مصمم الأزياء التونسي العالمي عز الدين عليّة... شاعرية نحت القماش وتناغمه على الجسد

مصمم الأزياء التونسي العالمي عز الدين عليّة... شاعرية نحت القماش وتناغمه على الجسد



بقلم: منصف المزغني وريشة علي المندلاوي

1-
أمّا قبل، فإن عز الدين عليّة قامة قصيرة وحكاية إبداع طويلة:
رجل عربي من تونس صار شخصية عالمية في دنيا الموضة واللباس.
وصمم فستاناً لشهيرات النساء، ومن بينهن نجمات سينما وسياسات مثل سيدة البيت الأبيض الأولى (سابقا) ميشيل أوباما، وهي التي لم يخطر في ذهنها يوماً أنها سوف ترتدي فستاناً يصمّمه واحد من أبناء قارتها الأصلية السمراء: أفريقيا.

2-
وعز الدين علية حكاية ذات بداية:
- كانت أخت عز الدين الكبرى تفصّل وتخيط ملابس النساء للمناسبات والأفراح، وفي هذا المناخ، كان الصبي عز الدين مبهوراً بالفصالة والخياطة، فصار يساعد أخته، ويتعلم أبجدية حوار القماش مع الجسد.
- وحين بلغ الفتى سن الشباب، قرر أن مدينة سليانة (شمال البلاد التونسية والتي ولد فيها سنة 1940) هي مدينة ضيقة على موهبته، وأمّا معهد الفنون الجميلة بالعاصمة التونسية فهو أقل من طموحه.
- وفهم أن: طموح الإنسان أوسع من مسقط رأسه في بعض الأحيان.

3-
أدرك عز الدين منذ الصبا أنه مخلوق لكي لا يرى في اللباس مجرد كسوة، وتحصيل رزق فقط، وجعل منه فناً، وتأملاً وخيالاً، وهندسة للذوق، وعروضاً لأزياء تكسو العارضات وتسرّ الناظرين.

-4
فهم عز الدين منذ البدء ضرورة الفن، وأن على المصمم أن يجعل اللباس متجاوزاً لدوره النفعي الأول، وقد صار فناً، أي ترفاً وضرورة، ومتعةً للعين والجسد، وبات التصميم مثل قصيدة كثيفٓة المشاعر، أو أغنية... ولكن من قماش، وكلماتها متناغمة مع مقامها الذي هو: إيقاعات الجسد الإنساني في كلمات الموضة وموسيقى العصر.

5-
لم يكن في رأس المهاجر الشاب عز الدين علية غير: أفكار وأحلام ترغب في التحقق في عالم الموضة والموجات الجديدة في بحور الملابس، وأمواج الأزياء المتحولة من فصل إلى فصل ومن سنة إلى أخرى، وهكذا هاجر زمن الهجرات السهلة (دون تأشيرة) إلى فرنسا، باريس تحديداً.

6-
لقد حزم عز الدين حقيبة الهجرة إلى باريس العاصمة التي احتلت بلاده تونس، لأنه أدرك أنّ لباريس وجهاً آخر غير الاستعمار القبيح، فهي أيضاً عاصمة عالمية للجمال المليح، وفيها تٓتٓهندسُ الأذواقُ في مجالات الموضة واللباس والعطور، وربما كانت في نفس عز الدين رغبة دفينة في أن «ينتقم»، وينتقل إلى باريس لا ليحتلها، أو ليحلّ بها، ولكن ليكسوٓها أبهى الحلل.

7-
إن شاعرية لغة الجسد، خاصة لدى عز الدين، وهي كما إيقاعات بحور الشعر، وكما أن الشعر الذي يذهب وزنه وجماله عند الترجمة، فإن لغة الفاصلة لدى عز الدين تتنوع مع كل شكل إنساني، وكان عليه العمل بالليل والنهار من أجل أن يصمد في عالم لا يكف عن طلب الجديد والمستحدث، خاصة في أدغال الموضة، وفي باريس الشرهة التي لا تشبع من طلب المزيد والجديد.

8-
لا شيء كان يوحي بأنّ هذا العربي المسلم المتخرج من معهد الفنون الجميلة التونسية، وذا الطبع الهادئ، والصبور على متاعب الغربة ومعاناة الإبداع، وتدبير الرزق، سيكون مصمماً ذا شأن، وفي باريس، خاصة، ولدى الفرنسيين وغيرهم ولكن...
- عز الدين عزم وأصرّ على أن ينجح «ويربح وهو يبيع الماء في حارة السقائين»!
- وهاجر إلى فرنسا (بلاد المستعمر والموضة والفن) ليناضل في (جبهة الموضة)، وفي الذهن استراتيجية في التصميم والخياطة، ولا سلاح لديه غير: قلم، وأوراق، ومقص، وإبرة، وأفكار، ومقترحات لإكساء الجسد الإنساني.

9-
ولم يكن «عٓلٓيّة» من عِلْيةِ القوم، فهو سليل أسرة متواضعة الحال عندما حزم حقائبه في ستينات القرن العشرين نحو باريس، وكان حالماً بأن يعطي لباريس من مهجته الجمالية في عالم الموضة، وتعطيه مدينة الأنوار: شيئاً من شعاع، بعد القبول به في نادي الإبداع.

10-
كما لم يكن أحد من العنصريين الفرنسيين يتصور أن عز الدين العربي سيسمح له بالعمل في دار كبيرة السمعة مثل «كريستيان ديور» ولمدة أيام فقط، فلقد ظهر، لبعضهم، كما لو أنه متسلل، أو متسول في الدار الكبيرة، و... دبرت له مكيدة فكان الطرد هو المصير الذي انتظره بعد أيام معدودات من هذا «التسلل» الممنوع إلى دار «ديور» DIor، و«تخلصت» الدار الكبيرة السمعة من هذا الغريب، ولكن الطرد أو الرفض أو الإبعاد أو الاحتقار، أو الحسد أو المكيدة، لن تقوض عزيمة المصمم الشاب، وجزى الله الشدائد كل خير، ورب ضارة نافعة، فما تعرض له سوف يجعله لاجئاً إلى موهبته التي لم تنطفىء، وتجعل من عز الدين علية رجلاً قصيرٓ القامة، ولكن رفيع القيمة، مرفوع الهامة، وصاحب علامة، بل وصاحب مؤسسة جمالية باتت في ذاكرة باريس، واسمها: مؤسسة
‏AZAIEZ

11-
واذا كان عز الدين علية حكاية ذات بداية، فإن نهايتها تتجاوز النهاية الجسدية بعد ما أوفدت رئاسة الجمهورية التونسية مبعوثاً عنه في يوم جنازته، وحكى عنه وزير الثقافة التونسي الفنان محمد زين العابدين بكل التقدير في لحظة التأبين، وأمام تلك المقبرة البحرية المتوسطية في قرية سيدي بوسعيد العالمية القريبة من تونس العاصمة يرقد عز الدين علية.
- وقد كان من التونسيين النادرين الذين تابعهم التلفزيون، ونقلت قناة «نسمة تي في» مراسم الجنازة، واستقبل سكان قرية سيدي بوسعيد بخشوع كبير جثمانٓه الصغير بقلب كبير...

12-
وأما بعد، فإن عز الدين علية حكاية لن تنتهي بعد دفنه، وتأبينه، والتاريخ يعلّم الجميع أن الإبداع ذاكرة غير صالحة للنسيان.
font change