تركيا تتعاطى مع السياسة الخارجية بمبدأ "لا للمشاكل مع دول الجوار"

تركيا تتعاطى مع السياسة الخارجية بمبدأ "لا للمشاكل مع دول الجوار"


 تعيش السياسة التركية منذ فترة طويلة بأحد شعارات مصطفى كمال أتاتورك " مؤسس العلمانية والمدنية الحديثة بتركيا   وهو شعار "السلام في الداخل ، والسلام في الخارج" و يتسم هذا الشعار بأنه منطقي للغاية و يعمل حزب العدالة والتنمية بجدية شديدة من أجل تحقيقه – و ينجح في معظم الوقت – في تحقيق السلام في الخارج.


و السبب أن الحكومة التركية تتعاطي مع السياسة الخارجية بمنطق خاص تسميه "لا للمشاكل مع دول الجوار "، و قامت أنقرة في السنوات الأخيرة بإعادة هيكلة سياستها الخارجية من أجل خلق تفاعل أكبر بينها و بين الإقليم المحيط بها. كما تسعى تركيا إلى أن تجعل من نفسها وسيطًا يتمتع بالقوة واللين بما يمكنه من حل الأزمات بين الدول. على سبيل المثال، وقعت تركيا في الأشهر الأخيرة على اتفاق تاريخي يمهد الطريق لتجديد علاقاتها الدبلوماسية مع أرمينيا، كما وقعت على اتفاقية تعاون رفيعة المستوى مع سوريا، وهو البلد الذي كاد يدخل في حرب  معه منذ أقل من عقد من الزمان تقريبا. كما شهدت أنقرة أيضا تحسنًا كبيرًا في علاقاتها التجارية بجيرانها وكذلك في نفوذها السياسي والدبلوماسي بالمنطقة المحيطة بها.


و لكن تحقيق تركيا  "للسلام في الداخل" كان أمرًا مختلفًا. فتركيا  تواجه تركيا اليوم انقسامات سياسية داخلية عميقة من الممكن أن  تزعزع استقرارها، بالإضافة إلى وجود نظام سياسي بها يتسم في بعض الأوقات بعدم الفاعلية  . ومع وجود ثقافة سياسية تقوم على المواجهة بدلًا من  التعاون ومعارضة سياسية غير قادرة على وضع رؤية مستقبلية للبلاد ، قد تجد تركيا أن جهودها الرامية إلى إرساء الديمقراطية وصقل  سياستها  الخارجية قد قوضت  من جراء هذه الانقسامات.


و تعتبر جهود الدولة الجارية لتعريف هويتها بعد الحكم العثماني هي بيت القصيد في المشكلات التركية الداخلية.  فرغم أن الرؤية الكمالية التي دشنها أتاتورك – وهي رؤية علمانية تهدف إلى توجيه تركيا وجهة غربية وجعلها ذات هوية موحدة  -- نجحت في مساعدة البلاد على الخروج من تحت الأنقاض بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، لكن صعود حزب العدالة والتنمية - الذي يمثل النخبة الإسلامية الناشئة -  التي هي أقل اتصالا بالنهج الكمالي – قد وضع هذه الرؤية على المحك من جديد.


ويحاول حزب العدالة والتنمية خلق هوية لتركيا ما بعد الحكم العثماني في نواحٍ كثيرة بحيث تستوعب هذه الهوية الهويات  الدينية التركية وأيضًا العرقيات المتنوعة..


و لكن هذه الجهود قوبلت بشكوك عميقة من جانب مؤيدي الكمالية بتركيا والمعارضة السياسية لحزب العدالة والتنمية ، حيث تتسم معارضتهم للسياسة الداخلية لتركيا بقدر من العداء.


و خير مثال على ذلك، المناقشة التي دارت أخيرًا في البرلمان حول "مبادرة الديمقراطية" التي أطلقتها  الحكومة الحالية.


فالمبادرة كانت عبارة عن أفكار إصلاح ترمي إلى حل المشكلة الكردية التي نشأت منذ عقود عن طريق منح  الأكراد المزيد من الحقوق الثقافية والسياسية. وعندما حاولت الحكومة لأول مرة تقديم برنامجها إلى البرلمان في 10 نوفمبر/تشرين الثاني


 ( كان ذلك التصرف يتسم بغياب الحكمة ، لأن الحكومة إختارت التوقيت الخاطئ، فقدمت المبادرة في يوم تزامن مع ذكرى وفاة أتاتورك) ، حيث قام أعضاء من حزبي المعارضة الرئيسيين ، حزب الشعب الجمهوري العلماني و حزب الحركة القومية  المتشدد ، بالصدام  مع أعضاء حزب العدالة والتنمية وتركوا مساحة محدودة للنقاش الفعلي. واعترضت المعارضة سبيل الكثير من الجهود الإصلاحية الأخرى  التي تبذلها الحكومة ، لا سيما الجهود الجارية  من أجل حصول تركيا على عضوية الاتحاد الأوروبي .ويتم ذلك في كثير من الأحيان عن طريق مخاطبة المشاعر القومية.


وفي بعض الأحيان قام حزب العدالة والتنمية بزيادة التوترات الداخلية من خلال شغل الوزارات والوكالات الحكومية بالمماثلين له في الفكر(المحافظين دينيًا)، حتى لو كانوا غير مؤهلين و كذلك من خلال القيام بخطوات مثيرة للقلق تهدف لخلق إعلام موالٍ للحكومة. وفي بعض الأحيان تثور الشكوك حول الطريقة المتعسفة التي أجريت بها التحقيقات في محاولة الانقلاب المزعومة والمعروفة باسم ايرجينيكون مما يعطي  العلمانيين الإحساس بأن الحكومة تستهدفهم  وتستهدف مؤسساتهم.


وأخيرًا ما الطريق الذي يجب أن تسلكه تركيا إلى الأمام من أجل  الخروج من تحت  ظلال انقساماتها الداخلية؟


 تحتاج تركيا لمناقشات واسعة النطاق تتسم بالصدق والوضوح  حول ما  تعنيه الهوية التركية اليوم ، وما نموذج الدولة  الذي ترغب تركيا في الاقتداء به. ولكن سيكون من الصعب إقامة مثل هذا الحوار في وقت لا يرغب فيه أحد للاستماع للآخر.




كاتب مستقل يعمل مراسلا لشبكة كريستيان ساينس مونيتور
font change