قراءة في الاتفاق التركي السوداني

جزيرة سواكن السودانية وعودة «الأحلام القديمة»

قراءة في الاتفاق التركي السوداني

[caption id="attachment_55263164" align="aligncenter" width="1600"]الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يقبل طفلة صغيرة وهو يسير مع الرئيس السوداني عمر البشير خلال زيارته في بورتسودان – 25 ديسمبر 2017. وقام إردوغان بجولة في جزيرة سواكن في اليوم الثاني من زيارته. (أ.ف) الرئيس التركي رجب طيب إردوغان يقبل طفلة صغيرة وهو يسير مع الرئيس السوداني عمر البشير خلال زيارته في بورتسودان – 25 ديسمبر 2017. وقام إردوغان بجولة في جزيرة سواكن في اليوم الثاني من زيارته. (أ.ف)[/caption]

باكو (أذربيجان): أحمد طاهر*

 

* وجود ملحق سري، أفصح عنه وزير الخارجية التركي ينبئ بأن أهدافاً عسكرية وأمنية تكمن خلف هذا الاتفاق.
* التحرك التركي الأخير تجاه السودان وتعزيز تعاونهما المشترك، وخاصة في المجال العسكري، لا يمكن النظر إليه بعيداً عن توتر العلاقات المصرية التركية.
* يظل التحرك المصري السعودي بتأسيس اتحاد أو منظمة لإدارة شؤون الملاحة والتجارة والاستغلال الاقتصادي وحماية أمن البحر الأحمر، هو المفتاح الرئيسي في مواجهة التمددات المهددة للأمن القومي العربي.
* يعتبر الوجود العسكري أو الأمني التركي في البحر الأحمر عامل قلق




لم تكن زيارة الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، إلى كل من السودان وتونس وتشاد، زيارة بروتوكولية يهدف من ورائها إلى تعزيز علاقات تركيا الخارجية لتخفيف حدة المشكلات والأزمات التي تواجهها بلاده داخليا وخارجيا، وإن مثل ذلك أحد أهداف هذا التحرك الخارجي، وإنما تأتي هذه الزيارة والتي تعد الأولى من نوعها لرئيس تركي إلى السودان منذ عام 1956. في إطار المخططات التركية الساعية إلى تحقيق حزمة من الأهداف مجتمعة، بعضها يتعلق بالطموح الشخصي للرئيس التركي وحلمه بعودة الخلافة العثمانية، وبعضها يتعلق بالصراع التركي المصري ومحاولاتها المستمرة في ممارسة ضغوط على القاهرة في ظل النجاحات التي حققتها الدولة المصرية منذ ثورة 30 يونيو (حزيران) ضد جماعة الإخوان، وبعضها الثالث يتعلق بعلاقات تركيا مع المملكة العربية السعودية سواء في ظل الأزمة الخليجية التي انحازت فيها تركيا للجانب القطري أو في ضوء التقارب الأخير الذي شهدته العلاقات السعودية القبرصية مع زيارة الرئيس القبرصي إلى الرياض مما عزز من حجم التفاهمات المشتركة بين البلدين.
وفي ضوء ذلك، أضحى من الأهمية بمكان قراءة هذه الزيارة وما تمخض عنها من اتفاقات للوقوف على حجم تداعياتها وانعكاساتها على الأوضاع الإقليمية التي تشهد مزيدا من التوترات على المستويات كافة، وصولا إلى طرح رؤية مصرية خليجية في التعامل مع التحرك التركي في مناطق تدخل في إطار الأمن القومي المصري والسعودي تحديدا، وهو ما يتناوله هذا التقرير من خلال المحاور التالية:

[caption id="attachment_55263166" align="aligncenter" width="1024"]جزيرة سواكن |القديمة وغير المستخدمة -  شمال السودان جزيرة سواكن |القديمة وغير المستخدمة - شمال السودان[/caption]
 

أولا: اتفاق سواكن... الترميم والتطوير تمويه لأغراض أمنية وعسكرية




غني عن القول إن إبرام اتفاقات بين الدول لا يحمل في كثير من الحالات مخاطر وتهديدات لأطراف أخرى مجاورة إلا في حالتين: الأولى، إذا كان أحد طرفي هذه الاتفاقات يناصب هذه الأطراف المجاورة العداء. والثانية، أن تتضمن هذه الاتفاقات أو بعضها نصوصا سرية. وهاتان الحالتان تنطبقان على الاتفاق التركي السوداني الخاص بجزيرة سواكن السودانية والذي تم توقيعه في 25 ديسمبر (كانون الأول) 2017. والذي بمقتضاه تتولى تركيا إعادة تأهيل الجزيرة وإدارتها لفترة زمنية لم يتم تحديدها.
ومن ثم، تبرز خطورة هذا الاتفاق الذي تكشف تصريحات الطرفين بشأنه بأنه يحمل مضامين أمنية وعسكرية تهدد أمن الجوار السوداني، إذ إن أحد أطراف الاتفاق (تركيا) في عداء مباشر مع الدولة المصرية منذ ثورة الثلاثين من يونيو التي أسقطت حكم جماعة الإخوان التي ينتمي إليها الرئيس التركي، أضف إلى ذلك أن هذا الاتفاق تضمّن ملحقا سريا كما جاء على لسان الرئيس التركي بأن: «هناك ملحقا للاتفاقية لن أتحدث عنه الآن».
وبناء عليه، يحمل هذا الاتفاق كثيرا من المخاطر والتداعيات ويثير كثيرا من القلق والتوتر في المنطقة لعدة أسباب، أبرزها ما يلي:
1- الموقع الجيواستراتيجي لجزيرة سواكن، حيث تبعد أقل من 60 كيلومترا من ميناء بورتسودان المقابل لمدينة جدة السعودية، وهي تعتبر نقطة التقاء بين مصر والسعودية، إضافة إلى قربها كموقع استراتيجي من الناحية العسكرية من اليمن وإريتريا، كما تبعد ما يقرب من 350 كم من مثلث حلايب المصري.
2- توقيت الاتفاق، إذ يأتي في وقت تشهد فيه العلاقات التركية مع عدة دول عربية توتراً كبيراً، في ضوء تدخلاتها المستمرة في شؤونها الداخلية كما هو الحال في سوريا والعراق وليبيا.
3- وجود ملحق سري، أفصح عن هدفه وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو، خلال المؤتمر الصحافي الذي عقده مع نظيره السوداني، حيث أعلن أنه: «تم توقيع اتفاقيات بخصوص أمن البحر الأحمر وإننا مهتمون بأمن السودان وأفريقيا وأمن البحر الأحمر... وإن تركيا تواصل تقديم كل الدعم للسودان بهذا الخصوص»، وهو ما ينبئ بأن أهدافاً عسكرية وأمنية تكمن خلف هذا الاتفاق.
4- أعطى الاتفاق لتركيا وجودا عسكريا غير معروفة أبعاده في البحر الأحمر، وهو ما أشار إليه صراحة وزير الخارجية السوداني إبراهيم غندور، بقوله: «لا يمكن استبعاد وجود أي ترتيبات عسكرية أخرى مع تركيا، لأننا وقعنا اتفاقا يمكن أن يؤدي إلى أي تعاون عسكري في البحر الأحمر». لتستكمل وجودها العسكري الذي بدأ بافتتاح الرئيس الصومالي محمد عبد الله فرماجو في سبتمبر (أيلول) 2017 قاعدتها العسكرية، والتي وُصفت بأنها (أكبر القواعد العسكرية التركية في العالم)، حيث تبلغ تكلفتها نحو 50 مليون دولار، وتضم القاعدة ثلاث مدارس تعليمية عسكرية، وثلاثة مجمعات سكنية ووحدات تعليمية يتدرب فيها نحو 1500 عسكري، ويمكن أن يرتفع الرقم إلى أكثر من 10 آلاف عسكري متدرب. مستكملا بذلك وجودها في المنطقة بعد قاعدتها العسكرية الأولى التي أنشئت في الدوحة في أبريل (نيسان) 2016.
5- يمثل الاتفاق خطوة في مسار التقارب بين الدول الثلاث بهدف زعزعة استقرار المنطقة، عبر تنسيقهم بشأن دعم قيادات جماعة الإخوان وعناصرها ، تمهيدا لنقلهم إلى السودان ثم لنقلهم بعد ذلك للداخل الليبي ومصر عبر الحدود الليبية مع السودان في محاولة لاسترجاع دور الميليشيات على الأرض في ليبيا، حيث يأتي هذا الاتفاق في ضوء توافق الدول الثلاث على دعم الميليشيات المسلحة في ليبيا بالسلاح والمال للاستفادة من وجودها، فضلا عن الاستفادة المالية للسودان من استمرار هذه الأوضاع، حيث أعلن الجيش الوطني الليبي كثيرا عن إحباط محاولات عدة لتهريب السلاح من السودان إلى ليبيا وأن القوات الليبية تمكنت من إنزال طائرة سودانية كانت تحمل شحنات سلاح للميليشيات غرب ليبيا، ليس هذا فقط؛ فبحسب المتحدث باسم القوات المسلحة الليبية في تصريحات له فإن العملات القطرية والتركية وجدت في بعض مواقع الميليشيات المسلحة عقب مداهماتها.
6- لم تكن هذه هي الاتفاقية الوحيدة الموقعة بين البلدين خلال تلك الزيارة، وإنما وصل عدد الاتفاقات الموقعة 22 اتفاقا تنوعت مجالاتها بين اقتصادية وتجارية وصناعية واجتماعية، من أبرزها: اتفاقية إنشاء مطار الخرطوم الجديد، واتفاقية تعاون بين مجلس الأعمال السوداني والتركي، وإنشاء صوامع للغلال بين شركة «زادنا» وشركة «سي تي إس»، واتفاقية إنشاء مسلخ الكدرو، واتفاقية في مجال صناعة الحديد والصلب والصناعات الحديدية، ومذكرة تعاون مشتركة في مجال الخدمات الصحية، ومذكرة تعاون تجارية بين شركتين سودانية وتركية، ومذكرة تفاهم في مجال التوليد الحراري للكهرباء، ومذكرة تعاون في مجال تصدير القطن. أخذا في الاعتبار أن التعاون بين البلدين لم يكن الأول من نوعه، بل سبقه توقيع بعض الاتفاقات المشتركة، كان من أبرزها الاتفاق الموقع في أبريل 2014 بتأسيس شركة مشتركة لتنفيذ المشاريع الزراعية برأسمال 10 ملايين دولار٬ يملك الجانب التركي 80 في المائة، منها والجانب السوداني 20 في المائة، والتي بموجبها تستأجر شركات تركية أراضي زراعية في 6 مناطق في السودان٬ تبلغ مساحتها 793 ألف هكتار٬ منها 12 ألفاً و500 هكتار تخصص للشركة المشتركة٬ والمساحة المتبقية يتم تأجيرها لشركات القطاع الخاص. ولكن رغم أهمية هذه الاتفاقات التي من شأنها أن تزيد حجم التجارة بين البلدين البالغ قرابة 500 مليون دولار حتى عام 2016، ليصل إلى 10 مليارات دولار، رغم أهمية هذه الاتفاقات، فإن من أبرز المجالات التي تمت الاتفاق بشأنها في هذا الخصوص والمرتبطة باتفاق جزيرة سواكن، مجالان: الأول، اتفاقهما الخاص بتشكيل مجلس التعاون الاستراتيجي رفيع المستوى. والثاني، اتفاقهما العسكري المتعلق بفتح السوق السودانية للأسلحة التركية، حيث صرح الرئيس التركي بأنه تم التوقيع على اتفاقية للصناعات الدفاعية دون أن يقدم أيضا أي تفاصيل حولها.

[caption id="attachment_55263167" align="aligncenter" width="960"]جانب من الأراضي المطلة على جزيرة سواكن جانب من الأراضي المطلة على جزيرة سواكن[/caption]
 

ثانياً: الموقف المصري رداً على الاتفاق التركي السوداني




ليست مبالغة أن نقول إن التحرك التركي الأخير تجاه السودان وتعزيز تعاونهما المشترك وخاصة في المجال العسكري على غرار ما سبق ذكره، لا يمكن النظر إليه بعيدا عن توتر العلاقات المصرية التركية لتدخلها في شؤون مصر الداخلية وإيوائها ودعمها قيادات وعناصر جماعة الإخوان، فضلا عن تقارب مصر مع جمهوريتي قبرص واليونان، بدءا من توقيعهم لحزمة من الاتفاقات متعلقة بترسيم الحدود البحرية بينهم، مرورا بمشاركة القوات المسلحة المصرية خلال العام المنصرم (2017) في مناورات عسكرية مشتركة مع اليونان في جزيرة «رودس» اليونانية، والتي استنكرتها تركيا بشدة ووصفتها بـ«غير القانونية»، وصولا إلى زيارة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، في 21 نوفمبر (تشرين الثاني) جزيرة قبرص اليونانية للمشاركة في أعمال القمة الخامسة بين مصر وقبرص واليونان، في أول زيارة رسمية لرئيس مصري إليها، وهي الزيارة التي أثارت حفيظة تركيا، ودفعت خارجية قبرص التركية إلى إعلان عدم الاعتراف بالاتفاقيات الثنائية الموقعة خلال الزيارة، وأصدرت بيانا جاء فيه: «نؤكد أنه من المستحيل الإقدام على أي خطوة فيما يتعلق بمصادر الطاقة في غياب ممثلين عن أتراك قبرص. لذلك حملنا على عاتقنا مسؤولية التذكرة بأن تركيا «الوطن الأم» تتخذ في مقابل ذلك خطوات كفيلة بالحفاظ على حقوقها وحقوق أتراك قبرص. ولذا، يأتي التحرك التركي تقاربا مع السودان كجزء من استراتيجية تركيا في الرد على السياسة المصرية، حيث سعت تركيا إلى البعث برسائل دبلوماسية إلى القاهرة فحواها دعم إردوغان للسودان في مطالبته بحلايب وشلاتين لتعميق الخلاف مع مصر، مثلما أعلن السيسي دعمه لقبرص اليونانية «في توحيد الجزيرة واستغلال ثرواتها الطبيعية في منطقتها الاقتصادية الخالصة». إلا أن ما فات تركيا أن القيادة المصرية أدركت أن التهديد القادم من الاتجاه الاستراتيجي الجنوبي لمصر، أصبح واضحا ولا يحتمل الشك أو التأويل. ولذا، فقد بدأت بخطوات استباقية متمثلة في الإعلان عن تشكيل الأسطول الجنوبي، ويحميه حاملة مروحيات من طراز ميسترال، وإنشاء قاعدة رأس بناس البحرية وإلى جانبها مطار برنيس الحربي - المدني المُشترك، وهو ما يشكل دلالة قوية على إدراك الدولة المصرية لحجم التهديدات النمطية وغير النمطية في اتجاهها الاستراتيجي الجنوبي (الدائرة النيلية ومنطقة القرن الأفريقي).
الأمر ذاته ينسحب على الجانب السعودي حيث يعتبر الوجود العسكري أو الأمني التركي في البحر الأحمر عامل قلق، إذ يكشف عن تحركات تركية في الدائرة المباشرة للأمن القومي السعودي الذي يعتبر وجود قاعدة عسكرية تركية في قطر أمرا غير مقبول، بل شكّل مطلب إغلاقها أحد المطالب الـ13 التي تقدمت بها الرباعية العربية إلى الدوحة، كشروط لإعادة العلاقات مع الأخيرة، فكيف يمكن القبول بقاعدة أخرى على الشاطئ الغربي للبحر الأحمر في موازاة ميناء جدة.

أضف إلى ذلك أن الأمر لم يقتصر على تعاون تركي سوداني فحسب، بل كان الحضور القطري عاملا إضافيا، حيث تسعى قطر إلى إيجاد مشروع تنافسي لمشروع قناة السويس ردا على المقاطعة العربية. ولذا، تحاول الدوحة إيجاد نفوذ قوي لها على البحر الأحمر، خاصة بعد خروجها عن قوات التحالف العربي في اليمن، حيث تم التوقيع على مذكرة تفاهم بين الشركة القطرية لإدارة الموانئ وميناء بورتسودان وسواكن لتطويرهما وجعلهما ميناءين رئيسيين لنقل البضائع والحجاج والسياح، وفي السياق ذاته، تم التوقيع على اتفاق تجاري بين شركة مواصلات قطر «كروة» وولاية الخرطوم لتوريد 505 حافلات إلى السودان.
وعليه، فقد اتخذت المملكة خطوة سريعة ردا على هذا الاتفاق بإرسال وفد عسكري برئاسة مساعد وزير الدفاع الفريق طيار ركن محمد عبد الله العايش، إلى السودان عقد خلالها لقاء مع وزير الدفاع السوداني ورئيس الأركان السوداني، للنظر فيما تم من تطورات يمكن أن تمثل تحولا في مواقف الطرف السوداني وتأثيرات ذلك سلبا على الأمن والاستقرار في المنطقة، وقد أكد وزير الدفاع السوداني على التزامات بلاده، وموقفها الثابت في عدم السماح بتهديد أمن المنطقة ودولها.

 

ثالثاً: اتحاد البلاد العربية المطلة على البحر الأحمر... رؤية نحو المواجهة




ليست مبالغة القول إن مواجهة هذا التحالف الثلاثي (التركي القطري السوداني) وإن تطلب تفهما حقيقيا لدوافع كل طرف، فإنه رغم ما يمثل من تهديد واضح فإن هذا التهديد لم تصل درجة خطورته إلى الحد الذي يتطلب عملا عدائيا تجاه السودان في هذا التوقيت تحديدا، صحيح أن السودان هي التي أفسحت المجال أمام هذا الوجود التركي القطري على الحدود المصرية وفي مواجهة الحدود السعودية، إلا أنه من الصحيح كذلك أن هذا التحالف ليس تحالفا استراتيجيا من الصعوبة تفكيكه، بل هو تحالف هش لن يحقق أهدافه أو مصالح أطرافه، وذلك لارتباط هذا التحالف الثلاثي بمواقف شخصية لحكام هذه الدول دون أن يكون ثمة مواقف شعبية مؤيدة أو مصالح استراتيجية حاكمة بل ربما تتعارض في كثير من الحالات مصالح هذه الأطراف، وهو ما يتضح فيما يلي:
- الموقف السوداني الذي يمثله الرئيس عمر البشير لا يعبر عن موقف شعبي مؤيد، فلم ينس السودانيون المجازر التي ارتكبها العثمانيون ضد أجدادهم خلال احتلالها منذ غزاها السلطان سليم الأول في القرن السادس عشر، وإنما يأتي هذا الموقف تعبيراً عن السياسة الخارجية السودانية منذ انقلاب عام 1989 والمعروف عنها التنقل المستمر بين التحالفات بالمنطقة. فالسؤال حول ضرورة عقد مثل هذا الاجتماع بين رؤساء أركان الجيوش الثلاثة رغم آلاف الأميال التي تفصل بين بلدانهم، تأتي إجابته في أن ما يجمعهم هو الاستقواء ببعضهم البعض في مواجهة الدول المعارضة لسياساتهم في المنطقة.
- الموقف القطري هو موقف أيضا غير مقبول من جانب الشعب القطري الرافض لسياسات حكومته سواء في خروجها عن المسار الخليجي المتناغم، أو في تحركاتها ضد المصالح العربية وتعاونها مع أطراف إقليمية ودولية تهدد الأمن والاستقرار في المنطقة.

- الموقف التركي الذي يمثله الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، لا يعبر هو الآخر عن نهج الدولة التركية بمختلف مؤسساتها الرافضة لكثير من سياساته الخارجية - ولعل محاولة الانقلاب الأخيرة ضده تعبير عن ذلك - الهادف من ورائها إلى استعادة حلم الخلافة العثمانية، إذ إن المدقق في طبيعة الاتفاق السوداني التركي الخاص بجزيرة سواكن تحديدا يخلص إلى هذا الاستنتاج، فالجزيرة تعود للعصر العثماني وضم ميناؤها مقر الحاكم العثماني لمنطقة جنوب البحر الأحمر بين عامي 1821 – 1885. وهو العصر الذي يريد إردوغان استعادته وترويجه، كونه شهد قوة دولته ومجدها.
مع الأخذ في الحسبان أن ما سبق لا يعني تراجع المخاطر والتحديات التي صاحبت الوجود التركي في القارة الأفريقية بصفة عامة، إذ إن ما سبق ذكره يتعلق بالاتفاق العسكري الثلاثي التركي السوداني القطري، وإنما يظل التمدد التركي سواء في القارة الأفريقية أو المنطقة العربية يحمل كثيرا من التحديات والتهديدات للأمن القومي العربي في مجمله وللأمن القومي المصري والسعودي على وجه الخصوص، الأمر الذي يتطلب استراتيجية مصرية - سعودية للمواجهة ليس فقط التمدد التركي وإنما كذلك التمدد الإيراني في الدائرتين المباشرتين لأمنهما القومي وهما الدائرة العربية والأفريقية، وفي هذا الخصوص، يُقترح أن يُسرع الجانبان المصري والسعودي لمواجهة هذه المخاطر بتأسيس منظمة أو اتحاد الدول العربية المطلة على البحر الأحمر، وتنبع أهمية هذا التنظيم أو الاتحاد من ثلاثة جوانب: الأول، أن البحر الأحمر هو الممر الاقتصادي الأهم في العالم، حيث ينقل 12 ألف سفينة شهريا منتجات تحمل نفط العالم بما يوازي مليون وثلاثة آلاف برميل يوميا. الثاني، أن البحر الأحمر يكاد يكون الممر المائي الوحيد في العالم رغم أهميته لا توجد بشأنه آلية مشتركة بين الدول المطلة عليه لتنظيم استغلاله اقتصاديا وتجاريا وضمان أمنه وسلامته. الثالث، أن مصر والسعودية من أهم الدول المطلة على البحر الأحمر، إذ إن السعودية صاحبة أطول ساحل على البحر في جانبه الشرقي، ومصر هي المنفذ المهم لربط البحر الأحمر بالبحر المتوسط عبر قناة السويس.
ومن هذا المنطلق، يظل التحرك المصري السعودي بتأسيس اتحاد أو منظمة لإدارة شؤون الملاحة والتجارة والاستغلال الاقتصادي وحماية أمن البحر الأحمر، هو المفتاح الرئيسي في مواجهة التمددات المهددة للأمن القومي العربي على وجه العموم وأمنهما القومي على وجه التحديد.

* باحث زائر بمركز الدراسات الاستراتيجية التابع لرئاسة جمهورية أذربيجان. مدير مركز الحوار للدراسات السياسية والإعلامية بالقاهرة.
font change