واشنطن: عـام 1922 انهارت بشكل رسمي الإمبراطورية العثمانية المترامية الأطراف وذهب الخلفاء، مع أبنائهم بعد أزمنة طويلة من العز في الآستانة.. السلطان عبد الحميد الثاني الذي حكم 33 سنة إلى أن خلعته حركة تركيا الفتاة، ونصبت مكانه السلطان محمد الخامس الذي حكم حتى عام 1915 ثم جاء بعده محمد السادس السيئ الحظ الذي انتهت الخلافة في عهده يوم 11 أکتوبر (تشرين الأول) 1922.
محمد السادس خرج من الآستانة على ظهر بارجة حربية بريطانية، في الوقت الذي سمح فيه للسلطان عبد الحميد بالبقاء كخليفة اسمي للمسلمين بدون حكم لكنه لم يدم طويلا في المنصب، ليسدل الستار النهائي على 600 سنة من القوة والنفـوذ مذ فتـح محمـد الفاتح القسطنطينية عام 1314هـ.
ین أصبح هؤلاء وأين أبناؤهم؟
«المجلة»، التقت في ولاية نيومكسيكو الأميركية بحفيدة السلطان عبد الحميد التي أعدت كتابا حول خلافة وتراث آل عثمان، وكان التحقيق التالي:
في عام 1922 خرج السلطان سليم ابن عبد الحميد الثاني إلى مصر ليعيش في حماية أسرة محمد علي المالكة. كان عمره 14 سنة عندما ترك تركيا، وعاش في مصر حتى 1952. عمره الآن أكثر من 80 سنة، ولا يزال يعيش في فرنسا، وحبه لها يعود إلى السنوات التي قضاها في مصر، حيث تزوج فرنسية من عامة الشعب، وكانا يزوران فرنسا كثيرا، خاصة للمشاركة في هوايته الأولى: سباق السيارات.
في فرنسا تمسك سليم بلقب السلطان واعتبر نفسه خليفة للمسلمين، مما أدخله في صراعات مع أولاد محمد الخامس وعبد المجيد الثاني الذين كانوا يرون أنفسهم أحق، لكن المنصب على أي حال كان صوريا، وكذلك الألقاب والأختام، والجدل حول نسبة الدم الملكي وسط الأبناء والأحفاد.
صحراء نيومكسيكو
في منزلها في مدينة سانتا في في ولاية نيومكسيكو الصحراوية في الولايات المتحدة، تجلس السلطانة نادين. فهي واحدة من ولدين وثلاث بنات للسلطان سليم المنفي في باريس.
في فرنسا قابلت ضابطا في الجيش الأميركي فتزوجا، وتجولت معه في عدد من القواعد العسكرية الأميركية، حتى وصل إلى سن التقاعد، واستقرا في ولاية نيومكسيكو.. ابنهما باتريك تخرج من جامعة نيومكسيكو، وابنتها كارينا تخرجت من جامعة لاس فيجاس. عندما تتحدث إليهما تجدهما مثل غيرهما من الأميركيين، لكن أمهما تقول إن اسميهما الرسميين هما: باتريك حنين سلطان، وكارينا زادة سلطان. وهي ترى أن خليط الدم التركي والفرنسي والأميركي لا يقلل من حقهما في الانتماء إلى أسرة آل عثمان، وتقول السلطانة نادين: «توفي أحد إخواني وإحدى أخواتي، ووالدي أصابته الشيخوخة، وأحس بأن علي مسؤولية تاريخية. ولعشرات السنين فضلنا العيش في صمت، ولم نكن تتحدث إلى الصحافيين. الآن أنا أعد كتابا عن الأسرة، وأريد أن يعرف الناس عنا، ثم بعد ذلك ليحكموا علينا».
وتضيف: «إنني واقعية جدا، وليست لي مطامح سياسية، ولا أريد عرش تركيا. لكنني لا أستطيع تجـاهـل مسؤوليتنا التاريخية، خاصة في ما يتعلق بمنصب جدنا حتى يوم عزله».
وتقول نادين إن لها هدفا واقعيا ممكن التحقيق وهو إقناع حكومة تركيا بأن يدفن جثمان والدها إلى جوار قبر جدها في إسطنبول (عبد الحميد الثاني توفي ودفن هناك سنة 1918)، وتقول: «منذ عدة سنوات، ومنذ أن كبر والدي في العمر، ونقل إليّ أمنيته أن يدفن إلى جوار والده، بدأت أكتب إلى السلطات التركية. وهنا في الولايات المتحدة أواصـل اتصالاتي عن طريق السفارة التركية في واشنطن: السفير التركي قال إن دفن الجثمان في تركيا محتمل، لكنه يستبعد دفنه إلى جوار السلطان عبد الحميد».
قصور آل عثمان
ومن وقت إلى آخـر يلتقي بقايا الحكام العثمانيين، خاصة في فرنسا حيث يعيش عدد كبير منهم، السلطانة نادين تزور تركيا مرة كل عدة سنوات، وكذلك قصر توبكابي الذي تربى فيه والدها والذي تحول إلى متحف، وقد لاحظت أن صور عبد الحميد الثاني اختفت.
وتقول نادين: «هناك جدل حول دور عبد الحميد الثاني التاريخي. البعض يحمله مسؤولية الهزائم التي لحقت بالإمبراطورية، ومسؤولية فساد سمعتها وإدارتها. لكن عبد الحميد الثاني كان قديرا وذكيا في مواجهة الدول الأوروبية العظمى في ذلك الوقت».
ونسأل ناديـن: من المسؤول إذن عـن سقـوط الإمبراطورية؟
فتجيب: «تآمر بين أوروبا وأميركا لتحطيم الإمبراطورية»، وشـجرة أسرة آل عثمان التي رسمتها السلطانة نادين تركز على أولاد وأحفاد عبد الحميد، وتهمل أولاد وأحفاد السلاطين الذين سبقوه أو جاءوا بعده. ولكن الدم الفرنسي واضح في أحفاد عبد الحميد، فأمهم فرنسية وأسماؤهم ميريل وكرسلين، وجين بي لايونيل، وكرستل، وليام، وجريجوري.. إلخ. وهناك ابناها باتريك وكارينا، برغم أن لكل واحد من الأحفاد أكثر من اسم، مثل جريجوري- سلیم أفندي، ووليام- سليم سلطان زادة.. إلخ. وتمارس السلطانة نادين في صحراء نيومكسيكو هوايتها المفضلة: الرسم.
وتقول: «أرسم الجبال والأنهار والفضاء الذي بـلا حدود؛ هذه المنطقة من الولايات المتحدة تشبه جغرافيا تركيا والشرق الأوسط. لم أعش كثيرا هناك، لكن شيئا ما في نيومكسيكو يجعلني أحس وكأنني في تركيا.
ونسأل السلطانة: لماذا الآن؟ لماذا بدأ بعض أحفاد وحفيدات السلطان عبد الحميد يتحدثون عنه بعد 70 سنة على سقوط الإمبراطورية العثمانية؟
فتجيب: «ربما لأنتا لم نعد نخاف كثيرا. في السنة الماضية تسلم والدي خطابا من حكومة تركيا بأن عفوا عاما على آل عثمان قد صدر، وأن الذي يريد العودة إلى تركيا سيجد الباب أمامه مفتوحا. أما أنا شخصيا فقد شعرت بأن ابني وابنتي قد كبرا في السن وتخرجا من الجامعة. ومؤخرا أجريت لي عملية سرطان، مما جعلني أشعر بأن مسؤولية تاريخية تقع على عاتقي وأن الحقائق لا بد أن توضح.
ونسألها: ما هي صلة ابنك وابنتك بتركيا؟ هل زاراها؟
تقول: «قضينا- زوجي وأنا وابنتي كارينا وابني باتريك- 3 سنوات في تركيا.. زوجي كـان ضابطا في السلاح الجوي الأميركي، وعمل في قاعدة تابعة لحلف شمال الأطلسي في أزمير. ووجد الولد والبنت فرصة ذهبية لدراسة الثانوية هناك (1981-1983).
* إلى أي حد يحس كل منهما بتراثه التركي وانتمائه إلى آل عثمان؟
تقول: «إنهما لم يكونا مهتمين بالموضوع. عنـدمـا تسلم زوجي التعليمات بالانتقال من الولايات المتحدة إلى تركيا لم يكونا يريدان الذهاب، قالا إن أصدقاءهما هنا ولا يريدان الابتعاد عنهم، لكن بعد 3 سنوات في تركيا أحسا بالانتماء وتعلما اللغة التركية، وأصبح لهما أصدقاء أتراك.
* وما هو رأيهما في الانتماء إلى آل عثمان؟
- ليست لهما آراء محددة يعرفان خلفيتهما، ويـريـان من سوء الطـالـع أن سقطت الإمبراطورية، وتشتت آل عثمان في مختلف أنحاء العالم. أنا شخصيا أحس بأنهما مختلفان عن غيرهما: إنهما أكثر جدية، وأقل مزاحا، هناك فرق بينهما وبين زملائهما وأصدقائهما. لكنهما لا يريدان الحديث في الموضوع، خاصة باتريك الذي يقول دائما لي: «لا أريد أي دعاية».
* هل يستعملان لقب «أمير، وأميرة»؟
- لا. أنا لم أطلب منهما ذلك، فهما يعرفان خلفيتهما، لكنهما لا يعتبران الألقاب مهمة؛ يقولان: لسنا في السلطة. ولا حكم لنا ولا سلطان، فلماذا الألقاب؟
* وأنتِ، إلى أي حد تشعرين بانتمائك إلى آل عثمان؟
- أكثر من ابني وابنتي بطبيعة الحال. صحيح أن نصفي فرنسي، بحكم أن والدتي فرنسية، لكني أعرف وأحس بأن جدي كان سلطانا على الإمبراطورية العثمانية، وكان كذلك خليفة للمسلمين.
* كيف أثرت الخلطة التركية- الفرنسية على شخصيتك؟
- أشعر أنني قوية التصميم والعناد إلى درجة الحمق تقريبا.
* ماذا تعني لك جذورك العثمانية؟
ـ لا أكذب عليك، أنا تركية عثمانية، لكني لم أولد في تركيا، ولم أعش فيها إلا سنـوات قليلة. لكن والدنا علمنا تراثنا العثماني، ووجوب الافتخار به. والتمسك به. كان يقول لنا دائما: لا تفعلوا ما يسيء إلى اسم الأسرة.
* لكنه لم ينصحكم بالدعاية للأسرة والحديث عنها علنا؟
- لأننا كنا في وضع خاص. خرجنا من تركيا مغضوبا علينـا. وظللنا نخاف الأعداء. ونخاف الاغتيالات.
* بعد حكم عبد الحميد، جـاء عبد المجيد. وقبل عبد الحميد كان هناك سلاطين.. فلماذا يتحدث أحفاد عبد الحميد أكثر من غيرهم عن الموضوع؟
- ليست المسألة حديثنا نحن أكثر من غيرنا، المسألة أننا لا نعيش في تركيا. بعض أحفاد آل عثمان يعيشون في تركيا، ولا يستطيعـون الحديث.
* وماذا عن اختلاط دمكم بدماء غير تركية؟
- عدد قليل من زوجات السلاطين كن من غير الأتراك. كانت هناك سلطانات من الشراكسة ومن الشعوب السلافية، ومن المسيحيات والأديان الأخرى. وهذه ليست مشكلة كبيرة. والدتي فرنسية لكنها ربتنا تربية تركية.
* هل يتجادل بقايا آل عثمان في من هو أحق بالخلافة؟
- لا. بعضنا، كما قلت، في تركيا. ومعظمنا توزع في مختلف أنحاء العالم. هناك اتفاقية غير مكتوبة بأن لا نتجادل في الموضوع. ثم إن هناك جيلا جديدا من أحفاد آل عثمان أقل اهتماما بالموضوع- أولاد عبد الحميد هم فقط الذين يستعملون ألقاب الإمارة.
* ماذا لو عادت الخلافة غدا، مثلا؟
- لا أحد يعتقد أنها ستعود. ربما أولاد وأحفاد رشاد باشا سيقولون إنهم أحق من غيرهم. لكن حتى هؤلاء انتسب معظمهم إلى جنسيات أخرى. أعتقد أن حفيد حفید رشاد باشا يعيش الآن في بريطانيا، ولم يحصل على أي جنسية، وقد يكون أحق من غيره إذا عادت السلطة.
* وجنسيتك أنت وولديك؟
ـ أنا فرنسية الجنسية، وباتريك وكارينا يحملان الجنسية الأميركية. لكن الجنسية لیست مشكلة، إذ يمكن تغييرها إلى تركية إذا سمحت الظروف.
* الأمير أورهان الموجود في فرنسا ظهر اسمه أخيرا في مجلة أميركية على أنه وارث عرش آل عثمان؟
- أورهان ليس حفيد عبد المجيد كما يقول. إنه حفيد جدي عبد الحميد، والده عبد القادر بن عبد الحميد، وهو ابن عم والدي.
* هل بينه وبين والدك منافسة حول أحقية الانتماء إلى آل عثمان؟
- لا. هو كان في الأرجنتين حيث قضى معظم حياته يجري وراء اللهو. ووالدي ظل متشدداً وحريصا على سمعة الأسرة.
القرن المقبل
* ماذا سيبقى لآل عثمان مع مطلع القرن الحادي والعشرين وظهور الجيل الثالث والرابع؟
- سيقل الاهتمام بطبيعة الحال. لهذا ظللت منذ عدة سنوات أرسل خطابات إلى الرؤساء الأتراك للسماح بتدوين تاريخ آل عثمان. كما بدأت أتحدث مؤخرا. وسقوط الإمبراطورية العثمانية يجب أن لا يعني أن نتشتت، ونفقد الصلة ببعضنا البعض، وننكر ماضينا.
* أليس لكم في تركيا أعداء، أو بقايا أعداء؟
- آمل أن يكون الزمن قد أنسى الآخـرين خلافات ومشاكل الماضي. لكننا، بصورة أو أخرى أسرى ماضينا. صحيح أن الخوف قد قل بعد عفو الحكومة التركية عنا، لكن في السنة الماضية نشرت مجلة فرنسية تقريرا عنا، فتلقت شقيقتي في فرنسا خطابات تهديد، لهذا نحن لسنا متأكدين من أن الماضي قد ذهب بلا عودة.
* هل واجهتك مشاكل عندما زرت تركيا؟
- ذهبت بجواز سفر فرنسي وكزوجة لضابط في السلاح الجوي الأميركي. وكنت خائفة رغم ذلك.
* لماذا شقيقك أقـل حـديثــا منـك عن الموضوع؟
ـ هذه عادة شقيقي منذ أن كان صغيرا فهو رسمي جدا، وقليل الحديث. وكلما أحدثه عن الموضوع يقول: «إذا حتم علي واجبي تحمل مسؤولية ما سأتحملها». وهو عنـده ولدان. وربما بعد وفاة والدنا سيشعر بالمسؤولية أكثر.
* هل تتوقعين عودة حكم آل عثمان؟
- لا أعرف. لكنه إذا عاد، فالأفضل أن يعود الجانب الديني منه لا السياسي، فليس هناك ما هو أهم من وحدة كلمة المسلمين. إن أعداءنا يريدون لنا القهر والخنوع. والحرب العراقية- الإيرانية، وفقدان فلسطين أهم مثال.