لم تكشف الحرب الروسية على أوكرانيا المتواصلة لحد الآن عن إخفاق نظام الأمن الجماعي الدولي، وقصور الأدوات والقنوات الدبلوماسية في احتواء وتسوية القضايا الدولية الشائكة فحسب، ولكنها كشفت أيضا انعدام نظام أمن غذائي عالمي مشترك، ناهيك عن هشاشة الوضع الغذائي للعديد من دول العالم، التي اتضح مدى اعتماد مائدتها على استيراد عدة أنواع من الحبوب والزيوت النباتية من كل من روسيا وأوكرانيا إلى جانب اعتماد بعض الدول على استيراد الأسمدة الروسية اللازمة لتخصيب التربة بغية تطوير مردود إنتاجها الزراعي.
وحسب إحصائيات صادرة عن منظمة الأغذية والزراعة (FAO)، فإن هذه الحرب، التي لا تلوح في الأفق بوادر انتهائها، رفعت معدلات انعدام الأمن الغذائي في العالم إلى مستويات قياسية وصلت إلى نسبة22.8 في المائة في أفريقيا حيث إن معظم الدول فقيرة، وأكثر من 9 في المائة في كل من آسيا وأميركا الجنوبية، حيث يوجد عدد لا بأس به من الدول الفقيرة، مقابل مستوى متدنٍ بتجاوز بقليل نسبة 1 في المائة في كل من أوروبا وأميركا الشمالية، التي لدى بعض بلدانها وفرة في الإنتاج الزراعي تفيض عن حاجتها.
ويرجح وفقا لنفس الإحصائيات أن ترتفع نسب الفقر مع الارتفاع المتواصل في فواتير استيراد المواد الغذائية التي يقدر أن تصل في نهاية سنة 2022 إلى تريليون و800 مليار دولار على مستوى العالم بزيادة قدرها أزيد من 50 مليار دولار عن سنة 2021، وأنها ستكون أشد وطأة على اقتصاديات الدول الأشد فقرا المضطرة إما إلى الاقتراض لزيادة الدعم للمواد الغذائية المستوردة مع ما لذلك من ضغط على ميزانياتها، ومن انعكاسات سلبية على مديونيتها وأعباء فوائدها، أو إلى السماح برفع الأسعار وتحمل تبعات ما تحدثه من تضخم، ومن تأثير سلبي على معيشة أغلب السكان، الذين بات معظمهم يخصص نسبة هامة من دخله المحدود لتأمين غذائه على حساب باقي متطلبات الحياة من سكن وصحة وتعليم وغيرها.
وتندرج معظم الدول العربية ضمن قائمة الدول التي تعاني عجزا غذائيا مزمنا حتى في ظل أوضاع طبيعية وخاصة في المواد الأساسية كالحبوب بمختلف أنواعها والقطاني والزيوت النباتية، عجز يناهز سنويا في المتوسط العام نسبة الخمسين في المائة من احتياجاتها الضرورية التي هي ملزمة اجتماعيا وأمنيا بتوفيرها، ودعم أسعار معظمها المرتقب تضاعفها مستقبلا.
والواضح من الكثير من الخطوات التي اتخذتها معظم الدول العربية أنها مستعدة لتأمين غذاء شعوبها، وبذل المزيد من الجهود المالية لدعم أسعار الكثير من المواد المستوردة الضرورية للمائدة العربية، ولكنها تخشى جميعا حدوث توقف كامل لتصدير هذه المواد، وخاصة من روسيا وأوكرانيا مع استمرار الحرب، وما تفرزه من تخوفات وجيهة من احتمال استخدام المواد الغذائية كسلاح أثبت في الكثير من المناسبات فعاليته.
إن التأكيدات الروسية المتتالية على عدم وجود نية لدى موسكو لاستخدام المواد الغذائية المستوردة منها ومن أوكرانيا كسلاح لتطويع مواقف بعض الدول أو لتحييدها لم تبدد الخشية الدولية من اللجوء إلى هذا الإجراء، خاصة إذا ما استمرت الحرب واضطرت موسكو إلى استعمال كافة أوراق قوتها لمنع مواصلة ما تعتبره مستنقع استنزاف لها. ومن البديهي أن ينظر إلى حصار الموانئ الأوكرانية في بداية الحرب، وتوقف التصدير حينها، وعدم انتظامه الآن كدليل جدي على صحة هذه الخشية.
علاوة على ذلك، فإن روسيا لديها من تجارب وتصريحات وتقارير بعض الدول المعادية لها الكثير من المبررات التي يمكن تسويقها لتبرير خطوة كهذه. فهي بالتأكيد تتذكر التقرير الذي أعدته وكالة الاستخبارات الأميركية سنة 1974 لوزير الخارجية آنذاك هنري كيسنجر بمناسبة انعقاد المؤتمر العالمي للأغذية، والذي أكد على أن «..نقص الحبوب في العالم من شأنه أن يمنح الولايات المتحدة الأميركية سلطة لم تكن تملكها من قبل... سلطة تمكنها من ممارسة سيطرة اقتصادية وسياسية تفوق تلك التي كانت تمارسها في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية»، كما تتذكر تصريحا لافتا للرئيس غيرالد فورد، الذي جزم بأن «... الترسانة الأميركية تضم سلاحا ذا فعالية خاصة.. إنه الغذاء».
ولا شك في أن العرب واعون بإمكانية استخدام الغذاء كسلاح، ومدى التأثير السلبي، لذلك عليهم ولو بطريقة غير مباشرة، فهم يتذكرون أيضا أن بعض دولهم استخدمت من قبل حظر البترول (وهو أيضا مادة أساسية وحيوية للتطور البشري) كسلاح عندما قامت بحظر تصديره لدول كانت داعمة لإسرائيل ومتبنية أو متفهمة لمواقفها إبان حرب أكتوبر (تشرين الأول) 1973.
لهذا، وتحسبا لأي تطورات سلبية لم يكن مفاجئا أن تبادر الدول العربية إلى تكثيف اتصالاتها في السوق الدولية بغية زيادة كميات مخزونها من الحبوب والزيوت، وإلى مضاعفة الحجم المالي المرصود لدعم أسعارها، ناهيك عن التطوير المستمر لآليات توزيع المواد الغذائية وإيصالها إلى المستهلكين في أحسن الظروف وفي الوقت المناسب.
ورغم فعالية هذه الإجراءات، فقد بدت غير كافية لتبديد هواجس الرأي العام العربي، الذي يأمل في اتخاذ إجراءات أكثر أمانا من قبيل:
* إعادة النظر في السياسات الزراعية لعدد من الدول التي انخرطت في التقسيم الدولي للإنتاج فاستبدلت زراعة الحبوب التي تؤمن لها الاكتفاء الذاتي من مادة حيوية لغذاء شعوبها بمنتجات من الفواكه مستنزفة للفرشة المائية تلبي حاجيات السوق الدولية أكثر.
* الاستثمار العربي المشترك في استصلاح واستغلال الأراضي الزراعية الوافرة، بالتركيز على المواد الضرورية للمائدة العربية دون غيرها.
فهل نستوعب أن الوجود الإنساني على الأرض تميز تاريخيا بالركض الدائم وراء الغذاء، وأن في تأمينه استمرارا للحياة وضمانا للبقاء؟