بيروت: «لا دخان بدون نار»، مثل شعبي ينطبق على ما يحصل في لبنان، حيث بدأت تفوح رائحة مرسوم تجنيس جديد قبيل قرابة شهرين على انتهاء ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون في 31 أكتوبر (تشرين الأول)، فالتسريبات توحي بأن الإعداد له على قدم وساق، على وقع وضع مأزوم على مختلف المستويات، فتشكيل الحكومة بحكم «المجمّد» والانهيار الاقتصادي والاجتماعي في انحدار مخيف.
يملك رئيس الجمهورية صلاحية «استثنائية» في منح الجنسية اللبنانية وحده، بموجب مرسوم يشترك معه في التوقيع عليه رئيس الحكومة ووزير الداخلية، على أن يستند فيه إلى أسباب موجبة تبرر إصداره، كأن يلحظ أنهم قدموا خدمات ودعماً للبنان في الداخل والخارج، وجرت العادة في لبنان، أن يصدر رئيس الجمهورية مرسوم تجنيس في نهاية عهده، يمنح بموجبه الجنسية لمجموعة من المستحقين، والسبب في ذلك أن لبنان لا يمنح الجنسية إلا وفق معيار الدم، أي لأبناء الأب اللبناني.
وفق العرف، لا تمر ولاية رئيس للجمهورية في لبنان إلا ويختمها بمرسوم تجنيس، وهو ما يحصل اليوم في عهد عون، إذ بدأت تظهر التسريبات عن إعداد مرسوم للتجنيس وسط سجال حوله حتى قبل أن يبصر النور، خصوصاً أن عون استهل عهده بمرسوم مماثل شمل حوالي 200 شخص، أغلبهم من السوريين المقربين من النظام السوري، بعضهم مدرج على لائحة العقوبات الأميركية.
تفوح من تلك المراسيم رائحة المنفعة، ويترافق صدورها مع تشكيك كونها لا تخضع لمعايير رقابية، إذ لا يتم عرضها على مجلسي الوزراء والنواب، وتحكم الصفقات اختيار أسمائها، وما الخبر الأخير المتداول عن أن المرسوم قيد الإعداد في لبنان يشمل بيع أربعة آلاف جواز سفر لبناني بسعر يراوح ما بين 50 ألف يورو و100 ألف، إلا دليل على النهج المتبع، على الرغم من نفي مكتب الإعلام الرئاسي له وتوضيح المكتب الإعلامي لرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أن هذا الموضوع ليس مجال بحث ورفض مكتب وزارة الداخلية السير في هكذا مشروع.
ومع بدء كشف اللثام عن مرسوم التجنيس، بدأ التداول بـ«بازار» الأسماء، من بينهم أصحاب ملفات مشبوهة من تهريب ومخدرات ومطلوبين من الإنتربول وغيرها، التي لا تؤهل صاحبها للحصول على الجنسية، ما جعله عرضة للتجاذب والسجال «الخفي» بين عون وميقاتي الرافض له بحجة خطر المساس بالتوازن، بعد تسريب معلومات بأن القاعدة المتبعة «ادفع وخذ جنسية لبنانية»، وبأن هناك 3 آلاف طلب لأشخاص من الطائفة المسيحية و400 من الطائفة العلوية ومن كبار رجال الأعمال (سوريين وعراقيين وفلسطينيين)، خصوصاً أن عشرات المتمولين السوريين يهمهم الحصول على جواز السفر اللبناني، الذي يمنحهم حرية التحرك في ظل العقوبات.
سمسرة وعمولات
من المتعارف عليه في تاريخ الدول أن منح الجنسية جائز تكريماً لإنجازات أشخاص لا يتعدى عددهم أصابع اليد، ولكن الإقدام على تجنيس الآلاف، في بلد مثل لبنان، ينذر بتداعيات لن تكون بالسهلة، وسط انقسامات حادة في موضوع التوطين ودمج النازحين.
يلفت الكاتب والمحلل السياسي أسعد بشارة لـ«المجلة» بأنه «اعتاد اللبنانيون أن يسمعوا بشكل مفاجئ أخبارا عن مراسيم تجنيس، وفيها عملية بيع للجنسية اللبنانية، وهذا الأمر لم يعد مستغرباً في ظل الاستنسابية وسلوك السمسرة الذي يتبعه المسؤولون».
ويشدّد على أنه «يجب أن تمنح الجنسية اللبنانية للمستحقين، ولا مانع من تطوير قانون الجنسية لتمنح بالطريقة المعتمدة في أكثر من بلد بناءً على استثمار كبير، ولكن أن يترك مرسوم التجنيس حكراً بين مجموعة من المسؤولين ليقبضوا عمولات عليه، فهذا من أسوأ أنواع ممارسات السلطة في لبنان الذي أصبح جمهورية فاشلة على كل المستويات».
ويشير بشارة إلى أن «الخطر ليس في موضوع التوافق، وإنما يكمن في بيع الجنسية اللبنانية لأشخاص يريدون استعمال البلد كبيئة حاضنة»، وسأل: «من هو المرجع الذي يؤمن خلو آلاف سجلات الذين سيمنحون الجنسية من أية شائبة؟»، لافتاً إلى أن «ذلك يؤدي إلى لا ثقة لأن الأمور خاضعة لبازار المصالح».
وعن تردد معلومات بأن رئيس الجمهورية يريد تمرير المرسوم من أجل توازن الأغلبية المسيحية، يعتبر بشارة أن «هذه الحجج واهية وذرائع تخفي ما تخفيه، لأن فريق عون مسؤول عن الكثير من التجاوزات، وهناك خشية من أن يكون موضوع تجنيس هؤلاء أحد أكبرها».
مراسيم التجنيس تطبخ في «غرف سوداء»
يغلب طابع الاستنسابية على مراسيم التجنيس، إذ يتم تقديمها بمثابة «جوائز» لنافذين ومتمولين بدل إعطائها لمستحقيها بحجة أنه «في السنة الأخيرة لكل عهد يصدر رئيس الجمهورية مرسوم تجنيس، وهذا حق دستوري».
تكمن الإشكالية وفق ما يؤكده رئيس المركز اللبناني لحقوق الإنسان وديع الأسمر لـ«المجلة» بـ«الضبابية وعدم شفافية التجنيس، ففي كل دول العالم قانون التجنيس يحدد كيفية اكتساب الجنسية، إن من خلال البقاء في البلد لفترة طويلة وكلها لديها استثناءات تسمى خدمات من أجل الوطن، لكن في بلد مثل لبنان يتم رفض إعطاء المرأة الحق في منح الجنسية لأبنائها من أب غير لبناني، وهذا الأمر مستفز»، لافتاً إلى أن «مراسيم التجنيس تُطبخ في غرف سوداء، وآخر مرسوم تجنيس ضم أشخاصاً مشبوهين يتهربون من ملاحقات قانونية خارج لبنان».
وحول تأثيره على الوضع الداخلي، يشير الأسمر إلى أن «هناك الكثير من التعليقات العنصرية بخصوص النوع والتغيير الديموغرافي والطائفي، ولكن إشكالية التجنيس الأساسية في لبنان تكمن في غياب الشفافية، لأنه لا توجد آلية واضحة ومستقلة مع قضاة للتحقيق والتأكد من الأسباب الموجبة، كما أن التجنيس غير متاح لكل الناس، وهو عملياً يبقى لأناس محظوظين، وهذا ما يزيد الشكوك»، مؤكداً أن «العملية ليست إلا ابتزازاً، وهناك أموال يتم دفعها من تحت الطاولة لاستكمال عملية التجنيس لبعض الأشخاص إن كانت محقة أم لا، وفي آخر مرسوم تجنيس هناك ناس لديهم الحق كمكتومي القيد ولكن عددهم قليل، ومنهم من أم لبنانية وأب غير لبناني، ولكن هذا الأمر يجب أن يعمم على الجميع».
ويشدد على أن «ما يُحكى ليس قانون تجنيس استثنائي وإنما صفقة تجنيس تتم عبر دفع المال، وهذا الأمر غير مقبول لا قانونياً ولا وطنياً في بلد عملياً لديه الكثير من المشاكل، وخصوصاً أن بين المجنسين مجموعة من الأشخاص الملاحقين دولياً أو لديهم شبهات إرهاب أو تبيض أموال وغيرها».
«إتجار» في الحقوق وبالهوية
لم يأتِ الدستور اللبناني على التفاصيل بخصوص الجنسية، وجاءت نصوصه عامة، واعتمد معيار الدم لا مكان الولادة لاكتساب الجنسية، وعلى الرغم من مسيرة النضال الطويلة، لا يزال إقرار مشروع القانون منح الجنسية لأبناء الأم اللبنانية المتزوجة من أجنبي في أدراج مجلس النواب، فيما يتم العمل من أجل تمرير مرسوم بعيد عن الاعتبارات الإنسانية والحقوقية.
تؤكد مديرة حملة «جنسيتي حق لي ولأسرتي» كريمة شبو لـ«المجلة» أن «مراسيم التجنيس دائماً مشبوهة واستخدام صلاحيات في غير مكانها، وخصوصاً عندما تحاك من تحت الطاولة»، وتسأل: «طالما هذه الصلاحيات هي قانونية ومشروعة، فلماذا يتم التجنيس دائماً في الخفاء وفق اعتبارات سياسية أو غيرها؟ ولماذا يتم الإتجار بهذه المراسيم إن كانت الجنسية تمنح لمستحقيها؟ ولماذا تتم بطرق مشبوهة ويتم بيعها مقابل مبالغ مادية؟».
وتشدّد على أنه «في موضوع الحديث عن منح الجنسية لمستحقيها، ليس هناك أحق من المرأة اللبنانية في أن تمنح جنسيتها لأسرتها، وهذا حق قانوني موثق بالاتفاقيات الدولية وفي شرعة حقوق الإنسان وفي الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، كما في الدستور اللبناني».
وتعتبر شبو أنه «عند الحديث عن إعطاء الحق للنساء اللبنانيات وتعديل قانون الجنسية اللبناني باعتباره قانونا تمييزيا وينتهك حقوق الإنسان، يقومون بالعرقلة عبر التخويف والتذرع بحجج التوزيع الديموغرافي والتوازن الطائفي والتوطين، ولكن عندما يكون التجنيس سياسيا وماديا يصبح كل شيء مباحا، إذ تسقط الحجج أمام مصالحهم السياسية والطائفية، بدليل تجنيس أشخاص مشبوهين ولديهم أوضاع سياسية وأمنية كالتهرب من عقوبات معينة تحت ذريعة أن لديهم رؤوس أموال وغيرها، ومن دون التدقيق بملفاتهم قبل إحالة المراسيم».
تترافق الشبهات دائماً مع ملفات التجنيس وفق شبو التي تشير إلى أن «المسؤولين يحرمون النساء اللبنانيات من منح الجنسية لأبنائهن»، مشددة على أن «هذا الحق لا تريد النساء الحصول عليه بمراسيم تجنيس ولا بدفع رشاوى ولا في تقديم طلبات تخضع للاستنسابية والمحسوبية، وترفضن الاعتبارات العنصرية».
وتؤكد أن «هناك الكثير من النساء تمت مساومتهن لدفع مبالغ مالية من أجل الحصول على الجنسية، وهذه الأمور كلها مرفوضة، فالحق في الجنسية حق بالقانون للمواطنين والمواطنات كافة تحت سقف القانون من دون استغلال وإتجار بهذه الحقوق كما يحصل مع ملفات التجنيس التي هي أشبه بملفات إتجار في الحقوق والهوية».
كل المواقف تُجمع على رفض ما يحصل، وعلى الرغم من الشكوك على شوائب مراسيم التجنيس المتتالية، يبقى السؤال إلى متى ستبقى الحقوق مغبونة في بلد ينتصر فيه العرف على القانون؟!