مع تطورالعولمة وشيوع وسائل التواصل الاجتماعي التي عقدت الحياة وأصبح الإنسان فريسة لضغوطات غير منظورة تنهش في عقله وتدمر وجدانه وتشوش أفكاره إلا من عصم ربك بغذاء روحي يقي العقل من الزيغ والنفس من الانحطاط عندما تتمكن الغرائز من العقل والقلب.
وهنا يأتي دور الدين الحاسم في وقاية النفس من الآفات والقلب من العمى عن نعم الله التي سخرها الله لعباده. ولأن الإنسان خلُق في كبد فلم يكن غريباً أن تتحول العبادة إلى عادة ليفقد الدين تأثيره على القلوب ويفقد الإنسان سعادته التي يوفرها له الدين على هيئة سلام نفسي ولذا فمنذ قديم الأزل يبحث الإنسان عن الهدى الذي وفرته له الأديان السماوية وعلى رأسهم الدين الإسلامي الحنيف الذي جمع فأوعى كل شيء يحتاج إليه الإنسان لغذائه الروحي لما فيه من إجابات متنوعة لما يحتاجه الإنسان من عقيدة وفقه وقصص وسيرة وأخلاق وسلوكيات. ثم لحقتهم الفلسفة بحكم الفتوحات والتوسع ودخول الأعاجم للإسلام ولأن التصوف هو الأقرب إلى الدين الشعبي لسهولته فى مخاطبته للعاطفة مما جعلهيحتوى على شوائب بعضها أقرب للكفر وهو ما عرفه ابن تيمية بالشعبذة
وللحق فإن الصوفية تضرب جذورها في التاريخ الإسلامي لعهد النبوة فكان هناك أهل الصَفة الذين طلقوا الدنيا بالثلاثة وهذه هي حقيقتهم بصرف النظر عن الأساطير التي تحيط بهم ومن أمثلتهم أويس القرني، وأبو ذر الغفاري، وأبو الدرداء الذي أحب الموت اشتياقا لربه، وأحب الفقر تواضعا، وأحب المرض تكفيرا عن خطاياه. ومع توسع الدولة الإسلامية ظهر التأثير الإيراني مما ربط بعض الصوفية المتأخرين مثل السهرودي بالزاردشتية والأوائل مثل إبراهيم بن أدهم في حياته الأولية بجوتا بوذا وهو الذي قسم الزهد الإسلامي إلى زهد الفرض وهو البعد عن الحرام وزهد الفضل وهو الزهد في الحلال وزهد السلامة وهو الزهد عن الشبهات.
ولا يخفى على أحد التأثير الهندي فى التصوف الإسلامي، كما ذكر أبو ريحان البيروني في مقارنته بين مذهب وحدة الوجود عند الصوفية المتأخرين، ومذهب الفدانتا، وقصائد جلال الدين الرومي، وبين الجيتاجوفيندا. ومع ذلك يبقي بعضاً من نقاء الصوفية الحقة التي نحتاجها بشدة الآن لما يمر به العالم الإسلامي من تخبط وضعف مع هجمة إلحادية شرسة واستغلال للدين سياسيا وتجاريا، فوقع العالم الإسلامي في قبضة المستعمرين حينا من الدهر، أدى إلى تقسيم مصطنع وحدود مخططة بالدم ومٌعلمة بالأسلاك الشائكة وضياع لأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين. ومع انتشار الشيخ «غوغل»بات الشباب في حيرة، فلم يعد المسلم يشعر بالاطمئنان الذي تمتع به أجدادنا ولم تعد تكفي مواعظ الأئمة أو سرد الإعجازات المختلفة في القرآن على يد إعلاميين لا يبغون إلا التكسب والشهرة. وأصبحنا أكثر من أي وقت مضى في حاجة ماسة إلى مخاطبة القلب وتوجيه الخطاب الديني إلى الوجدان، وهو ما يتوفر في رياضة الصوفية الحقة البعيدة عن الشعبذة كما وصفهم ابن تيمية أو الفلسفة أو الطنطنة الفارغة التي رصدها أبو ريحان البيروني، ولم يعد من اللائق تقسيم المسلمين إلى أهل ظاهر وأهل باطن، فمن ليس له ظاهر لا يُؤمن باطنه لأن الباطن يجمع المتطرفين في إيمانهم مع ضعاف الشخصية والمتخلفين عقليا والشواذ فكرياً هو ما لا يليق بالمسلم الحق.
وصدق الإمام القشيري في رسالته عندما أعلن أن الشريعة تسبق الحقيقة، وأن هذا ينعكس على هيئة سلوك قويم وحسن علاقة بين أفراد المجتمع المسلم وعلاقة المجتمع المسلم بجيرانه من الشعوب الأخرى. وعلينا أن نركز على المعاملات في الإسلام والزهد فيما في أيدي الناس وصدق الشيخ محمد بن عبد الله الفرغاني عندما قال: «إذا صح الافتقار إلى الله صح الغنى بالله»وهذا هو قمة الإيمان (المعنى الصحيح للتوكل على الله) وهذا هو أهم عناصر التغذية الروحية للقلوب ليعمرها الإيمان فينعكس على الإنسان بالراحة والسعادة.
والملاحظ أن الصوفية هي المدخل السهل للائذين بباب الله من الأزمات المستعصية على الحل والذي يقف فيها الإنسان موقف العاجز اللائذ المستجير بالله وهو ما عبر عنه محمد إقبال الفيلسوف الشاعر في قصيدته «حديث الروح»ولا تخطئه العين في قصائد أحمد شوقي الدينية من «نهج البردة»التي مدح فيها الرسول صلى الله عليه وسلم محاكاةً لقصيدة الإمام البوصيري. وعندما غنت أم كلثوم من قصائده «سلوا قلبي»التي تقطر عذوبة وصوفية خاصة البيت الذي يصف فيه الدنيا بقوله «جنيت بروضها وردا وشوكا وذقت بكأسها شهدا وصبرا/ فلم أر غير حكم الله حكما ولم أر دون الله بابا»،وهذا هو قمة التسليم والزهد والحب الإلهي في مخاطبة العقل والقلب ليظل الإنسان الحائر دائما يردد دائما «سلوا قلبي».