دمشق: في تلك البقعة الجغرافية من الكون، في دمشق، إذا كنت أباً لأربعة أولاد، أو خمسة، ولم تولد وفي فمك ملعقة من ذهب، وقدرك شاء أن تكون موظفاً، أو عاملاً، فذلك يعني أنك أصبحت وجها من وجوه دمشق في وضح النهار، لكن إذا كنت نجلاً لأحد رجال الأعمال، ويتوفر لديك ما يمكن أن يحتاجه حي بأكمله، فحتماً سيكون ليل دمشق حليفك، فمن يرى دمشق في وضح النهار، لا يمكنه توقع أن هذه المدينة لا تنام، فكما تحمل في طيات نهارها، مشاكل وهموم شعبها، أيضاً لليلها وفجرها قصة لا يعلم بها إلا مرتادو الليل.
الوجه المرئي
في دمشق، وعند هذا الخط الفاصل بين الليل والنهار، أي مطلع الفجر، يجعل أي شخص يرى المدينة بوجهيها، أن يشعر وكأنه في مدينتين لا واحدة، فقد تركت سنوات الحرب الماضية ندباتها على الأمكنة، وعلى مشاعر الناس، ومصائرهم، فاليوم وأنت تسير في شوارع العاصمة تصاب بالدهشة، فالاختلاف بين ليل دمشق ونهارها، يجعل أي شخص يشعر بالاستنكار، أو ربما بالذهول، مئات المواطنين يقفون ينتظرون وسائل النقل أن تبدأ، ليذهبوا إلى وظائفهم، منها الحكومية، والخاصة، والطلاب، والعمال، فعندما يتم سماع صوت شاحنات القمامة قد بدأت تضج في شوارع دمشق، عندها يبدأ الصباح في العاصمة، لتظهر وجوه النهار، أحد تلك الوجوه النهارية، أحمد نعسان والذي تحدث لـ«المجلة» عن يومه في دمشق، يقول: «يبدأ نهاري منذ الساعة السابعة صباحاً، أستيقظ لأرى نهاري أمام عيني دون أي تغيير يذكر، فأنا أعمل لدى شركة من ذوي القطاع الخاص، ويعني ذلك أنه يتوجب علي الخروج من منزلي في الساعة الثامنة، لأنتظر الباص والركوب به، وأصل لعملي، فأقضي من ساعات يومي حتى الساعة الخامسة، وينتهي الدوام، لأتوجه على الفور إلى السوق، وأجلب ما تحتاجه أسرتي، فأنا أب لثلاثة أولاد، والاحتياجات كثيرة، بعدها أعود لمنزلي بعد حرب أخوضها مع وسائل النقل، وبعد جلوسي لوقت قصير مع زوجتي، وعائلتي، ينتهي النهار، ليحل الليل، ويحل معه تعب النهار ضيفاً على جسدي، فأخلد في نوم عميق، مع تصور مسبق عن نهاري القادم، والذي لا يختلف في أي شيء يذكر عما فعلته اليوم».
الوجه الخفي
جوليا، هي أيضاً من الوجوه المتعبة التي تظهر في النهار، وهي طالبة جامعية، جل وقتها تقضيه في جامعتها، تتحدث لـ«المجلة» عن تجربتها مع ليل دمشق، تقول: «أنا من عائلة محافظة بشكل كبير، ولم أخرج يوماً في وقت متأخر، ولا لأي سبب من الأسباب، لكن في إحدى الليالي التي كنت أمكث فيها عند إحدى الصديقات، اقترحت أن نذهب للتسكع في السيارة، كنوع من التسلية، عندما ذهبنا، كانت الموسيقى تعلو وتعلو، وأنا دهشتي من خلف شباك السيارة تعلو، وتعلو أيضاً كلما رأيت سيارة لم أكن أراها في السابق إلا في الصور، أو في التلفزيون فقط، ورأيت مجموعة من الشبان مفتولي العضلات والذين أيضاً لم أرهم من قبل في دمشق، والذي ينفي بذات الوقت الإحصائيات حول تراجع نسبة الشباب في سوريا، لكن ما ثار استغرابي هو رؤيتي لأحد المطاعم، التي أشاهدها يومياً في صباحي الجامعي، والتي كنت أعتقد في السابق أنه مغلق، أو أنه في مرحلة صيانة، لكنه تبين أنه في مرحلة انتظار لزبونه الخاص به، والذي حتماً أنا لست منهم، لانتشار المعلومات عنه حول ارتفاع أسعاره، وهو ليس من حق أي شخص المكوث على إحدى طاولاته، إلا إذا كان المال ليس من أحلامه».
وتتابع جوليا الحديث عن دهشتها في الليل الدمشقي: «في حي المالكي تجد السيارات الفارهة والتي حتماً أنت تراها للمرة الأولى ومع ثلاثة أو أربعة شباب، على طول الطريق دون استثناء، أما الفتيات، فيفعلن كما كنا نحاول أن نفعل أنا وصديقتي، رفع صوت الأغاني الهابطة، والمرور بشوارع، وأحياء دمشق الثرية، أما إذا ذهبت إلى أحياء دمشق القديمة، فهنا ترى ليلا آخر في دمشق، فهنا يمكث كل من أتعبه النهار، ولكن هموم ومشاكل النهار قد أثقلت كاهلهم، ربما تجعلهم يمتنعون عن النوم، فيجدون حانات وبارات حي باب شرقي بانتظارهم، ليشربوا فينسون ما يحصل حولهم، وربما ينساهم ما حولهم أيضاً».
كومبارس
وجه دمشق ليلاً لا يقتصر على النشاط التجاري والترفيهي، فهناك عشرات المشافي والصيدليات، التي لا تغلق أبوابها في مدينة دمشق، والذين عادة ما يتسم عملهم بالمخاطر، حسبما قالت الصيدلانية بيان العقل، والتي أوضحت الصعوبات التي من الممكن أن تتعرض لها أثناء العمل الليلي، كالسرقة، أو الابتزاز، بالإضافة للأشخاص الذين يعملون كفترات ليلية، في الأعمال التي تتطلب العمل بشكل متواصل، كالمطاعم التي يرتادها الناس ليلاً، كمحمد سمان الذي يعمل نادلاً في أحد المطاعم الدمشقية. يقول لـ«المجلة»: «عملي يبدأ من الساعة التاسعة مساءً، ويستمر حتى الخامسة فجراً، هذا هو موسم العمل لدينا، وهنا يحدث الضغط في الطلبات، حيث يأتي العديد من الشباب، ممن تظهر عليهم النعمة (مصطلح سوري بمعنى الثراء)، فيأتون للمطعم، وهنا أنا علي تلبية كافة طلباتهم حتى ينتهي دوامي اليومي».
ويتابع محمد لـ«المجلة» ويتحدث عن شعوره وهو يعمل من أجل تلبية طبقة لم يكن له أن يرها في حياته لولا طبيعة عمله، يقول: «أشعر وكأني كومبارس في الحياة، عندما يبدأ عملي، وتتهافت الناس إلينا، كمان أنني أبقى في حيرة من أمري، فلا أنا مع أبناء طبقتي لأتجانس معهم، ولا أنا مع من يرتادون المطعم الذي أعمل فيه لأتأقلم معهم أيضاً، وأقف في المنتصف، كحد فاصل، كخط الفجر مثلاً بين ليل هؤلاء ونهار أولئك».
طبقات أم فئات؟
الخبير الاقتصادي عبد القادر حصرية، أفصح لـ«المجلة» عن رأيه فيما يخص طبقات دمشق، والحياة فيها: «في كل مدن العالم هناك اختلاف بين حياة الليل والنهار، والموضوع ليس طبقيا، بل فئوي، فهناك اختلاف كبير بين الفئة والطبقة، الطبقة هي التي لها عاداتها وتقاليدها، ولا يمكنها الخروج عنها بسهولة، أما الفئة فهي مجموعة من الناس التي لها نمط حياة يومي معين، ويختلف هذا النمط من فئة لأخرى، وفئة العمال، والموظفين، كيف لهم أن يسهروا، وحياتهم مرتبطة بالعملية الإنتاجية، وما يحصلونه من مال في النهار، يعيشون به، ولا وقت لديهم للسهر، أما الفئة المقتدرة مادياً فيكون لها بال طويل في السهر، وهي قادرة على أن تتناول العشاء في أفخم المطاعم، أو الذهاب للحفلات، وسوريا كغيرها من الدول، لها وجه لا ينام».
أما الدكتورة في علم الاجتماع حنان ديابي، فكان لها رأي مغاير، تقول لـ«المجلة»: «في سوريا تم انقسام المجتمع إلى طبقتين، طبقة تم سحقها وهي عبارة عن 80 في المائة من الشعب الذين هم تحت خط الفقر، وطبقة ثرية تملك كل شيء، أو تستطيع أن تملك كل شيء، والطبقة التي تعمل طوال النهار ومتوسط دخلها 100 ألف ليرة سورية أي 25 دولارا، كيف لها أن يأتي الليل وتسهر؟ من أين؟ وهنا لا أضع اللوم على الطبقة الثرية، فالمقتدر أيضاً من حقه العيش، ويملك أدوات العيش، لكن ما تعيشه سوريا اليوم، والذي يعد أخطر ما حدث، هو اختفاء الطبقة الوسطى، وهذا ما دفع إلى تقسيم شعبها بين الليل والنهار».
وجه دمشق في النهار اليوم، يشبه أحوال ساكنيها، الذين ما زالوا يعانون من آثار الحرب، فيظهر على وجه سكانها التعب، والحزن، الذي أرخى بظلاله على حياتهم، ويومياتهم، بينما يظهر النقيض لهم والذين أرخت الحرب على حياتهم الثراء، والرفاهية، منهم من سماهم أهالي دمشق تجار حرب، فأودى بهم ثراؤهم نحو الليل، ليصنعوا لدمشق جانبا خاصا بهم، والذي لا يمكن أن يشاركوا به أولئك المتعبين، والمنهكين من أسعار احتياجاتهم، التي بات ارتفاعها المستمر والدوري، كابوسا يوميا يواجهونه، من موظفين، وعمال، وطلاب، وسائقين، وغيرهم، بينما يواجه أصحاب وجه دمشق الآخر حياتهم ليلاً، وبعيداً عن أنظار أي طبقة أخرى من الطبقات العاملة في المجتمع السوري، ولا يمكن نكران الجانب الآخر من أصحاب وجه دمشق الآخر الذين ما زالوا يريدون استعادة حياتهم السابقة، التي ألغتها الحرب، والذين يرفضون الابتعاد عن أجواء السهر والسمر، فيلجأون لبارات باب شرقي، فهو من يجمع بين طبقات المجتمع ليلاً أيضاً، لكن وجه دمشق في أحيائها الثرية، يبقى وجهاً لا يعلم به إلا أصحابه، وقلة من الناس الذين مروا به بمحض الصدفة.