القضاة أن تلبي احتيجات السجناء، فمنذ بداية الانهيار الاقتصادي، انخفض راتب القاضي إلى نحو 110 دولارات، وبات لا يغطي كلفة انتقال القاضي بين منزله ومكان عمله وبقية متطلبات الحياة، وهم رفعوا الصوت مراراً ولكن دون جدوى».
ولفت إلى أن «السجناء مُهدّدون باستمرار سجنهم مع إضراب القضاة وعدم البت بموضوع الإفراج عن الموقوفين، ولم يعد همّ نزلاء السجون الخروج إلى الحرية، وهم يصارعون من أجل البقاء على قيد الحياة، وتجنّب الموت في الزنازين نتيجة الأمراض والجوع، بعد أن بات محكوماً عليهم بالإعدام جراء عدم إحساس الدولة بصعوبة وضعهم، فهي عاجزة حتى عن إيجاد الحلول».
وفي ظلّ الشلل الذي يضرب عمل القضاء وغياب الرعاية الصحية، اعتبر صادر أن «تخفيض السنة السجنيّة يخفف من معاناة السجناء، ومطالب السجون باتت أكبر من القدرة على تحقيقها، والخوف من خروج الأمور عن السيطرة في حال لم يُتّخذ أي تحرّك للحدّ مما يحصل».
الإمكانيات ضعيفة.. والخطر يتزايد
عقب الأزمة العالمية كما المحلية، تراجعت التقديمات التي كانت تؤمّنها بعض المنظمات الدولية بعد أن تحوّلت وجهة مساعداتها إلى أوكرانيا غداة اندلاع الحرب الروسية، فيما تحاول الجمعيات الإنسانية المحلية التخفيف من وطأة االمعاناة لكن ضمن إمكانيات محدودة.
أكد رئيس جمعية «عدل ورحمة» الأب الدكتور نجيب بعقليني لـ«المجلة» أن «وضع السجون في لبنان كان رديئاً، وزاد سوءاً، إذ إنه حتى قبل الانهيار وجائحة كورونا، لم تكن الأوضاع مرضية للجميع، بما فيهم المسؤولون عن السجون والمساجين وأهاليهم والجمعيات، لأن هذا الملف مهمل والقضية منسية وموضوعة في الأدراج منذ سنوات».
ولفت إلى أن «تحريك الموضوع يحصل من وقت إلى آخر بحسب المستجدات، والسجناء وذووهم يطالبون بالعفو العام لتخفيف الاكتظاظ وتسريع المحاكمات، فالوضع مأزوم، ويوماً بعد يوم الأمور تتعقد»، مشدداً على أن «الحلول موجودة ولكن تلزمها قرارات وإرادة من السياسيين، فالمجالس النيابية والحكومات المتعاقبة لم تعالجه كما يلزم».
وعن مصير الأموال التي تم صرفها من أجل تأهيل السجون، أوضح بعقليني أن في لبنان تتم عادة معالجة النتائج وليس الأسباب، وهناك العديد من الخطط، ولكنها لم تُنفّذ.
وجزم بأن «القوى الأمنية كما السجناء وأهاليهم يعانون من تدهور الأمور»، لافتاً إلى أن «الجمعيات تقوم بالمساعدة قد الإمكان للمساعدة من أجل تحسين الوضع، لكنها لا يمكن أن تحل مكان الدولة».
وقال: «لا أحد يريد أن يحل مكان الدولة، فهي المسؤولة، والجمعية تساند وتتعاضد للتخفيف من معاناة المساجين بتقديمات كالأدوية وأدوات تعقيم وتجهيزات للسجون، على الرغم من أنها غير ملزمة بذلك»، مشيراً إلى أن «الإمكانيات أصبحت ضعيفة، والخطر يتزايد يوماً بعد يوم في ظل الاكتظاظ المتفاقم جراء إضراب القضاة والتأخير في تسريع المحاكمات، فهناك 35 في المائة من السجناء أجانب و57 في المائة لبنانيون، والمحكومون يشكلون 30 في المائة وغير المحكومين 70 في المائة، والجميع يتقاذف المسؤوليات».
وعن موضوع العفو العام وتخفيض السنة السجنية من 9 أشهر إلى 6 أشهر، لفت بعقليني إلى أنه لا يوجد العدد الكافي للأشخاص الذين يستفيدون من هذا التخفيض، فبعض السجناء غير محكومين، وفي حال تم تطبيق تخفيض السنة السجنية والعفو العام سيخرج حوالي ألف سجين موجودين في السجون اللبنانية من أصل 7 آلاف، موضحاً أن الجمعيات تساعد في التأهيل، والأهم عند خروج السجين هو إيجاد فرصة عمل وبيئة لمساندته كي لا يعاود ارتكاب الجريمة ويدخل السجن مجدداً.
وحذّر بعقليني من أن «الوضع يتجه للأسوأ بعد التأخير في إيجاد الحلول ومعالجة الأسباب»، ووجه نداء إلى الجهات المانحة لتساعد تلك الفئة المحرومة من حقوقها وحريتها، فهناك نقص في الأطباء والأدوية، وقوى الأمن الداخلي لا تملك القدرة على طبابة كل السجناء.
وطالب مجلس النواب بتعديل قانون أصول المحاكمات الجزائية والسير بالاقتراحات لتحسين أوضاع السجناء والتخفيف من محكوميتهم وتسريع المحاكمات وزيادة الميزانية لقوى الأمن الداخلي للقيام بمهامهم، وتخفيف الاكتظاظ، كما التأهيل من خلال تشجيع المشاغل داخل السجون والقيام بنشاطات صحة نفسية وجسدية تساعد في تخفيف المأساة الكبيرة الممتدة على صعيد الوطن.
وبانتظار أن تصل المطالب إلى آذان المسؤولين، تبقى السجون قنابل موقوتة تُهدّد بالانفجار في أي لحظة، وسط تخوّف من نتائج لا تُحمد عقباها.