بيروت: لا فرق بين البحر والبرّ في لبنان، الغارق كما شعبه، بالديون والأزمات، فبصيص الأمل معدوم فيه، بعد أن استحكمت به القيود من كل الجبهات، فحاصرت البلاد كما العباد بأغلال كبّلته وحالت دون سلوكه طريق الخلاص
.
بات البحر ملاذ مئات آلاف اللبنانيين بحثاً عن فرصة حياة أفضل، هرباً من جحيم يحرقهم بنيرانه التي يؤجّجها انعدام الحلول لمشاكلهم المعيشية، فينشدون طريق البحر نحو الرحيل بعيداً عن موت بطيء اختبروه في طوابير المحروقات والخبز والدواء، كما في الحصول على تأشيرة سفر أو هجرة قانونية.
تحوّل لبنان إلى أرضية خصبة لنمو الهجرة غير الشرعية في ضوء الأزمات التي يمر بها ولامبالاة المسؤولين، بعد أن وصلت الأمور إلى حدّ لا يمكن التكهّن به في المستقبل القريب، مع انعدام فرص العمل، وتراجع قيمة الأجور والانهيار المستمر على مختلف المستويات.
لم تلجم الحوادث المتكررة، وآخرها ما بات يُعرف بـ«مركب الموت» قبالة الشاطئ الطرابلسي، من ازدهار موسم الهجرة غير الشرعية خلال فصل الصيف، ففي الوقت الذي تم فيه استقدام غواصة للبحث عن ضحايا المركب الذي كان يحمل أكثر من 80 شخصاً وغرق في 23 أبريل (نيسان) الماضي وبقي ما يزيد على 30 شخصاً من ركابه في عداد المفقودين، غادرت حديثاً مراكب صيد أسماك غير مجهزة للإبحار البعيد، عددها 2 أو 3، من مواقع عدّة من الشاطئ شمالاً وعلى متن كل منها أكثر من 40 شخصاً بينهم رجال ونساء وأطفال من بلدات عكارية وشمالية، بالإضافة إلى سوريين وفلسطينيين.
بين أمل المحاولة ورفض الموت البطيء، يختار اللبنانيون فرصة يجدون فيها طوق نجاة من ضيق الأفق جراء تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية المتواصل، وارتفاع معدّلات البطالة والفقر، المصحوبة بخيبة أمل من خرق في جدار الأزمة.
من هذا المنطلق، تتزايد محاولات الهجرة غير الشرعية باتجاه عدد من الدول الأوروبيّة، على الرغم من المخاطر التي قد تصل إلى نتيجة الموت، وتتكرّر المحاولات، بعد وصول بعض المراكب إلى بر الأمان ونجاح من فيها بالعبور نحو وجهة حلمهم، لتكون عنصر تحفيز لمن بقي في البلاد إلى اتخاذ الخطوة المصيرية والإقدام على رحلات مماثلة.
يبيعون ما يملكون بحثاً عن فرصة حياة
تدفع الأزمة الاقتصادية المتفاقمة العديد من اللبنانيين إلى سلوك طريق الهجرة غير القانونية، فهم باتوا يرون فيها الأمل الوحيد لحياة أفضل، على الرغم من خطورتها، فيعمدون إلى بيع كل ما يملكون هرباً من الواقع المأزوم، وسُجل الأسبوع الماضي وصول عدد من أهالي عكار والبداوي إلى إيطاليا، بعد أن مكثوا نحو أسبوع في البحر.
ووفق ما أكده الباحث في «الدولية للمعلومات» محمد شمس الدين لـ«المجلة» فإن «نسبة الهجرة غير الشرعية ارتفعت، ولا يمكن تحديد النسبة، كما أن تكلفة الرحلة تختلف بين فرد واحد وعائلة مجتمعة، ولكن بالإجمال تتراوح بين 1500 و2000 دولار أميركي للفرد».
وبحسب الدراسات، فإنه في ضوء الأزمة التي يمر بها لبنان، برز سعي آلاف اللبنانيين للبحث عن فرصة حياة أفضل في ظل صعوبة الحصول على تأشيرة سفر أو هجرة قانونية، وعمد الكثيرون إلى الهجرة غير الشرعية مباشرة من لبنان أو عبر إحدى الدول التي يمكن للبنانيين الدخول إليها من دون تأشيرة سفر (إندونيسيا، ماليزيا، تركيا، قبرص التركية).
شهدت السنوات الماضية 5 حوادث أدت إلى وفاة وغرق 51 شخصاً معظمهم من عكار وطرابلس، كما أن هناك العديد من الرحلات أوقفتها القوى الأمنية المحلية وآخرها إحباط عملية في منطقة المنية حيث تم توقيف 30 شخصاً وتحويلهم للتحقيق، مع تسجيل توقيفات من قبل سلطات الدول التي وصل إليها المهاجرون من دون تعرضهم لحوادث غرق وموت.
من لا يصادفه الحظ، لا يتوانى عن تكرار المحاولة مرات عدّة، غير آبه بحجم الخطر الموجود في البحر، وسط تأكيدات بأن المهرّبين المعروفين يواصلون عملهم، بدليل زيادة في عدد المغادرين بطرق غير شرعية، منذ ما بعد ثورة 17 أكتوبر (تشرين الأول)، إذ سجل العام 2021 خروج نحو 38 قارباً على متنها أكثر من 1500 شخص، تمت إعادة أكثر من 75 في المائة منها، في حين غادرت الشواطئ اللبنانية في العام 2022 حوالي 4 قوارب، لتكون الكارثة الأكبر في 23 أبريل (نيسان)، تاريخ وقوع الحادثة التي عرفت بغرق زورق الموت.
«مافيا» تتحكم بالطموح.. والأرواح!
ارتفع منسوب التشاؤم في بلد يغرق في أتون أزمات عصيّة على الانتهاء بحكم سلطة تمعن في استنزاف الوقت على حساب الناس، فيما ركائز الدولة تتفكّك بعل سوء الإدارة وعجز المسؤولين عن لجم الانحدار الناتج عن ممارساتهم الفاسدة.
أضحى أقصى طموح الشباب اللبناني، نتيجة الأوضاع الكارثية التي تمر بها البلاد، هو الهجرة بعد أن انعدمت كل السبل بالتغيير نحو الأفضل، وبحسب ما أوضحه الباحث السياسي والخبير في موضوع الهجرة غير الشرعية شادي نشابة لـ«المجلة» فإن «السبب يعود إلى وجود العديد من المقومات التي ساهمت في ذلك، ومنها فقدان الحوكمة أو الدولة، بالإضافة إلى الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي تجتاح البلاد، من دون إغفال أنه من بعد الأزمة السورية التي بدأت في العام 2011 بحوالي ثلاث سنوات، بدأ موضوع قوارب الموت يزداد بشكل كبير».
ولفت إلى أنه «خلال السنتين الماضيتين، وجرّاء الأزمة السياسية التي عصفت بلبنان، أصبح حلم كل شاب لا يستطيع تأمين مستقبله في البلد وغير قادر على تحقيق طموحه في البلد، الذهاب إلى بلد ثانٍ كي يستطيع أن يرسم مستقبله، ومن هذا المنطلق تنامى الموضوع وبات يكبر أكثر فأكثر».
وجزم نشابة بأنه «من المؤكد أن هناك مافيا تدير هذا الموضوع وتُسهّل خروج الشباب أو العائلات بقوارب الموت، ولكن هذا لا ينفي أن هناك عوامل داخلية موجودة تدفع الشباب إلى أن تخاطر بحياتها، على الرغم من حصول العديد من الحوادث، وآخرها حادثة قارب الموت في طرابلس».
وأشار إلى أنه «على الرغم من المآسي المتكررة وحجز بعض المراكب في تركيا وسجن الشباب وغرق ومكافحة أخرى من قبل السلطات اليونانية، فلم تتراجع الرحلات التي تصل تكلفة
الشخص فيها أحياناً إلى نحو 4 آلاف دولار»، مشيراً إلى أن هناك العديد من العائلات باعت الذهب الذي تملكه نساءها ومستلزماتها المنزلية، وهناك البعض منهم قام باستدانة المال للذهاب إلى الخارج بغية العمل، وهناك فئة قامت بجمع المال من أجل القيام بتلك الخطوة التي تساعدها على تحقيق حلمها خارج لبنان».
وأوضح نشابة أن «هناك عائلة من الطبقة المتوسطة نجحت في الخطوة وأصبحت موجودة في ألمانيا، بعد أن تخوّفت من أن تصبح طبقة فقيرة نتيجة الأوضاع الاقتصادية التي تمر فيها البلاد، فقررت المخاطرة واستقلّت قوارب الموت بغية تأمين مستقبل أولادها».
أما فيما يتعلق بنسبة زيادة أرقام الطامحين لتلك الهجرة بعد الأزمة الاقتصادية التي بدأت في العام2019، فقد أكد نشابة أنه «لا توجد إحصاءات دقيقة في هذا الموضوع، ولكن الرحلات تتكثّف من يوم إلى آخر، فهناك حوالي 50 أو 60 شابا من منطقة أو أخرى يتوجهون بقوارب الموت»، لافتاً إلى أن «الأمر لم يبدأ خلال سنوات الانهيار، بل من بعد الأزمة السورية، إذ إن هناك الكثير من اللبنانيين توجهوا مع السوريين في قوارب الموت ما بين 2012 و2013».
وأوضح أن «في لبنان هناك فقر مدقع، فقد ارتفعت النسبة من 30 في المائة ما بين عامي 2014 و2015 لتصبح أكثر من 60 في المائة بعد الأزمة الأخيرة، وهذا الواقع أدى إلى زيادة أعداد الراغبين في عبور البحر حيث لا حاجة إلى تأشيرات ومعاملات وغيرها من أمور التدقيق التي تحتاجها الهجرة الشرعية»، مشيراً إلى أن «الطبقة الوسطى أصبحت فقيرة والطبقة الفقيرة أضحت ترزح تحت خط الفقر المدقع بحكم الممارسات السياسية وعدم وجود حكومة وقيادة، وهذه كلها عوامل مساعدة تدفع باللبنانيين إلى التوجه لهذا البديل».
لا يمكن وفق نشابة تحديد أرقام دقيقة عن الهجرة غير الشرعية، إذ لا يتم رصد الحركة بشكل واضح كما في المطار، ولكن الأكيد أنه يتم تسيير رحلات أسبوعية، وهناك مراكب لا يتم توقيفها من قبل السلطات البحرية في البحر، وهناك قوارب تدفع المال لبعض القيادات الأمنية في المخافر البحرية لكي يتم تسهيل أمورها وتسيير نقل الهاربين».
من المؤكد، أن النسبة الأكبر من اللبنانيين، وهم فوق الـ60 في المائة يرزحون تحت خط الفقر ويعيشون في سجن كبير اسمه لبنان، وهم لم ولن يتوانوا عن السعي إلى الولوج خارج بقعة لم تعد المأمن والأمان لهم، بعد أن استحكم الفساد بمرافق الدولة، فوقعت في قبضة سلطة نهبت خزائنها وسلبت شعبها الحق في الحياة.