منذ بداية حياة البشر على وجه الأرض وهم لا يتوقفون عن التنقل من مكان إلى آخر، حيث تسري في أعماق أغلبنا لهفة التطلع إلى آفاق جديدة.
تزداد أعداد البشر الذين يفكرون في مغادرة محل ميلادهم والانتقال إلى قارة جديدة. عندما يقررون القيام بهذه الخطوة الكبيرة في حياتهم يتركون كل شيء خلفهم في مغامرة تنقلهم إلى عالم جديد. في مطلع القرن التاسع عشر، كانت الهجرة في الغالب قراراً يؤثر على حياة المسافر بالكامل، ولكن اليوم يستطيع المرء أن يعود أدراجه إلى موطنه الأصلي في غضون ساعات. تختلف الأسباب التي تدفع الناس إلى قرار السفر إلى الخارج بطبيعتها، وتتفاوت تبعاً لاختلاف الظروف. ربما يبحث البعض عن التغيير أو عن تحدٍ في الحياة، أو فرصة مهنية، أو للحاق بحبيب. ومن جهة أخرى ربما يُجبر آخرون على الفرار من بلادهم بسبب الظروف الصعبة أو تهديدات وجودية مثل الحروب أو أسباب اقتصادية أو سياسية أو دينية، فهم حينها يبحثون عن مكان آمن.
وهنا أود أن أقدم لكم قصة الفتاة الأسترالية إيفي، التي تركت وطنها في عمر الحادي والعشرين. وكانت سلسلة من الأحداث التي بدأت منذ مولدها هي السبب في انتقال إيفي إلى الناحية الأخرى من العالم والقدوم إلى لندن.
ولد والد إيفي في أيرلندا الشمالية مواطناً بريطانياً، ثم هاجر إلى أستراليا مع والديه وشقيقاته الخمس في السبعينات من القرن الماضي. وهذا ما جعل رحلة إيفي إلى أوروبا مباشرة ومرنة مقارنة بما يجده كثيرون، إذ إنه كان من حقها الحصول على الجنسية البريطانية حتى قبل أن تطأ قدمها المملكة المتحدة.
أمضت إيفي ما يطلق عليه الآن «سنة التفرغ» في تدريس اللغة الإنجليزية في وسط الصين، لتعود بعد ذلك بعام. وبسبب شعورها بعدم اليقين بشأن مستقبلها وعدم معرفة ما هي خطوتها القادمة، شعرت برغبة قوية في السفر وخوض المغامرة، وأرادت تلبيتها.
قابلت إيفي صديقاً اعتاد قضاء فصول الصيف في ممارسة التزلج في النمسا والسفر عبر أوروبا ثم العودة في موسم التزلج الأسترالي (معلومة: تستقبل أستراليا من الثلوج كمية تفوق ما تستقبله سويسرا). لذلك قررت إيفي تجربة قضاء موسم التزلج في النمسا أيضاً. وبعد انتهاء الموسم، سافرت إلى لندن لزيارة صديقة طفولتها التي كانت قد أنهت برنامجا تبادليا في أسبانيا وكانت تعيش مع أبناء عمومتها البريطانيين. كانت خطة إيفي أن تجد وظيفة مكتبية مؤقتة لتدخر المال الذي يساعدها في زيارة المزيد من الدول الأوروبية. وخرجت الصديقتان معاً في عدد من الرحلات القصيرة، ولكن سريعاً ما وجدت قيمة الدولار الأسترالي يتضاءل مقارنة بالجنيه الإسترليني، ووجدت نفسها تبحث عن وظيفة ثابتة. أحياناً ما تحمل لنا الحياة ترتيباً مختلفاً. وجدت إيفي وظيفة مبتدئة في أحد المكاتب. وكما تروي مبتسمة: «بعدها بفترة وجيزة، قابلت زوجي... وأصبح لدي ثلاثة أبناء وحيوان أليف... وبعد مرور 16 عاماً أصبح كل شيء آخر ماضياً».
عندما سألتها عن شعورها وقتما كانت في الطائرة القادمة من بريسبان قبل عشرين عاماً تقريباً، قالت إنها كانت متحمسة للقاء صديقتها. وأضافت: «أذكر أن صورة لندن المسبقة في ذهني كانت تشبه كل ما شاهدته في الأفلام.. دب بادينغتون وقصر باكنغهام وشرطيون بقبعاتهم وجسر لندن (الذي اتضح أنه ليس الجسر الجميل المقصود ولكن جسر تاور)».
ولكن كان تصورها الشاعري عن إنجلترا مختلفا قليلاً عن الواقع. عندما نزلت إيفي من الطائرة كان أول شيء لاحظته هو وجود الشرطة في كل مكان حاملين بنادق آلية. كان ذلك في مطلع عام 2006، بعد تفجيرات لندن 2005 بفترة وجيزة، لذلك كان الجميع في حالة تأهب قصوى. كان الأمر مرهقاً لها في البداية. أخبرها جداها أن لا تستقل الحافلة أو مترو الأنفاق، وهو ما علمت سريعاً أنه مستحيل تماماً فهما وسيلتا الانتقال الرئيسيتان في لندن.
وعندما سألتها عما كانت تأمل أن تراه في أوروبا، قالت إنها كانت تأمل أن تستمع بوقتها وكسب بعض المال وتجربة كل شيء ممكن في لندن. وجدت أن تكاليف لندن حينئذ باهظة على نحو لا يُصدق، لذا شعرت ببعض الإحباط في البداية. «بالتأكيد استغرقت بعض الوقت حتى أتأقلم. كنت فتاة أسترالية صغيرة وساذجة، وعندما أستعيد ذكرياتي أرى أني كنت أشعر ببعض الاستحقاق في توقعاتي. وعلى الرغم من أني كنت أتحدث نفس اللغة، وأن الثقافات بها بعض أوجه التشابه، توجد في بعض الأحيان تفاصيل دقيقة يمكن أن تحتاج إلى أعوام حتى ترصدها وتحددها بدقة».
وفي مطلع صيف 2022، اتخذت حياة إيفي التي خططت لها مساراً غير متوقع على الإطلاق. تقول إيفي: «إذا كنت منفتحاً على ما تقدمه لك الحياة، فلن تشعر بالإحباط أبداً». وأضافت: «أقول إن أحلامي تتغير باستمرار ولا حدود لها».
بعد أن بنت حياتها في لندن على مدار 16 عاماً وأنجبت أبناءها الثلاثة في واحدة من أكبر مدن أوروبا، وحصلت على حياة سعيدة متوازنة في لندن على الرغم من الفوضى، قررت إيفي وأسرتها أن الوقت حان للقيام بتغيير آخر. هذه المرة بالعودة إلى الوطن.
ساهمت عوامل عديدة في اتخاذ الأسرة قرار العودة إلى أستراليا. توجد أغنيات كثيرة جداً تشير إلى أن أستراليا مكان يوصف بالوطن على الدوام، مهما كان موقعك في العالم. يصف كثير من الأستراليين السفر إلى الخارج لفترة ما بـ«طقس المرور». لا يبقى جميعهم فترة طويلة في الخارج كما فعلت إيفي، ولكن إذا سبق أن أمضيت وقتاً في «وطن» آخر بعيداً عن وطنك الأصلي بما يكفي لإقامة روابط قوية معه، سوف تعرف ذلك الشعور بأن تترك نصف قلبك في مكان آخر للأبد.
لم يكن القرار سهلاً بالطبع، ولكن إيفي وزوجها درساه جيداً ووضعا في اعتبارهما أعمار أبنائهما والمناخ السياسي والاقتصادي وبالطبع تقدم عمر آبائهما.
بعد أن مر الجميع بتجربة جائحة كورونا الذي اشترك فيه العالم كله، نستطيع أن نفهم تلك اللحظة التي يعيد فيها المرء تقييم حياته. أدرك البعض أنهم في حاجة إلى تحقيق توازن بين العمل وحياتهم الشخصية، واكتشف آخرون قيمة وجود مساحة خارج المنزل، واشترى البعض حيواناً أليفاً كانوا يرغبون فيه منذ فترة طويلة... «قررنا تنفيذ شيء ما تحدثنا عنه من قبل ولكن أجلناه لسنوات طويلة».
لم يكن الاستعداد لمغادرة لندن أمراً بسيطاً يمكن فعله على عجالة. تذكر إيفي: «لدينا مقتنيات العمر في هذا البيت. إنه المنزل الذي عدنا إليه بأبنائنا الثلاثة من المستشفى». كانت تذاكر الطيران الخمس مجرد قمة الجبل الجليدي. كان عليهم أن يقرروا ما يرغبون في الاحتفاظ به، وما يتبرعون به وما يشحنونه وأن يجدوا شخصاً ينتقل إلى منزلهم في لندن وأن يجدوا بيتاً يستقبل حيوانهم الأليف ذا الخمسة أشهر. واحتاجت الأمور اللوجيستية إلى جهد كبير في حد ذاتها. وبمجرد أن حجزت الأسرة تذاكر الطيران، بدأت إيفي ببطء لم يخل من الحسم في التعامل مع غرفة تلو الأخرى. كان عليها في بعض الأحيان تجنيب عاطفتها من أجل التخلص من جميع الأشياء التي كانت في حوزتهم على مدار أعوام لتيسير عملية حزم الأمتعة. واستعانت الأسرة بشركة لتعبئة كل شيء بعد ذلك.
كل هذا بخلاف الاستعداد النفسي الذي كان أصعب جانب على الإطلاق.. كان وداع الأصدقاء والمعارف مؤلماً بشدة. قالت إيفي مستغرقة في التفكير: «أذكر أننا في الأسابيع السابقة لرحيلنا مباشرة، لم يمر علينا يوم من دون أن أتساءل إذا كان ما نفعله هو الصواب. كان علينا أن نودع المدرسة الرائعة التي ارتادها أبناؤنا، وتوديع جميع أصدقائهم وأولياء أمورهم المذهلين الذين نشأوا بالقرب منهم. كذلك ودعنا أصدقاءنا الذين أمضينا معهم كل أعوامنا في لندن حتى أصبحوا كالعائلة. ودعنا زياراتنا إلى جيراننا الودودين بعد المدرسة، ولقاء العائلات الأخرى في المتنزه. كان ذلك يشبه الحلم».
وبمشاعر تجمع بين الحلاوة والمرارة، أضافت إيفي: «عندما تغادر وتودع كل شيء، تجد نفسك محاطاً بالدعم والحب، وهذا ما تصحبه معك أينما تذهب، تحمله في قلبك وتلك السعادة تطمئنك بأنك ستصحبها معك».
وصلت إيفي وزوجها وأبناؤها الثلاثة بخير إلى أستراليا البعيدة.. «لا نزال في بداية الاستقرار، ولم أتعرف على مشاعري حيال الوجود هنا. أستمتع بأيامي الأولى، وأتعرض للعديد من الصدمات الثقافية المغايرة».
من حسن الحظ أنه بفضل التكنولوجيا الحديثة، تبدو أستراليا وأوروبا متجاورتين عند إجراء مكالمة فيديو عابرة للقارات. يستطيع بعض الناس، بغض النظر عن الفترة التي يقضونها معاً، أن يلمسوا القلب ويظلوا على تواصل إلى الأبد. كذلك الأمر مع الأوطان... ولا يوجد مكان يشبه الوطن.