باكو: الزراعة هي المفتاح الأساسي للتنمية والرافد الأهم للأمن الغذائي والركيزة الرئيسية للاقتصاد الوطني، الأمر الذي دفع الدول كافة إلى وضعها في أولويات خططها التنموية واستراتيجياتها المستقبلية، فلا تخلو رؤية تنموية أو خطة وطنية من الإشارة إلى الزراعة وكيفية العمل على تطويرها وتنميتها والنهوض بأوضاعها وتحسين ظروف العاملين فيها، خاصة إذا ما أخذنا في الحسبان المفهوم الواسع للتنمية الزراعية، الذي يشمل إلى جانب الثروة النباتية كلا من الثروة الحيوانية والسمكية، وهو النهج الذي تبنته رؤية المملكة 2030 حين وضعت الاستراتيجية الوطنية للزراعة، حيث حددت منتجاتها الزراعية في تلك المرتكزات الثلاثة، واستطاعت انطلاقا من هذه الرؤية أن تحقق نجاحات عدة مكنتها من عبور أزمات عالمية تركت تأثيراتها على إمدادات الغذاء، بدءا من جائحة كوفيد-19 التي عانى منها العالم منذ مارس (آذار) 2020، وصولا إلى الأزمة الروسية الأوكرانية التي بدأت في فبراير (شباط) الماضي (2022)، فقد كان للجهود والسياسات والبرامج المتنوعة التي وضعتها المملكة أثر إيجابي فيما حققه القطاع الزراعي من قفزات نوعية في مختلف المجالات، تدلل على ذلك عديد المؤشرات الاقتصادية، إذ شهد الناتج الزراعي خلال العام الماضي 2021،
ارتفاعا في حجم القطاع بلغ 7.8 في المائة، مسجلا أكثر من 72 مليار ريال سعودي، في حين حقق في العام الذي سبقه 2020 ما يقرب من 67 مليار ريال سعودي، وهو ما أسهم في رفع نسبة مساهمة القطاع الزراعي في الناتج المحلي الإجمالي في الوقت الراهن لتبلغ 2.3 في المائة، وهي نسبة قابلة للارتفاع في الأعوام القليلة المقبلة، مع نمو واضح للقطاع برمته، بل مما يلفت الانتباه أن مساهمة هذا القطاع في الناتج المحلي غير النفطي، كانت مرتفعة إذ سجلت 3.6 في المائة. ويذكر في هذا الخصوص أن المملكة تمكنت من أن تأتي في المركز الثالث على صعيد الدول العربية في هذا المجال، بعد كل من مصر والجزائر، حيث مثل حجم الناتج الزراعي السعودي 14 في المائة من الإنتاج الزراعي العربي. فضلا عما سبق، بلغت الصادرات الزراعية في 2021 أكثر من 13 مليار ريال، بزيادة قدرها 415 مليون ريال عن 2020. وهذا يعد تطورا واعدا، لمزيد من الصادرات الزراعية المتنوعة في المستقبل. ولم يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل نجحت المملكة في أن تتقدم بخطوات كبيرة على غيرها من دول المنطقة في مجال الإنتاج الزراعي العضوي، الذي بات يشكل سوقا واسعة على الساحة العالمية ككل، فالتمويل الزراعي يتعاظم، بما في ذلك تخصيص ثلاثة مليارات ريال لتمويل مشاريع الاستزراع السمكي، والبيوت المحمية، ومشاريع الدواجن، وسلاسل الإمداد.
وعليه، يمكن القول إن ما حققه القطاع الزراعي السعودي من نجاحات خلال الأعوام القليلة الماضية إنما يرجع إلى ما تنتهجه المملكة من سياسات وما تتبعه من آليات وطرق متطورة للنهوض بالعمل في هذا الميدان الحيوي، إلى جانب الجهود المبذولة من الجهات المختصة، لجعل قطاع الزراعة محورا رئيسيا محليا وعلى صعيد المنطقة كلها. منطلقة في ذلك من الأدوات التي توفرها رؤية المملكة 2030 لهذا القطاع، بما يعطيه قوة دفع متواصلة للوصول إلى الغايات المرجوة منه.
ومن هذا المنطلق، يستعرض هذا التقرير الزراعة السعودية وما حققته من نجاحات وما شهدته من تطورات، من خلال محورين:
المملكة والاستراتيجية الوطنية للزراعة 2030
على مدار السنوات الماضية شهد القطاع الزراعي السعودي تطورات عدة ناجمة عن بدء تطبيق الاستراتيجية الوطنية للزراعة والتي انطلقت تماشيا مع رؤية المملكة 2030، تلك الاستراتيجية التي شهدت بدورها تحديثات عدة لمواكبة التوجهات والاستراتيجيات والبرامج الجديدة المعتمدة ذات الصلة، إذ انطلق وضع هذه الاستراتيجية اعتمادا على عدد من الاستراتيجيات الوطنية المتخصصة، من أهمها: الاستراتيجية الوطنية للبيئة، الاستراتيجية الوطنية للمياه، استراتيجية الأمن الغذائي، كما تم الاعتماد كذلك على عدة برامج ودراسات ذات علاقة بالقطاع، من أهمها: برنامج التنمية الريفية الزراعية المستدامة، برنامج إعادة توجيه الإعانات الزراعية.
وعليه فقد تحدد الإطار العام للاستراتيجية الوطنية للزراعة شاملا أربعة عناصر رئيسية على النحو الآتي:
الأهداف، حيث تم تقييم أداء القطاع وصياغة أهدافه من خلال خمسة محاور، هي: استدامة الموارد الطبيعية (الموارد المائية، الموارد الأرضية، التأثير البيئي)، الأمن الغذائي (الوفرة والقدرة على النفاذ، الاستقرار)، رفاه المجتمع والمزارعين (دخل المزارعين، التنمية الاجتماعية)، المساهمة الاقتصادية (فرص العمل، الإنتاجية، المساهمة في الناتج المحلي)، الوقاية (الوقاية من الآفات، الوقاية من العدوى، منتجات زراعية آمنة). وفي ضوء ذلك تحددت الأهداف الكلية للاستراتيجية فيما يأتي:
حماية وتحسين استخدام واستدامة الموارد الطبيعية للمساهمة في تحقيق الأمن المائي والحفاظ على البيئة.
تعزيز الأمن الغذائي في جميع أنحاء المملكة أثناء الظروف العادية وحالات الطوارئ.
خلق فرص عمل والمساهمة في تنمية ريفية مستدامة وتوفير ظروف العيش الملائمة لصغار المزارعين.
رفع الكفاءة الإنتاجية والقدرة التنافسية والبيئة الاستثمارية للمنتجات والخدمات الزراعية وتعزيز مساهمتها في الاقتصاد.
تعزيز صحة وسلامة النبات والحيوان والحماية ضد الأمراض وعدوى الآفات وضمان سلامة المنتجات.
المنتجات الزراعية، حيث شملت الاستراتيجية ثلاثة محاور رئيسية، هي: المنتجات النباتية (الحبوب، الخضراوات والفاكهة، الأعلاف الخضراء)، الثروة الحيوانية (الحيوانات الحية، لحوم الدواجن، اللحوم الحمراء، الحليب والبيض)، الثروة السمكية (المصايد، الاستزراع السمكي).
العرض والطلب، حيث تتم مراجعة الوضع الحالي وتحديد التوجهات المستقبلية للطلب (الاستهلاك والهدر) والإنتاج المحلي (عوامل الإنتاج، مزيج الإنتاج المحلي)، والميزان التجاري (الصادرات والواردات) لكل المنتجات الزراعية.
ممكنات التنفيذ، وتشمل دراسة المتطلبات والممكنات الأساسية لتحقيق أهداف الاستراتيجية الزراعية، وتتضمن هذه الممكنات الجوانب الحرجة لتطوير قطاع زراعي مستدام في المملكة، وهي: الإطار المؤسسي (هيكلية القطاع، الشركات، القطاع الخاص)، التنظيمات (السياسات، الأنظمة واللوائح، الاتفاقيات الدولية)، القدرات (الموارد البشرية، الدعم التقني، التكنولوجيا، البحث والتطوير)، سلاسل القيمة (النقل، التخزين والتوزيع، الصناعات الغذائية)، الري (تقنيات الري، تنمية موارد المياه)، التنمية الريفية (المزارع الصغيرة، التربية المكثفة، الصيد)، الجمعيات التعاونية (تعظيم دور التعاونيات الزراعية)، المنظمات الاقتصادية (إعادة توجيه الدعم، الحوافز، التمويل).
نجاحات حقيقية وإسهامات وطنية
في ضوء الإطار العام للاستراتيجية الوطنية للزراعة، يمكن استخلاص عدد من الركائز الرئيسية عكست ما حققه هذا القطاع من نجاحات حقيقية وإسهامات وطنية، يمكن رصدها، أبرز هذه الركائز على النحو الآتي:
الركيزة الأولى: تعزيز استدامة الموارد الطبيعية، والتي هدفت إلى تطوير قطاع الري وإدارة المخلفات الزراعية وتحسين استخدام الأراضي، إذ شهد القطاع خلال العام المنصرم (2021) نجاحات في هذا الخصوص، من أبرز مؤشراتها:
استهلاك المياه الجوفية غير المتجددة في القطاع الزراعي للميـاه الجوفيـة، حيث تقلص حجم الاستهلاك مـن (17) مليار متر مكعب عام 2016 إلى (8.5) مليار متر مكعب عام 2020، فضلا عن رصد شهري لمراقبة التغيـر فـي مناسـيب المياه الجوفيـة فـي الطبقـات الحاملـة للميـاه مـن خلال (414) بئرا، ويجـري زيادتهـا إلى ما يقارب (650) بئرا، إضافة إلى زيادة إنتاج المياه المحلاة بنسبة تتجاوز 68 في المائة من 3.5 مليون متر مكعب إلى 5.9 مليون متر مكعب يوميا، إلى جانب زيادة سـعة منظومات نقل المياه المحلاة بنسبة تجاوزت 120 في المائة وزيادة أطوالها بنسبة 57 في المائة، وزيادة سـعة منظومات الخزن للمياه المحلاة بنسبة 72 في المائة. وكذلك خفض التكاليف الرأسمالية لمنظومات الإنتاج بنسبة 30 في المائة، وتحقيق رقم قياسي لأقل وحدة إنتاج في استهلاك الطاقة عالميا بواقع 2.27 كيلوواط/ساعة لكل متر مكعب.
رفع المياه المخصصة للري من المياه المتجددة بـ500 ألف متر مكعب.
الركيزة الثانية: تحسين الإنتاجية الزراعية، والتي هدفت إلى استخدام أحدث التقنيات وتبني أحسن الممارسات وتعزيز البحث والتطوير في قطاعات الثروة النباتية والحيوانية والسمكية لزيادة الكفاءة الإنتاجية، من أبرز مؤشراتها ما يأتي:
رفع حجم إنتاج الاستزراع المائي (الأسماك والروبيان المستزرع) إلى 100 ألف طن سنويا وسد الحاجة من الاكتفاء الذاتي بـ55 في المائة، وتعزيز النفاذ لمنتجات الاستزراع المائي للأسواق العالمية بتوقيع عدة اتفاقيات مع بعض الدول، ورفع حجم صادرات التمور إلى 215 ألف طن، وحجم إنتاج الخضراوات في البيوت المحمية إلى 584 ألف طن.
رفع عدد المزارعين الراغبين في التحول للإنتاج العضوي للخضر بنسبة 155 في المائة.
تحقيق المملكة نسبًا مرتفعة من الاكتفاء الذاتي في عدد من المنتجات الغذائية، كما أشار إلى ذلك وكيل وزارة البيئة والمياه والزراعة لشؤون الزراعة المهندس أحمد العيادة في كلمته على هامش فعاليات أعمال «الحوار الوطني للنظم الغذائية المستدامة في المملكة العربية السعودية» الذي نظمته الوزارة بمشاركة قمة الأمم المتحدة للنظم الغذائية 2021، حيث أوضح أن المملكة حققت اكتفاء ذاتيا من بعض المنتجات، منها: المنتجات الحيوانية مثل الحليب بنحو 12 في المائة، وبيض المائدة بنسبة 116 في المائة، ولحوم الدواجن بنسبة 65 في المائة، والأسماك بنسبة 45 في المائة، واللحوم الحمراء بنسبة 42 في المائة، والمنتجات النباتية والمحاصيل الزراعية مثل التمور، بنسبة 111 في المائة، والخضراوات بنسبة 87 في المائة، والفواكه بنسبة 38 في المائة.
الركيزة الثالثة: الحفاظ على صحة النبات والحيوان، والتي هدفت إلى تطوير منظومة متكاملة لتعزيز سلامة وجودة المنتجات الزراعية والثروة الحيوانية، ومن أبرز مؤشراتها ما يأتي:
خفض معدلات إصابة النخيـل بسوسة النخيل الحمراء بـ40 في المائة.
رفع مستوى تقديم الخدمات البيطرية إلى 55 في المائة، ورفع تغطية تقديم الخدمات البيطرية المتنقلة بنسبة 100 في المائة، إلى جانب تطوير منظومة الحجر البيطري بنسبة 90 في المائة للحد من الأمراض الحيوانية العابرة للحدود.
الركيزة الرابعة: هيكلة القطاع وبناء القدرات وتطوير التسويق، والتي هدفت إلى تطوير الإطار المؤسسي وتطوير قدرات الرقابة والرصد وبناء قواعد بيانات شاملة، فضلا عن العمل على تعزيز كفاءة الخدمات الزراعية وتطوير الأسواق الزراعية وتفعيل دور الجمعيات التعاونية، ومن أبرز مؤشراتها ما يأتي:
زيادة الطاقات التخزينية لصوامع الغلال لتعزيز منظومة الأمن الغذائي من 2.51 مليون طن بداية 2015 إلى نحو 3.43 مليون طن بنسبة 37 في المائة.
تخصيص المرحلة الأولى من قطاع المطاحن ومصانع الأعلاف بتأسيس أربع شركات للمطاحن مستقلة، واستكمال تخصيص المرحلة الأولى ببيع شركتين للقطاع الخاص.
زيادة نسبة التمويل للقطاع الزراعي بـ36 في المائة، والاستحواذ على 6 شركات عالمية جزئيا وكامل الحصص لشركات منتجة للغذاء في العالم.
خلاصة القول، أن سياسة المملكة في المجال الزراعي رغم ما تواجهه من تحديات داخلية وأخرى خارجية، تظل نموذجا مهما ليس فقط فى كيفية وفائها باحتياجاتها لتحقيق الاكتفاء الذاتي، بل تعمل أيضا على تنمية صادراتها المتصاعدة، وذلك عبر انتهاج عديد الاستراتيجيات والبرامج؛ لتعزيز التنمية الزراعية المستدامة وزيادة الرقعة الزراعية والحفاظ على الموارد الطبيعية والبيئية، معتمدة في الوقت ذاته في آليتها وتدابيرها على الابتكار والتكنولوجيا، لتحسين الإنتاجية وكفاءة استخدام مواردها لتحقيق استدامة حقيقية تواجه متطلبات الحاضر وتحديات المستقبل.