باكو: في تصريح يضيف مزيدا من الضبابية على مستقبل الاتفاق النووي الإيراني الذي تحاول الإدارة الأميركية الراهنة تحت حكم الديمقراطيين أن تعيد إحياءه من جديد بعدما تخلت عنه الإدارة السابقة تحت حكم الجمهوريين، أعلن المتحدث باسم مجلس الأمن الوطني الأميركي جون كيربي، في 24 أغسطس (آب) 2022: «إن الاتفاق مع إيران بشأن برنامجها النووي أصبح أقرب مما كان عليه في أوائل أغسطس، رغم استمرار الخلافات بين الجانبين»، إذ يعكس مثل هذا التصريح موقف الإدارة الأميركية الساعية والمهرولة إلى إنهاء المفاوضات وصولا إلى إحياء الاتفاق مع إضافة بعض التعديلات التي لن تغير شيئا من جوهره الذي يحمل تهديدات للأمن والاستقرار الإقليمي، وفي مقابل هذا الموقف الأميركي المهرول نجد موقفا إيرانيا مراوغا ومماطلا في التوصل إلى تفاهمات بشأن عديد القضايا الخلافية بينهما، حيث تدرك طهران جيدا أن الوقت يلعب لصالحها، بما يعطيها فرصة إضافية لاستكمال مخططاتها، وهو ما يدفع إلى القول بأننا إزاء معادلة غير متوازنة بين طرفي التفاوض. صحيح أن ثمة من يعتقد أن المعادلة تميل لصالح القوى الأولى عالميا في مواجهة فاعل يحاول أن يرسم خطوط تمدد إقليمية، إلا أن هذا الاعتقاد يحتاج إلى تصحيح في ضوء قراءة دقيقة للواقع وملابساته، والذي يكشف عن الأوزان الترجيحية لكل طرف، بما يدفع أيا منهما لتقديم المزيد من التنازلات لحفظ ماء الوجه وعبور بر الأمان في ظل عالم يموج بالصراعات والأزمات، وإقليم مليء بالحروب والنزاعات.
ومن هذا المنطلق، يستعرض التقرير مستقبل الاتفاق النووي الإيراني في ظل تلك المعادلة غير المتوازنة من خلال محورين:
هرولة أميركية... صراعات في الداخل وضغوط في الخارج
لم تكن مصادفة أن تواجه الولايات المتحدة الأميركية واقعا داخليا وضغطا خارجيا يدفعها إلى تقديم مزيد من التنازلات للجانب الإيراني رغم كل ما تتعرض له من ضغوط من جانب إسرائيل وحلفاء واشنطن في المنطقة، والذين يرون أن إعادة إحياء الاتفاق النووي بجوهره الراهن يمثل كارثة محققة النتائج على أمن المنطقة واستقرارها من ناحية، وعلى علاقات واشنطن ومصالحها من ناحية أخرى. ولكن رغم ما تدركه الإدارة الأميركية الراهنة من تلك التداعيات السلبية على مصالحها ومصالح حلفائها، إلا أن إخفاقاتها المستمرة في إدارة ملف سياستها الخارجية بشكل عام وفي منطقة الشرق الأوسط على وجه الخصوص، يدفعها إلى الاعتقاد بأن إعادة إحياء الاتفاق النووي يعد نجاحا دبلوماسيا يمثل من وجهة نظرها مخرجا لأزمة مركبة الجوانب ومتشابكة الأبعاد، وهو ما تناقضه الحقائق على الأرض، والتي يمكن أن نوجزها فيما يأتي:
تواجه الإدارة الأميركية الحالية حالة تململ شعبي، بسبب التجاذب الحاد بين معسكري جو بايدن ودونالد ترامب، حيث تئن الساحة الداخلية وتعاني من حالة الانقسام التي قد تؤدي إلى التأثير سلبا على صانع القرار السياسي، بل قد تدفعه إلى اتخاذ قرارات غير رشيدة في حساباتها ونتائجها، يدلل على ذلك الانسحاب المخزي للولايات المتحدة من أفغانستان من ناحية، والفتور الذي أبدته الإدارة الأميركية ردا على زيارة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي إلى تايوان من ناحية أخرى، وهو ما يعكس حالة التخبط التي تعيشها الإدارة الأميركية تحت قيادة الحزبين الكبيرين بشأن ملفات خطيرة في السياسة الخارجية الأميركية.
ضغوط الوقت واقتراب موعد الاستحقاق النيابي لمجلس الكونغرس في نوفمبر (تشرين الثاني) القادم، بما يدفع الإدارة الأميركية إلى الإسراع في توقيع اتفاق غير مثقل بأية التزامات حقيقية بل أغلب ما ورد فيه غير قابل للتنفيذ، ليتكرر بذلك سيناريو الاتفاق النووي السابق في عهد إدارة باراك أوباما، حينما فاوض في عام 2013 وعينه على ضرورة تحقيق اتفاق في عشرين شهراً فقط، وجرى تصميم التفاوض لينتهي قبل أن تنتهي فترة رئاسة أوباما ليخرج اتفاقا مشوها ومبتورا وغير قادر على فرض التزامات حقيقية على طهران.
تفاقم تداعيات الأزمة الروسية الأوكرانية على الأوضاع الاقتصادية وانعكاسات ذلك على مستويات معيشة المواطن الأميركي الذي يرى فيما تمارسه إدارته تأثيرا سلبيا على مصالحه ومستقبله. ولذا ترى الإدارة الأميركية أن إعادة إحياء الاتفاق من شأن عودة النفط الإيراني إلى الأسواق العالمية، بما قد يساعد على خفض سعر البنزين في الداخل الأميركي، كما أنه من المنتظر أن يقلل من تضخم الأسعار، وإعطاء بنك الاحتياطي الفيدرالي الأميركي أسباباً أقل لمواصلة رفع أسعار الفائدة والمخاطرة بركود اقتصادي يدخل البلاد في أزمة مركبة الأبعاد ومتشابكة التداعيات.
تصاعد التوترات العالمية التي تخوضها الولايات المتحدة في مواجهة من وصفتهما في استراتيجية أمنها القومي بمصادر التهديد، وهما (روسيا والصين)، إذ تدرك واشنطن جيدا أنها لن تستطيع أن تحارب على جبهات ثلاث (روسية- صينية- إيرانية)، وهو ما يفرض عليها أن تبحث عن مقاربات تتناسب مع مصادر كل تهديد من هذه التهديدات، فإذا كانت روسيا- من وجهة نظر واشنطن- غرقت في المستنقع الأوكراني، فإنه من المهم أن تغرق الصين في المستنقع التايواني، وأن تصبح طهران أداة طيعة كما كانت في حظيرة الولاء الأميركي خلال عهد الشاه، ولن يتأتى ذلك إلا إذا تفكك التحالف الإيراني مع كل من روسيا والصين، وهو ما تسعى إليه الإدارة الأميركية من خلال جذب طهران بعيدا عن أية تحالفات محتملة بينها وأي من هاتين الدولتين.
مماطلة إيرانية محفوفة بالمخاطر
من الظاهر للعيان بشأن ما يجري من مفاوضات أن الموقف الإيراني يبدو أقرب إلى موقف المنتصر، بل تحرص طهران على تأكيد هذا الانتصار من خلال تصريحات مسؤوليها على غرار التصريح الوارد على لسان وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، بأن «الكرة باتت الآن في ملعب واشنطن، وعلى ضرورة أن تتنازل الولايات المتحدة وتقدم ضمانات لتستمر الصفقة»، حيث تأتي مثل هذه التصريحات في سياق المسعى الإيراني لبناء أكبر توافق داخلي على موقفها حيال برنامجها النووي، حيث بدأ نظام الملالي في إعداد كوادره والجمهور الأوسع لقبول التسوية المتوقعة. يعزز من ذلك موقف المرشد علي خامنئي الذي لم يتحدث عن المفاوضات النووية لأسابيع مضت، تريثاً لتبلور الموقف الأميركي بشكل واضح ونهائي، فضلا عن التحوط لأية خلافات داخلية وراءها المتشددون جراء تقديم المزيد من التنازلات، ومما يعزز موقفه في مواجهة موقف الرئيس الأميركي أنه يمتلك سعة من الوقت حيث إنه حاكم مدى الحياة، ولديه كل الوقت والصلاحيات للتفاوض والاتفاق، وهو ما يعطي طهران مزيدا من أوراق التفاوض التي قد تمنحه فرصة للمراوغة والتسويف أملا في حدوث تغييرات في الداخل الأميركي مع الاستحقاق النيابي المقرر في نوفمبر القادم والمنتظر عودة الجمهوريين إلى مقاعد الأغلبية بما يمثل عائقا أمام الإدارة الأميركية لاستكمال خططها هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى أملا في تغيير توازنات القوى الدولية في ضوء ما يمكن أن تنتهي إليه المعركة الروسية الأوكرانية، بما قد يدفع بمزيد من الاصطفاف الإيراني نحو المحور الروسي والصيني، يؤشر على هذا التوجه ما أعلنه الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي من رهنه إحياء الاتفاق النووي بتلبية أربعة شروط إيرانية، وذلك بقوله: «نحن نؤكد في الاتفاق النووي أولاً على الضمانات الموثوق بها، وثانياً التحقيق الموضوعي والعملي، وثالثاً رفع جميع العقوبات بشكل ملموس ومستدام، ورابعا إغلاق جميع المزاعم السياسية حول قضية الضمانات (تحقيق الوكالة الدولية) التي نعتبرها بلا أساس».
ولكن رغم ذلك ثمة احتمال أن تعيد طهران موافقتها على هذا الاتفاق النووي الذي من المحتمل أيضا أن يظل ذا سمة مؤقتة على غرار الوضع السابق، إذ إنه من غير المتوقع أن تحظى الإدارة الأميركية الراهنة بالدعم المطلوب من ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ ليصبح الاتفاق معاهدة رسمية لها صفة قانون في الولايات المتحدة، مثلما كان الحال مع أوباما، بل قد يواجه الرئيس جو بايدن موقفا أكثر صعوبة، إذ إن هناك في الحزب الديمقراطي من يعارض أي اتفاق ضعيف، فقد سبق أن أعلن 18 نائباً ديمقراطياً أنهم لن يجلسوا صامتين، إن لم يحقق الحد الأدنى من المتطلبات ضد الإرهاب المؤسسي، وضد الحروب الإيرانية في المنطقة. ومن ثم، لن يكون أمام جو بايدن سوى تنفيذ الاتفاق من خلال الأداة القانونية المتمثلة في إصدار أوامر تنفيذية، يستمر سريانها حتى يتمكن رئيس آخر من اتخاذ قرار بالتغيير أو الإلغاء، مثلما فعل دونالد ترامب مع الاتفاقية النووية القديمة عام 2018.
ولكن يبقى التساؤل؛ لماذا تقدم طهران على اتفاق قد يتعرض للإلغاء مرة ثانية؟ وتأتي الإجابة على هذا التساؤل في ضوء دافعين تسعى طهران إلى حصد نتائجهما: الأول، العودة إلى الاتفاق تعني تدفق الأموال على طهران بما يمكنها من الخروج من شرنقة الأزمات المجتمعية التي تزداد حدتها يوما بعد يوم، إذ لم يكد يمر يوم إلا وتشهد محافظة من المحافظات الإيرانية مظاهرات شعبية ضد الغلاء تارة وضد ارتفاع الأسعار ونقص المياه والغذاء مرات عديدة. الثاني، تمكين طهران من دعم حلفائها وأذرعها في المنطقة من خلال توفير المزيد من مصادر التمويل لتحركاتهم بما يعزز من التوغل الإيراني في شؤون المنطقة وتوظيف ذلك في كسب المزيد من نقاط القوة التفاوضية ليس فقط في مواجهة الولايات المتحدة التي تسعي للإبقاء على قواتها في دول المنطقة وتحديدا العراق وسوريا وعدم منح إيران فرصة لتوسيع نفوذها في هذين البلدين، وإنما يمكنها الاتفاق أيضا من مواجهة حلفائها الدوليين (روسيا والصين) وكذلك مواجهة دول جوارها الإقليمي التى يدرك مدى الخطورة المترتبة على إعادة إحياء الاتفاق النووي عليها، حيث يطلق يد طهران بشكل صريح للعبث بشؤون دول المنطقة وتعريض مصالحهم وأمن شعوبهم للخطر، بما يفرض عليهم الانتباه إلى أهمية تحصين دولهم ضد أصحاب الأجندات والولاءات غير الوطنية؛ مع العمل على تعزيز التكامل الإقليمي؛ سدا للذرائع ومنعا للتوغل الإيراني.
نهاية القول؛ إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية لا تثق في طهران كما صرح نيد برايس؛ المتحدث باسم الخارجية الأميركية، في تصريحات لشبكة «سي إن إن» في 24 أغسطس 2022، بقوله: «نحن لا نثق بإيران، وهذه الصفقة مبنية على وضع أكثر نظم للتحقق والمراقبة الصارمة والمكثفة التي جرى التفاوض عليها، ولا تتعلق فقط بمفتشي (الوكالة الدولية للطاقة الذرية)، وقدرتهم على فحص المواقع الإيرانية؛ وإنما سيتعلق الأمر بمراقبة الكاميرات والتكنولوجيات الأخرى التي من شأنها أن تضمن أن إيران تعمل بالتزاماتها في الصفقة، وإذا أردنا العودة إلى هذه الصفقة وحاولت إيران انتهاكها؛ فسوف نكون قادرين على الرد على ذلك»، فإن عدم الثقة تستلزم من الإدارة الأميركية أن تدقق في توجهاتها، وأن تمعن النظر في تحركاتها، وأن تراعى مصالح حلفائها، ذلك هو الضمان لحماية المصالح الأميركية في المنطقة والذود عن حلفائها في مواجهة الحلم الفارسي الذي يهدد الأمن والاستقرار، فهل تدرك الإدارة الأميركية خطأ حساباتها وخطورة تحركاتها قبل فوات الأوان؟