إن تنامي وتنوع التفاعلات والتشابكات في العلاقات الدولية، وما نجم وينجم عنهما من تباين وتضارب بين مصالح الدول، أحدث في الكثير من الحالات توترات سياسية ودبلوماسية وإعلامية انتهى بعضها إلى نشوب نزاعات مسلحة، كان من الممكن تلافيها أو احتواؤها قبل استفحالها لولا القصور الواضح الذي بات يعتري قواعد النظام العالمي الراهن، التي بدت عاجزة ومشلولة في مناسبات عديدة.
ولا شك في أن هذا القصور كان أحد أسباب تكاثر وتناسل الأزمات والاضطرابات على الصعيد العالمي، والتي أخفق النظام الدولي القائم في كل من شقه الاقتصادي والتجاري رغم عولمتهما، وكذا في الشق المتعلق بالأمن الجماعي عن إيجاد تسويات مرضية لها أو على الأقل الحد من تداعياتها وحصر تمددها، كما يتبين ذلك من استمرار كل بؤر الاحتكاك والتوترالمعروفة دوليا.
ولهذا لم يعد الحديث عن حاجة الوضع الحالي للعلاقات الدولية إلى نظام عالمي جديد حبيس مؤتمرات ومنتديات المنظمات الدولية، والكواليس الدبلوماسية، بل غدا متواترا في وسائل الإعلام العالمية التي تتناوله كخبر يثار هنا وهناك، ومن هذا الطرف أو ذاك، وفي المجلات والدوريات الأكاديمية المتخصصة التي تناقشه في دراسات علمية تختلف من باحث لآخر حسب توجهاته الفكرية والسياسية، وانتمائه الوطني أيضا.
ويعود تواتر الحديث عن هذا الموضوع إلى الإدراك المتزايد بأن العلاقات الدولية المبنية أساسا على محاولة كل دولة تغليب وتعظيم مصالحها الذاتية هي مجموعة تفاعلات وتعاملات غير ثابتة ولا ساكنة أبدا، ولكنها متحركة ومتغيرة تنتعش تارة وتنتكس تارة أخرى بحسب تبدل المصالح، واختلاف الرؤى، وتغير الأنظمة الحاكمة، ناهيك عن اختلال موازين القوة.
ورغم أن هذا الإدراك ليس جديدا، وأن مساعي إقرار نظام عالمي جديد برزت قبل عقود خاصة من طرف حركة عدم الانحياز، التي اعتادت المطالبة بمراعاة المتغيرات العديدة التي عرفتها ساحة العلاقات الدولية على مدى سنوات طويلة، فإن القوى العظمى التي أوكلت إليها مسؤولية الحفاظ على الأمن والاستقرار الدوليين رفضت كل محاولات تعديله أو تطويره أو المساس بنظام القطبية الثنائية الذي ميز تلك الفترة، بل إن القوة المنتصرة في الحرب الباردة تشبثت بأحادية القيادة، رافضة إشراك الآخرين في تسيير الشؤون العالمية إلا بضوء أخضر منها، وبما يراعي مصالحها.
وبديهي أن يستمر ذلك الوضع ما دامت المتغيرات التي عرفتها بعض أوجه العلاقات الدولية ذات طابع كمي فقط والأزمات والاضطرابات الناجمة عنها محدودة، وهوامش مناورة التعامل معها وفقا لقواعد النظام العالمي الحالي كبيرة. ولكن حصول متغيرات نوعية عديدة على الصعيد الاقتصادي كبروز القوة الاقتصادية والمالية والتكنولوجية للصين ومزاحمتها للهيمنة الأميركية أو على الصعيد الاستراتيجي مثل إقدام روسيا على خطوات عسكرية متعددة ضد كل من جورجيا وأوكرانيا دفع في اتجاه تصاعد وتيرة المطالبة بإعادة النظر في قواعد النظام العالمي بعد تزايد حالات تحديها وتجاهلها، وكذا في اتجاه ارتفاع نبرة الحديث عن الموضوع من عواصم وازنة ومؤثرة في الساحة الدولية.
في هذا السياق لم يجد الرئيس الأميركي بدا من إثارة الموضوع في اجتماع عقده في شهر أبريل (نيسان) 2022 مع قادة الأعمال من رؤساء كبريات الشركات الأميركية الواسعة الانتشار دوليا، إذ أشار إلى أن نظاما عالميا جديدا سيعقب الحرب الروسية على أوكرانيا، ولكنه شدد على ضرورة أن تسعى أميركا إلى تولي قيادته من خلال توحيد قوى بقية العالم الحر معها، تماما كما حصل في أعقاب الحرب العالمية الثانية.
ولم يتأخر الرد الصيني على هذا الموقف الأميركي كثيرا، إذ دعا الرئيس الصيني في منتدى بوآو السنوي لدول آسيا في أبريل (نيسان) 2022 إلى رفض ما سماه «هياكل القوة المهيمنة في نظام الحكم العالمي»منتقدا تبني واشنطن لرؤية مغلوطة تقسم العالم إلى معسكرين متعاديين لا يمكن التوفيق بينهما هما معسكر الديمقراطيات ومعسكر الأنظمة الاستبدادية، ومؤكدا على ضرورة إصلاح النظام العالمي ليعكس بصورة أفضل رؤى وقيم كافة أعضاء المجتمع الدولي، وليس فقط تلك التي تخص بعض الدول الكبرى، مشددا على أن«العالم يريد العدل لا الهيمنة».
وإذا كانت الدعوات الصينية لتغيير النظام العالمي القائم حاليا لم ترتفع إلا في السنوات الأخيرة، فإن المطالبة الروسية بذلك تعود إلى حوالي 15 سنة حين خاطب الرئيس بوتين مؤتمر ميونيخ للأمن سنة 2007 منتقدا بشدة نظام الأحادية القطبية، مشيرا إلى أنه مهما تم تجميله فهو يعني «مركزا واحدا للسلطة، مركزا واحدا للقوة، مركزا واحدا لاتخاذ القرار. إنه عالم السيد الأوحد».
وبعد أن أكد على أن هذا النظام «مدمر ليس فقط لأولئك الذين يوجدون في إطاره، بل للسيد نفسه لأنه يقوضه من الداخل»أوضح أن قضايا الأمن العالمي أوسع بكثير من مشاكل الاستقرار السياسي والعسكري، إذ تشمل ثبات الاقتصاد العالمي، والتغلب على الفقر وتنمية الحوار بين الحضارات، محملا الدول الغربية بقيادة أميركا مسؤولية السعي إلى فرض معاييرها الخاصة على بقية العالم.
ومما يبدو فإن الدبلوماسية الروسية على هدي هذا الخطاب لا تفوت أي فرصة لتأكيد ثوابت موسكو في العلاقات الدولية المتمثلة فيما تسميه «العمل من أجل تعزيز المساواة السيادية بين الدول... والتعاون على أساس توازن المصالح»، وفي أن عالما متعدد الأقطاب من شأنه مساعدة الدول في الحفاظ على هويتها، والتمسك بالقيم الروحية والأخلاقية التي بلورتها البشرية على مدى آلاف السنين.
تمر العلاقات الدولية حاليا بمرحلة تحول عميقة قد تتمخض عن نظام عالمي جديد لا أحد يستطيع تحديد معالمه الآن، ولكن الجميع يأمل أن لا يكون كمخاض الجبل الذي ولد فأرا.