لم تكن مسألة ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل على بال أحد حتى أطل مساعد وزير الخارجية الأميركي السابق لشؤون الشرق الأدنى ديفيد شينكر معلنا إعادة اطلاق مفاوضات ترسيم الحدود البحرية في الناقورة في مقر قيادة القوات الدولية وتحت علم الأمم المتحدة.
لم يكن يعلم مساعد الوزير حينها أنه يعطي حزب الله فرصة انتصار ثمينة ليثبت أمينه العام الدور الجوهري الذي تلعبه المقاومة والسلاح في حماية مصالح لبنان من أطماع «الأعداء».
شينكر كما هيل وغيرهما من المسؤولين الذين على مدى السنين أقاموا علاقة عاطفية بلبنان يرونه من منظار اللبنانيين الذين يتعاطون معهم. أي إن الصورة في الأساس ناقصة. لبنان قد يكون في جزء منه خدمات سياحية ذات مستوى جيد من ملاهٍ ليلية ومطاعم فاخرة وفنادق... إلخ. وقد يكون البعض فيه يتكلم ثلاث لغات ويسافر إلى الخارج للسياحة ويتماهى مع التقاليد الغربية ولديه جنسية غير اللبنانية التي لا يفتخر بها إلا إذا في قلب الحدث، 14 آذار، مثلا أو انفجار المرفأ.
هؤلاء الأميركيون يرون لبنان ويريدون مساعدته وإنقاذه ويفتشون عن طرق بعضها ملتوٍ للقيام بمهمتهم. ولكن في نهاية المطاف النتيجة غالبا ما تأتي عكسية وتصب في صالح حزب الله وحلفائه.
لماذا؟ أولا لأن لبنان الذين يتعاطون معه لا يمثل أغلبية لبنان، مجرد أناس يعتبرون أنفسهم نخبة.
لذا التحليل الذي ينطلق منه هؤلاء والمحادثات والنقاشات التي يجرونها مع بعض اللبنانيين المقيمين في واشنطن تقوم دائما على تمنيات لا تمت للواقع بصلة.
من أمثال التحليلات الخاطئة مثلا فكرة إفلاس حزب الله التي اعتمدت على سحبه بعض عناصره من سوريا وتسريح البعض الآخر متناسين أن توقف القتال على هذه الجبهة هو ما أدى إلى هذه النتيجة. وعلى هذا الأساس كانت توصيات تلك الطبقة بادرات مالية.
الأمر نفسه قيل عن تضارب المصالح بين روسيا وإيران وأن الأخيرة باتت خارج سوريا فيما هي كانت تحتل مدنا كبيرة وتعمل على تغيير وجوهها الثقافية والدينية، حتى بات الاحتفال بعاشوراء في مدينة الأمويين أمرا عاديا. فكان التحليل يقول إن إيران ضعيفة في سوريا ما يعني أن حزب الله ضعيف في لبنان.
وما إن أطلت الأزمة الاقتصادية برأسها وأطاحت بالمصارف ومدخرات المودعين وضربت القدرة الشرائية للمواطن بخسارة الليرة اللبنانية لقيمتها بشكل كبير حتى ظن البعض أن الفرصة باتت مواتية لضرب حزب الله. اقترح أحدهم استمالة رجال أعمال شيعة مقربين من حزب الله وفتح أبواب الولايات المتحدة لهم من أجل«تعزيز الفرص الاقتصادية في المناطق الشيعية»ووقف بالتالي اعتماد هذا المجتمع على حزب الله.
هناك مشاكل كبيرة جدا في تلك المقاربة ولكن الأهم هو الظن بأن في لبنان والمنطقة عموما الانتماء المذهبي أو الطائفي أو حتى الحزبي يقوم على أساس اقتصادي أو مادي أو نفعوي. بمعنى إن قام أحدهم بإعطاء بعض الأموال لمجموعة ما تنتمي لطائفة ما أو مذهب ما فسيؤدي هذا الأمر إلى انقلابها على بيئتها.
ولكن راح عن بال هؤلاء أن ما يقدمه حزب الله للطائفة الشيعية بالتحديد هو أكثر من مساعدات من أي طبيعة كانت. حزب الله هو القاعدة التي على أساسها اكتسب أبناء الطائفة هذه دورهم في بلد كانوا فيه لعقود مهمّشين. هو الضمانة لاستمرار هذا الدور. ثم لو كان الأمر محصورا في المال والاقتصاد فلماذا لم تنجح مؤسسة «يو إس إيد»التي استثمرت مئات ملايين الدولارات على مدى عقود في مدن وقرى الجنوب في خلق بيئة معادية لحزب الله؟
أمين عام حزب الله في أحد خطاباته قال لطائفته إن أي خيار غير حزب الله هو العودة بالطائفة لعهد التهميش. والسؤال الذي يجب أن يطرحه المسؤولون الأميركيون لماذا لم تثر الطائفة الشيعية عندما أخذ نصر الله أبناءهم للقتال في سوريا وأعاد عددا كبيرا منهم في أكفان؟ ألم يكن الخطر الوجودي للطائفة في قلب هذا القبول؟
الواقع اللبناني للأسف يقوم على الولاءات المذهبية وتتغذى منه أحزابها لتكبر وتزدهر. ليس للاقتصاد أي علاقة بالموضوع وإلا لكان الانهيار الاقتصادي الذي عرفه لبنان أطاح بالنظام فيه. هذا لم يحصل. وهذا درس لما يقوم البلد عليه.
للعودة إلى ملف الترسيم فحزب الله لن يمانع في انتعاش منطقته اقتصاديا كما سيحصل إذا ما تم التوصل لاتفاق بين إسرائيل ولبنان على الحدود البحرية وبدء لبنان بعملية التنقيب وبعدها الاستخراج، هذا من ميزاته التخفيف من أعباء الحزب. وهو يعرف تماما أن هذا التطور لن يخلق بيئة معادية له.
تبقى مقاربة المملكة العربية السعودية للبنان أفضل ما يمكن، لأنها لا تقوم على العاطفة إنما على المصالح. فطالما يعرف اللبناني أنه يستطيع الاتكال على الخارج من أجل ترقيع أوضاعه فهو لن يواجه مشاكله ليحلها.